الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسائل وفوائد حول الذكر والدعاء
1 -
إذا عرفنا أن العبادة الدائمة للملائكة هي الذكر، قال تعالى:(يسبحون الليل والنهار لا يفترون) وإذا عرفنا أن الكون بما فيه في ذكر دائم، قال تعالى (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم)، إذا عرفنا هذا وهذا أدركنا محل الذكر في عبادة الله تعالى، ومن ههنا كانت دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلها ذكراً وتذكيراً، وبقدر ما يأخذ الإنسان حظه من الذكر والتذكر يأخذ حظه العظيم من دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولذلك فإنك تجد الأذكار والدعوات التي هي نوع ذكر تملأ ساحة حياة المسلم، فيوم المسلم مليء بالذكر، وعبادات المسلم ذكر وهي تساعد على إقامة الذكر وما من شيء في حياة المسلم إلا وهو مرتبط بذكر، وهكذا تجد الأذكار والدعوات ملابسة لكل حياة المسلم، بل إن كتاب الإسلام الذي هو القرآن ذكر، وما من موضوع من موضوعات الحياة إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم توجيه فيه يربطه بذكر، فهذه الصلاة ذكر، وربطت بها أذكار، وفي كل ما يحيط بالصلاة ما يعتبر ذكراً أو تذكيراً، فللطهارة أذكارها ولدخول المسجد أذكاره، والآذان ذكر وهو يرتبط بالذكر، وللقيام والركوع والسجود وغير ذلك من أفعال الصلاة أذكاره، وللنوم والاستيقاظ أذكارهما، ولدخول البيت والخروج منه أذكارهما، ولكل حالة تلابس الإنسان من مرض إلى كرب إلى غير ذلك أذكارها، ولكل مشهد أذكاره فللرعد ولسماع صوت الديك وللكسوف وهبوب الريح وانقضاض الكوكب ونزول الأمطار، لكل ذلك أذكاره، وللزكاة أذكارها وللصيام أذكاره وللحج أذكاره وللجهاد أذكاره وللسفر أذكاره وللطعام والشراب أذكارهما، وإذا تقابل المسلمون أو اجتمعوا فلذلك أذكار، وللنكاح أذكاره، وللطريق أذكاره، وللسوق أذكاره، وهناك الأذكار المطلقة وهناك الأذكار المقيدة، فالذكر يملأ ساحة الحياة بالنسبة للمسلم وكل ذكر له أثره الخاص على نفس المسلم، ومجموع الأذكار تهذب وتزكي ساحة النفس البشرية كلها، فلا عجب بعد ذلك إذا رأينا أنه ما من جزء من أجزاء هذا الكتاب إلا وللذكر فيه محل، ولا عجب إذا كان جزء الأذكار واسعاً، وإن مسلماً لا يتتبع ما ورد في الأذكار والدعوات لمقصر، وإن مسلماً لا يعتبر العلم بالأذكار والدعوات من أعظم العلوم لجاهل، وإن مسلماً لا يملأ حياته بالذكر بقدر المستطاع لمفرط.
ولقد كتبت الكتب الكثيرة في أذكار المسلم ومن أجلها: كتاب الأذكار للنووي رحمه الله وإذا كان هذا الكتاب جامعاً فقد جعلنا الأذكار والدعوات التي هي ألصق في موضوع مع موضوعها وجعلنا في هذا الجزء ما هو ألصق في موضوعه.
2 -
قارن بعضهم بين الذكر والدعاء وحاول أن يضع قواعد في المفاضلة بينهما ولا شك أن الذكر دعاء ضمني وأن الدعاء ذكر ضمني، وحيثما ورد نص يحض على ذكر في مقام فالذكر هو الأفضل، وحيثما ورد ندب إلى دعاء في مقام فالدعاء هو الأفضل، فإذا عرفنا حق كل مقام شرع فيه ذكر أو دعاء أو تلاوة قرآن وأعطينا لما شرع حقه، فما بقي من وقت يريد المسلم أن يملأه بذكر فالأفضل في حقه تلاوة القرآن ثم الذكر ثم الدعاء.
3 -
من كلام النووي رحمه الله في كتابه الأذكار حول الذكر والدعاء ما يلي: (12 - فما بعدها).
(من آداب الذكر):
ينبغي أن يكون الذاكر على أكمل الصفات، فإن كان جالساً في موضع استقبل القبلة وجلس متذللاً متخشعاً بسكينة ووقار مطرقاً رأسه، ولو ذكر على غير هذه الأحوال جاز ولا كراهة في حقه، لكن إن كان بغير عذر كان تاركاً للأفضل.
وينبغي أن يكون الموضع الذي يذكر فيه خالياً نظيفاً، فإنه أعظم في احترام الذكر والمذكور، ولهذا مدح الذكر في المساجد والمواضع الشريفة. وجاء عن الإمام الجليل أبي ميسرة رضي الله عنه قال: لا يذكر الله تعالى إلا في مكان طيب. وينبغي أيضاً أن يكون فمه نظيفاً، فإن كان فيه تغير أزاله بالسواك، وإن كان فيه نجاسة أزالها بالغسل بالماء، فلو ذكر ولم يغسلها فهو مكروه ولا يحرم، ولو قرأ القرآن وفمه نجس كره، وفي تحريمه وجهان لأصحابنا أصحهما لا يحرم.
وكما يستحب الذكر يستحب الجلوس في حلق أهله وقد تظاهرت الأدلة على ذلك.
(أحوال يكره فيها الذكر):
اعلم أن الذكر محبوب في جميع الأحوال إلا في أحوال ورد الشرع باستثنائها تذكر منها هنا طرفا إشارة إلى ما سواه مما سيأتي في أبوابه إن شاء الله تعالى. فمن ذلك أنه يكره الذكر حالة الجلوس على قضاء الحاجة، وفي حالة الجماع، وفي حالة الخطبة لمن يسمع صوت الخطيب، وفي القيام في الصلاة، بل يشتغل بالقراءة، وفي حالة النعاس، ولا يكره في الطريق ولا في الحمام، والله أعلم.
(التدبر في الذكر):
المراد من الذكر حضور القلب، فينبغي أن يكون هو مقصود الذاكر فيحرص على تحصيله، ويتدبر ما يذكر، ويتعقل معناه. فالتدبر في الذكر مطلوب كما هو مطلوب في القراءة لاشتراكهما في المعنى المقصود، ولهذا كان المذهب الصحيح المختار استحباب مد الذاكر قول: لا إله إلا الله لما فيه من التدبر، وأقوال السلف وأئمة الخلف في هذا مشهورة، والله أعلم.
(متى يستحب قطع الذكر):
في أحوال تعرض للذاكر يستحب له قطع الذكر بسببها ثم يعود إليه بعد زوالها: منها إذا سلم عليه رد اللام ثم عاد إلى الذكر، وكذا إذا عطس عنده عاطس شمته ثم عاد إلى الذكر، وكذا إذا سمع الخطيب، وكذا إذا سمع المؤذن أجابه في كلمات الأذان والإقامة ثم عاد إلى الذكر، وكذا إذا رأى منكراً أزاله، أو معروفاً أرشد إليه، أو مسترشداً أجابه ثم عاد إلى الذكر، وكذا إذا غلبه النعاس أو نحوه، وما أشبه هذا كله.
(التلفظ بالذكر في الصلاة):
اعلم أن الأذكار المشروعة في الصلاة وغيرها، واجبة كانت أو مستحبة لا يحسب شيء منها ولا يعتد به حتى يتلفظ به بحيث يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع لا عارض له.
(أحكام الذكر بالنسبة للمحدث والجنب والحائض):
أجمع العلماء على جواز الذكر بالقلب واللسان للمحدث والجنب والحائض والنفساء،
وذلك في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والدعاء وغير ذلك. ولكن قراءة القرآن حرام على الجنب والحائض والنفساء، سواء قرأ قليلاً أو كثيراً حتى بعض آية، ويجوز لهم إجراء القرآن على القلب من غير لفظ، وكذلك النظر في المصحف، وإمراره على القلب. قال أصحابنا: ويجوز للجنب والحائض أن يقولا عند المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون، وعند ركوب الدابة: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وعند الدعاء: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، إذا لم يقصدا به القرآن، ولهما أن يقولا: بسم الله والحمد لله، إذا لم يقصدا القرآن، سواء قصدا الذكر أو لم يكن لهما قصد، ولا يأثمان إلا إذا قصدا القرآن، ..
وأما إذا قالا لإنسان: خذ الكتاب بقوة، أو قالا: ادخلوها بسلام آمنين، ونحو ذلك، فإن قصدا غير القرآن لم يحرم، وإذا لم يجدا الماء تيمما وجاز لهما القراءة، فإن أحدث بعد ذلك لم تحرم عليه القراءة كما لو اغتسل ثم أحدث. ثم لا فرق بين أن يكون تيممه لعدم الماء في الحضر أو في السفر، فله أن يقرأ القرآن بعده وإن أحدث.
ولو تيمم الجنب ثم رأى ماءً يلزمه استعماله فإنه يحرم عليه القراءة وجميع ما يحرم على الجنب حتى يغتسل. ولو تيمم وصلى وقرأ ثم أراد التيمم لحدث أو لفريضة أخرى أو لغير ذلك لم تحرم عليه القراءة.
هذا هو المذهب الصحيح المختار
…
أما إذا لم يجد الجنب ماءً ولا تراباً فإنه يصلي لحرمة الوقت على حسب حاله، وتحرم عليه القراءة خارج الصلاة، ويحرم عليه أن يقرأ في الصلاة ما زاد على الفاتحة.
وهل تحرم الفاتحة؟ فيه وجهان: أصحهما لا تحرم بل تجب، فإن الصلاة لا تصح إلا بها، وكما جازت الصلاة للضرورة تجوز القراءة. والثاني تحرم بل يأتي بها من لا يحسن شيئاً من القرآن. وهذه فروع رأيت إثباتها هنا لتعلقها بما ذكرته فذكرها مختصرة وإلا فلها تتمات وأدلة مستوفاة في كتب الفقه، والله أعلم.
(الذكر بالقلب واللسان):
الذكر يكون بالقلب، ويكون باللسان، والأفضل منه ما كان بالقلب واللسان جميعاً، فإن اقتصر على أحدهما فالقلب أفضل. ثم لا ينبغي أن يترك الذكر باللسان مع القلب خوفاً من أن يظن به الرياء، بل يذكر بهما جميعاً ويقصد به وجه الله تعالى وقد قدمنا عن "الفضيل" رحمه الله أن ترك العمل لأجل الناس رياء، ولو فتح الإنسان عليه باب ملاحظة الناس، والاحتراز من تطرق ظنونهم لانسد عليه أكثر أبواب الخير، وضيع على نفسه شيئاً عظيماً من مهمات الدين، وليس هذا طريقة العارفين.
(عموم الذكر):
اعلم أن فضيلة الذكر غير منحصرة في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ونحوها، بل كل عامل لله تعالى بطاعة فهو ذاكر لله تعالى، كذا قاله سعيد بن جبير رضي الله عنه وغيره من العلماء. وقال عطاء رحمه الله: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام، كيف تشتري وتبيع وتصلي وتصوم وتنكح تطلق وتحج وأشباه هذا. ا. هـ النووي.
4 -
يستحب استفتاح الدعاء بحمد الله تعالى والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم كما يستحب أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في أوسطه وآخره، ويستحب تكرير الدعاء، وأن يدعو الإنسان لأخيه بظهر الغيب، ولا ينبغي للداعي أن يستعجل الإجابة، قال الغزالي في "الإحياء":
آداب الدعاء عشرة: الأول أن يترصد الأزمان الشريفة كيوم عرفة وشهر رمضان ويوم الجمعة والثلث الأخير من الليل ووقت الأسحار. الثاني أن يغتنم الأحوال الشريفة كحالة السجود والتقاء الجيوش ونزول الغيث وإقامة الصلاة وبعدها. قال النووي: وحالة رقة القلب.
الثالث استقبال القبلة ورفع اليدين ويمسح بهما وجهه في آخره. الرابع خفض الصوت بين المخافتة والجهر. الخامس أن لا يتكلف السجع وقد فسر به الاعتداء في الدعاء، والأولى أن يقتصر على الدعوات المأثورة، فما كل أحد يحسن الدعاء فيخاف عليه الاعتداء. وقال بعضهم: ادع بلسان الذلة والافتقار، لا بلسان الفصاحة والانطلاق، ويقال: إن العلماء والأبدال لا يزيدون في الدعاء على سبع كلمات ويشهد له ما ذكره الله سبحانه وتعالى في آخر سورة البقرة: (ربنا لا تؤاخذنا) إلى آخرها، لم يخبر سبحانه في موضع عن أدعية
عباده بأكثر من ذلك. قلت: ومثله قول الله سبحانه وتعالى في سورة إبراهيم صلى الله عليه وسلم: (وإذ قال إبراهيم: رب اجعل هذا البلد آمنا) إلى آخره. قلت: والمختار الذي عليه جماهير العلماء أنه لا حجر في ذلك، ولا تكره الزيادة على السبع، بل يستحب الإكثار من الدعاء مطلقاً. السادس التضرع والخضوع والرهبة، قال الله تعالى {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) وقال تعالى {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً). السابع أن يجزم بالطلب ويوقن بالإجابة ويصدق رجاءه فيها، ودلائله كثيرة مشهورة. قال سفيان بن عيينة رحمه الله: لا يمنعن أحدكم من الدعاء ما يعلمه من نفسه، فإن الله تعالى أجاب شر المخلوقين إبليس إذ قال (رب أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين) الثامن أن يلح في الدعاء ويكرره ثلاثاً ولا يستبطئ الإجابة. التاسع أن يفتتح الدعاء بذكر الله تعالى. قلت: وبالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحمد لله تعالى والثناء عليه، ويختمه بذلك كله أيضاً. العاشر وهو أهمها والأصل في الإجابة، وهو التوبة ورد المظالم والإقبال على الله تعالى.
5 -
ويستحب للإنسان إذا وقع في شدة أن يتوسل إلى الله بصالح عمله، ويستحب للداعي أن يرفع يديه في الدعاء ثم يمسح بهما وجهه، قال النووي رحمه الله في كتابه الأذكار (355):
وروينا في كتاب الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه".
وروينا في سنن أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وفي إسناد كل واحد ضعف. وأما قول الحافظ عبد الحق رحمه الله تعالى: إن الترمذي قال في الحديث الأول: إنه حديث صحيح، فليس في النسخ المعتمدة من الترمذي أنه صحيح، بل قال: حديث غريب.
هذا وقد اشتد بعض العلماء على من يمسح بيديه وجهه بعد الدعاء وجعل الأحاديث الواردة في ذلك على تعدد طرقها ضعيفة جداً وأن طرقها لا تقوي بعضها مع أن البيهقي والنووي لم يذكرا إلا أن فيها ضعفاً ونقلوا عن العز بن عبد السلام قوله: لا يمسح وجهه
بيديه عقب الدعاء إلا جاهل قال في الفتوحات الربانية (7/ 258) هذا محمول على أنه لم يطلع على هذه الأحاديث. ا. هـ.
والحديث مروي عند الترمذي من طريق حماد بن عيسى الجهني قال ابن معين شيخ صالح وضعفه الآخرون فلم يكتف من جعل الأحاديث ضعيفة جداً بهذا بل جعل حماد بن عيسى ضعيفاً جداً، وأعتقد أن في هذا تشدداً في غير محله، هذا خارج الصلاة أما فيها:
قال البيهقي (2/ 212):
"فأما مسح اليدين بالوجه عند الفراغ من الدعاء فلست أحفظه عن أحد من السلف في دعاء القنوت، وإن كان يروي عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة، وقد روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث فيه ضعف، وهو مستعمل عند بعضهم خارج الصلاة؛ وأما في الصلاة فهو عمل لم يثبت بخبر صحيح، ولا أثر ثابت، ولا قياس، فالأولى أن لا يفعله، ويقتصر على ما فعله السلف رضي الله عنهم من رفع اليدين دون مسحهما بالوجه في الصلاة".
وقال المناوي (5/ 138): ففعل ذلك سنة كما جرى عليه جمع شافعية منهم النووي في "التحقيق" تمكساً بعدة أخبار هذا منها- أي إذا رفع يديه
…
- وهي وإن ضعفت أسانيدها تقوت بالاجتماع فقوله في المجموع لا يندب تبعاً لابن عبد السلام وقال لا يفعله إلا جاهل في حيز المنع
…
ا. هـ.
أقول: من هنا يتبين أن هذا الفعل يخرج عن حد البدعة في حده الأدنى والله أعلم.
6 -
استحباب الدعاء، وأيهما أفضل الدعاء أم السكوت والرضا؟، قال النووي رحمه الله:
اعلم أن المذهب المختار الذي عليه الفقهاء والمحدثون وجماهير العلماء من الطوائف كلها من السلف والخلف: أن الدعاء مستحب، قال الله تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} والآيات في ذلك كثيرة مشهورة.
وأما الأحاديث الصحيحة فهي أشهر من أن تشهر، وأظهر من أن تذكر، وقد ذكرنا
قريباً في الدعوات ما فيه أبلغ كفاية، وبالله التوفيق.
وروينا في رسالة الإمام أبي القاسم القشيري رضي الله عنه قال: اختلف الناس في أن الأفضل الدعاء أم السكوت والرضا؟ فمنهم من قال: الدعاء عبادة للحديث السابق "الدعاء هو العبادة" ولأن الدعاء إظهار الافتقار إلى الله تعالى. وقالت طائفة: السكوت والخمود تحت جريان الحكم أتم، والرضا بما سبق به القدر أولى. وقال قوم: يكون صاحب دعاء بلسانه ورضا بقلبه ليأتي بالأمرين جميعاً. قال القشيري: والأولى أن يقال الأوقات مختلفة، ففي بعض الأحوال الدعاء أفضل من السكوت وهو الأدب، وفي بعض الأحوال السكوت أفضل من الدعاء وهو الأدب، وإنما يعرف ذلك بالوقت، فإذا وجد في قلبه إشارة إلى الدعاء فالدعاء أولى به، وإذا وجد إشارة إلى السكوت فالسكوت أتم. قال: ويصح أن يقال ما كان للمسلمين فيه نصيب، أو لله سبحانه وتعالى فيه حق، فالدعاء أولى لكونه عبادة، وإن كان لنفسك فيه حظ فالسكوت أتم. قال: ومن شرائط الدعاء أن يكون مطمعه حلالاً. وكان يحيى بن معاذ الرازي رضي الله عنه يقول: "كيف أدعوك وأنا عاصٍ؟ وكيف لا أدعوك وأنت كريم"؟
ومن آدابه حضور القلب، وسيأتي دليله إن شاء الله تعالى. وقال بعضهم: المراد بالدعاء إظهار الفاقة، وإلا فالله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء.
وقال الغزالي: "فإن قيل فما فائدة الدعاء مع أن القضاء لا مرد له؟، فاعلم أن من جملة القضاء رد البلاء بالدعاء، فالدعاء سبب لرد البلاء ووجود الرحمة، كما أن الترس سبب لدفع السلاح، والماء سبب لخروج النبات من الأرض فكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان، فكذلك الدعاء والبلاء، وليس من شرط الاعتراف بالقضاء أن لا يحمل السلاح، وقد قال الله تعالى (وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم) فقدر الله تعالى الأمر وقدر سببه.
7 -
يستحب دعاء الإنسان لمن أحسن إليه، قال النووي رحمه الله:
روينا في الترمذي عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيراً، فقد أبلغ في الثناء" قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وقد قدمنا قريباً في كتاب حفظ اللسان في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه".
8 -
يستحب طلب الدعاء من أهل الفضل وإن كان الطالب أفضل من المطلوب منه، ويستحب الدعاء في المواضع الشريفة، قال النووي رحمه الله:
اعلم أن الأحاديث في هذا الباب أكثر من أن تحصر، وهو مجمع عليه، ومن أدل ما يستدل به ما روينا في كتابي أبي داود والترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال "استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة، فأذن وقال: "لا تنسنا يا أخي من دعائك، فقال كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا" وفي رواية قال:"أشركنا يا أخي في دعائك" قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقد ذكرناه في أذكار المسافر.
9 -
لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء على النفس والولد والخادم والمال ونحوها، قال النووي رحمه الله:
روينا في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على خدمكم ولا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله ساعة نيل فيها عطاء فيستجاب منكم" قلت: نيل بكسر النون وإسكان الياء، ومعناه: ساعة إجابة ينال الطالب فيها ويعطى مطلوبه.
وروى مسلم هذا الحديث في آخر صحيحه وقال فيه: "لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله تعالى ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم".
10 -
حكم التسليم والصلاة على غير الأنبياء والترضي والترحم على الصحابة وأتباعهم، قال النووي رحمه الله:
أجمعوا على الصلاة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك أجمع من يعتد به على جوازها
واستحبابها على سائر الأنبياء والملائكة استقلالاً. وأما غير الأنبياء فالجمهور على أنه لا يصلي عليهم ابتداء، فلا يقال: أبو بكر صلى الله عليه وسلم. واختلف في هذا المنع، فقال بعض أصحابنا: هو حرام، وقال أكثرهم: مكروه كراهة تنزيه، وذهب كثير منهم إلى أنه خلاف الأولى وليس مكروهاً، والصحيح الذي عليه الأكثرون أنه مكروه كراهة تنزيه لأنه شعار أهل البدع، وقد نهينا عن شعارهم. والمكروه هو ما ورد فيه نهي مقصود. قال أصحابنا: والمعتمد في ذلك أن الصلاة صارت مخصوصة في لسان السلف بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، كما أن قولنا: عز وجل، مخصوص بالله سبحانه وتعالى، فكما لا يقال: محمد عز وجل وإن كان عزيزاً جليلاً- لا يقال: أبو بكر أو علي صلى الله عليه وسلم وإن كان معناه صحيحاً. واتفقوا على جواز جعل غير الأنبياء تبعاً لهم في الصلاة، فيقال: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، وأصحابه، وأزواجه وذريته، وأتباعه، للأحاديث الصحيحة في ذلك؛ وقد أمرنا به في التشهد، ولم يزل السلف عليه خارج الصلاة أيضاً. وأما السلام فقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا: هو في معنى الصلاة فلا يستعمل في الغائب، فلا يفرد به غير الأنبياء، فلا يقال: علي عليه السلام؛ وسواء في هذا الأحياء والأموات. وأما الحاضر فيخاطب به فيقال: سلام عليك، أو: سلام عليكم، أو: السلام عليك، أو: عليكم؛ وهذا مجمع عليه، وسيأتي إيضاحه في أبوابه إن شاء الله تعالى.
يستحب الترضي والترحم على الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء والعباد وسائر الأخيار، فيقال: رضي الله عنه، أو رحمه الله ونحو ذلك. وأما ما قاله بعض العلماء إن قوله رضي الله عنه مخصوص بالصحابة، ويقال في غيرهم: رحمه الله فقط، فليس كما قال، ولا يوافق عليه، بل الصحيح الذي عليه الجمهور استحبابه، ودلائله أكثر من أن تحصر، فإن كان المذكور صحابياً ابن صحابي قال: قال ابن عمر رضي الله عنهما، وكذا ابن عباس، وابن الزبير، وابن جعفر، وأسامة بن زيد ونحوهم، لتشمله وأباه جميعاً.
فإن قيل: إذا ذكر لقمان ومريم هل يصلي عليهما كالأنبياء، أم يترضى كالصحابة والأولياء، أم يقول عليهما السلام؟ فالجواب أن الجماهير من العلماء على أنهما ليسا نبيين، وقد شذ من قال: نبيان، ولا التفات إليه، ولا تعريج عليه، وقد أوضحت ذلك في
كتاب "تهذيب الأسماء واللغات" فإذا عرف ذلك، فقد قال بعض العلماء كلاماً يفهم منه أنه يقول: قال لقمان أو مريم صلى الله على الأنبياء وعليه أو وعليهما وسلم، قال: لأنهما يرتفعان عن حال من يقال: رضي الله عنه، لما في القرآن مما يرفعهما، والذي أراه أن هذا لا بأس به، وأن الأرجح أن يقال: رضي الله عنه أو عنها، لأن هذا مرتبة غير الأنبياء ولم يثبت كونهما نبيين. وقد نقل إمام الحرمين إجماع العلماء على أن مريم ليست نبية- ذكره في الإرشاد- ولو قال: عليه السلام، أو عليها، فالظاهر أنه لا بأس به، والله أعلم. اهـ.