الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
«من يُحرم الرفق يُحرم الخير» (1).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أُعطيَ حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حُرِمَ حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير» (2) وعنه رضي الله عنه يبلغ به قال: «من أُعطي حظَّه من الرفق أُعطي حظَّه من الخير، وليس شيء أثقل في الميزان من الخُلُق الحسن» (3).
المثال الثالث: مع من بال في المسجد:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد،
(1) المرجع السابق، في الكتاب والباب المشار إليهما سابقاً عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه 4/ 2003، برقم 2592.
(2)
أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الرفق 4/ 367، برقم 2013، وقال حديث حسن صحيح، وانظر: صحيح الترمذي 2/ 195.
(3)
أخرجه أحمد في المسند 6/ 451، انظر: الأحاديث الصحيحة للألباني رقم 876، فقد ذكر له شواهد كثيرة.
فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَه مَهْ (1) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزرموه (2) دعوه"، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له:"إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر الله، والصلاة وقراءة القرآن"، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فأمر رجلًا من القوم فجاء بِدَلْوٍ من ماءٍ فشنَّه (3) عليه» (4).
وقد ثبت في البخاري وغيره أن هذا الرجل هو الذي
(1) مه: كلمة زجر، وهو اسم مبني على السكون، معناه: اسكت. وقيل: أصلها: ما هذا؟ انظر: شرح النووي 3/ 193.
(2)
لا تزرموه: أي لا تقطعوا عليه بوله. والإزرام: القطع. انظر: المرجع السابق 3/ 190.
(3)
شنه: أي صبه عليه. انظر: المرجع السابق 3/ 193.
(4)
أخرجه مسلم بلفظه في كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد وأن الأرض تطهر بالماء من غير حاجة إلى حفرها 1/ 236، برقم 285، والبخاري مع الفتح، بمعناه مختصراً في كتاب الوضوء، باب ترك النبي صلى الله عليه وسلم والناس الأعرابي حتى فرغ من بوله في المسجد 1/ 322، برقم 219، وروايات بول الأعرابي في البخاري مع الفتح في عدة مواضع 1/ 223، 10/ 449، 10/ 525.
قال: (اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحداً)، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:«قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: "لقد حجرت واسعاً" يريد رحمة الله» (1).
وتُفسِّر هذه الرواية الروايات الأخرى عند غير البخاري، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:«دخل رجل أعرابي المسجد فصلى ركعتين ثم قال: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحداً! فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لقد تحجَّرت واسعًا"، ثم لم يلبث أن بال في المسجد، فأسرع الناس إليه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما بُعثتم مُيسِّرين، ولم تُبعثوا مُعسِّرين، أهريقوا عليه دلوًا من ماء، أو سجلًا من ماء» (2).
(1) البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم 10/ 438، برقم 6010.
(2)
أخرجه الترمذي بنحوه في كتاب الطهارة، باب ما جاء في البول يصيب الأرض 1/ 275، برقم 147، وأخرجه أحمد في المسند بترتيب أحمد شاكر واللفظ =
…
= لأحمد 12/ 244، برقم 7254، وأخرجه أحمد أيضاً مطولاً 20/ 134 برقم 10540، وأبو داود مع العون 2/ 39.
قال: يقول الأعرابي بعد أن فقه: «فقام النبي صلى الله عليه وسلم إليَّ بأبي وأمي فلم يسبَّ، ولم يؤنِّبْ، ولم يضرب» (1).
النبي صلى الله عليه وسلم أحكم خلق الله، فمواقفه وتصرفاته كلها مواقف حكمة مشرفة، ومن وقف على أخلاقه ورفقه وعفوه وحلمه، ازداد يقينه وإيمانه بذلك.
وهذا الأعرابي قد عمل أعمالًا تثير الغضب، وتسبب عقوبته وتأديبه من الحاضرين؛ ولذلك قام الصحابة إليه، واستنكروا أمره، وزجروه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطعوا عليه بوله.
وهذا في غاية الرفق والحلم والرحمة، ويجمع ذلك كله الحكمة، فقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم بالحكمة على هذا الأعرابي
(1) أخرجه أحمد في المسند بترتيب أحمد شاكر وهو تكملة للحديث السابق من رواية أبي هريرة رضي الله عنه 20/ 134، برقم 10540، وابن ماجه 1/ 175، برقم 529، 530.
عمله، فقال له حينما قال:(اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحداً): «لقد تحجرت واسعًا» ، يريد صلى الله عليه وسلم رحمة الله، فإن رحمة الله قد وسعت كل شيء، قال عز وجل:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، فقد بخل هذا الأعرابي برحمة الله على خلقه.
وقد أثنى الله عز وجل على من فعل خلاف ذلك حيث قال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10]
وهذا الأعرابي قد دعا بخلاف ذلك فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالرِّفق واللين والرحمة (1).
وحينما بال في المسجد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركه؛ لأنه قد شرع في المفسدة، فلو منع ذلك لزادت المفسدة، وقد حصل تلويث
(1) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري 10/ 439.
جزء من المسجد، فلو منعه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لدار بين أمرين:
إما أن يقطع عليه بوله فيتضرر الأعرابي بحبس البول بعد خروجه.
وإما أن يقطعه فلا يأمن من تنجيس بدنه، أو ثوبه، أو مواضع أخرى من المسجد.
فأمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم بالكف عنه للمصلحة الراجحة، وهي دفع أعظم المفسدتين أو الضررين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما (1).
وهذا من أعظم الحكم العالية، فقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم هذه المصالح، وما يقابلها من المفاسد، ورسم صلى الله عليه وسلم لأمته والدعاة من بعده كيفية الرفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف، ولا سبٍّ ولا إيذاء ولا تشديد، إذا لم يكن ذلك منه عنادًا ولا استخفافًا، وقد كان لهذا
(1) انظر: فتح الباري، شرح صحيح البخاري 1/ 325، وشرح النووي على مسلم 3/ 191.