الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا موقف من أعظم مواقف الصبر والحكمة التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم، فهو قد ثبت وصدق في دعوته، ولم يرد مالًا، ولا جاهًا، ولا ملكًا، ولا نكاحًا، من أجل أن يتخلى عن دعوته، وقد اختار الكلام المناسب في الموضع المناسب، وهذا هو عين الحكمة والخلق الحسن العظيم.
المثال الرابع: مع أبي جهل:
قرر المشركون ألا يألو جهدًا في محاربة الإسلام وإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم ومن دخل معه في الإسلام، والتعرض لهم بألوان النكال والإيلام.
ومنذ جهر النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته إلى الله، وبيَّن أباطيل الجاهلية، انفجرت مكة بمشاعر الغضب، وظلت عشرة أعوام تعدُّ المسلمين عصاة ثائرين فزلزلت الأرض من تحت أقدامهم، واستباحت في الحرم الآمن دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وصاحبت هذه النار المشتعلة
حرب من السخرية والتحقير، والاستهزاء والتكذيب، وتشويه تعاليم الإسلام، وإثارة الشبهات، وبث الدعايات الكاذبة، ومعارضة القرآن، والقول بأنه أساطير الأولين، ومحاولة المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم عامًا، ويعبدون الله عاماً! إلى غير ذلك من مفاوضاتهم المضحكة!
واتهموا النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون، والسحر، والكذب والكهانة، والنبي صلى الله عليه وسلم ثابت صابر محتسب يرجو من الله النصر لدينه، وإظهاره (1).
لقد نال المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم ما لم ينالوه من كثير من المؤمنين، فهذا أبو جهل يعتدي على النبي صلى الله عليه وسلم ليعفر وجهه في التراب، ولكن الله حماه منه، ورد كيده في نحره، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال أبو جهل: هل يُعَفِّر محمد
(1) انظر: فقه السيرة لمحمد الغزالي ص106، والرحيق المختوم ص80، 82، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 2/ 85، 88، 91، 93، 94، وهذا الحبيب يا محبّ ص110.
وجهه بين أظهركم؟ قال: قيل: نعم. فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، أو لأُعَفِّرنَّ وجهه في التراب، قال: فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، زعم ليطأ على رقبته. قال: فما فجئهم (1) منه إلا وهو ينكص على عقبيه (2) ويتقي بيديه، قال: فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار، وهولًا، وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضواً". قال: فأنزل الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} [العلق: 6] إلى آخر السورة.» (3)
وقد عصم الله النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الطاغية ومن غيره، وصبر على هذا الأذى العظيم ابتغاء وجه الله - تعالى -، فضحَّى بنفسه وماله ووقته في سبيل الله تعالى.
(1) ويقال أيضاً: فجأهم، أي بغتهم. انظر: شرح النووي 17/ 140.
(2)
يرجع يمشي إلى ورائه. انظر: المرجع السابق 7/ 140.
(3)
أخرجه مسلم في كتاب المنافقين، باب قوله تعالى:{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} 4/ 2154، برقم 2797، وانظر: شرح النووي 17/ 140.