الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثلاثون
من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت
قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]. {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34]. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]. {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ - وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26 - 27].
مات محمد بن عبد الله أفضل الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم «وكان آخر كلمة تكلم بها عند الغرغرة كما قالت عائشة رضي الله عنها: أنه كان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء، فجعل يدخل يديه صلى الله عليه وسلم في الماء فيمسح بها وجهه ويقول:
"لا إله إلا الله إن للموت سكرات" ثم نصب يده فجعل يقول: "في الرفيق الأعلى" حتى قبض ومالت يده» (1)«فكان آخر كلمة تكلم بها: "اللهم في الرفيق الأعلى» (2).
وعن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسُّنح (3) فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: وقال: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك، وليبعثنَّه الله فليقطع أيدي رجال وأرجلهم (4) فجاء أبو بكر رضى الله عنه [على فرسه من مسكنه بالسُّنْح حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة رضي الله عنها فتيمم (5) رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) البخاري برقم 890 وما بعدها من المواضع، ومسلم 2444.
(2)
البخاري برقم 4437، 463، ومسلم 2444.
(3)
السُّنح: العالية وهو مسكن زوجة أبي بكر رضي الله عنه وهو منازل بني الحارث من الخزرج بينه وبين المسجد النبوي ميل. الفتح 8/ 145 و7/ 19، 29.
(4)
أي يبعثه في الدنيا ليقطع أيدي القائلين بموته. انظر: الفتح 7/ 29.
(5)
أي قصد. الفتح 3/ 115.
وهو مغشَّى بثوب حِبرة (1) فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبَّله (2)[ثم بكى] فقال: بأبي أنت وأمي [يا نبي الله][طبت حيًّا وميتًا والذي نفسي بيده][لا يجمع الله عليك موتتين](3)
[أبدًا][أما الموتة التي كُتبت عليك قد مُتَّها][ثم] خرج وعمر رضى الله عنه يكلم الناس فقال: [أيها الحالف على رسلك][اجلس][فأبى فقال: اجلس فأبى][فتشهد أبو بكر][فلما تكلم أبو بكر جلس عمر] [ومال
(1) وفي رواية للبخاري: وهو مسجَّى ببرد حبرة. البخاري برقم 1241، ومعنى مغشى ومسجى أي مغطى، وبرد حبرة: نوع من برود اليمن مخططة غالية الثمن. الفتح 3/ 115.
(2)
أي قبّله بين عينيه كما ترجم له النسائي. انظر: الفتح 3/ 115، وانظر: ما نقله ابن حجر من الروايات في أنه قبّل جبهته. الفتح 8/ 147.
(3)
قوله: لا يجمع الله عليك موتتين: فيه أقوال: قيل هو على حقيقته وأشار بذلك إلى الرد على من زعم أنه سيحيا فيقطع أيدي رجال .. ؛ لأنه لو صح ذلك للزم أن يموت موتة أخرى .. وهذا أوضح الأجوبة وأسلمها، وقيل أراد لا يموت موتة أخرى في القبر كغيره إذ يحيا ليسئل ثم يموت، وهذا أحسن من الذي قبله؛ لأن حياته صلى الله عليه وسلم لا يعقبها موت بل يستمر حيّاً والأنبياء حياتهم برزخية لا تأكل أجسادهم الأرض، ولعل هذا هو الحكمة في تعريف الموتتين
…
أي المعروفتين المشهورتين الواقعتين لكل أحد غير الأنبياء. انظر: فتح الباري 3/ 114 و7/ 29 ..
إليه الناس وتركوا عمر] [فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه] وقال: [أما بعد فمن كان منكم يعبد محمدًا صلى الله عليه وسلم فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت، قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144][فوالله لكأن الناس لم يكونوا يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر رضى الله عنه فتلقاها منه الناس كلهم فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها][وأخبر سعيد بن المسيب] [أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت (1) حتى ما تقلني رجلاي وحتى أهويت إلى
(1) عقِرت: دهشت وتحيرت، أما بضم العين فالمعنى هلكت. الفتح 8/ 146.
الأرض حين سمعته تلاها علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات] [قال: ونشج الناس (1) يبكون، واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا: منَّا أمير ومنكم أمير (2) فذهب إليهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح، فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني قد هيَّأت كلامًا قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر.
ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس فقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فقال حباب بن المنذر: لا والله لا نفعل منَّا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: لا ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء، هم أوسط العرب دارًا وأعربهم
(1) نشج الناس: بكوا بغير انتحاب، والنشج ما يحصل للباكي من الغصة. انظر: الفتح 7/ 30.
(2)
إنما قالت الأنصار رضي الله عنهم: منا أمير ومنكم أمير على ما عرفوه من عادة العرب أنه لا يتأمر على القبيلة إلا من يكون منها فلما سمعوا حديث الأئمة من قريش رجعوا إلى ذلك وأذعنوا. الفتح 7/ 32.
أحسابًا (1) فبايعوا عمر أو أبا عبيدة فقال عمر: بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس، فقال قائل: قتلتم سعد بن عبادة، فقال عمر: قتله الله «(2).
قالت عائشة رضي الله عنها: في شأن خطبة أبي بكر وعمر في يوم موت النبي صلى الله عليه وسلم: فما كان من خطبتهما من خطبة إلا نفع الله بها، فلقد خوَّف عمر الناس وإن فيهم لنفاقًا فردهم الله بذلك، ثم لقد بصَّر أبو بكر الناس الهُدى وعرَّفهم الحق الذي عليهم وخرجوا به يتلون {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]. (3)
(1) أي قريش. انظر: الفتح 7/ 30.
(2)
البخاري برقم 1141، 142، 3/ 113، و3667، 3668، 7/ 19 و4452، 4453، 4454، 8/ 145. وقد جمعت هذه الألفاظ من هذه المواضع لتكتمل القصة وأسأل لله أن يجعل ذلك صواباً.
(3)
البخاري برقم 3669، 3671، والآية من سورة آل عمران، 144.
وخطب عمر ثم أبو بكر يوم الثلاثاء خطبة عظيمة مفيدة نفع الله بها والحمد لله.
قال أنس بن مالك رضى الله عنه: لما بويع أبو بكر في السقيفة وكان الغد جلس أبو بكر على المنبر، وقام عمر فتكلم قبل أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس إني كنت قلت لكم بالأمس مقالة (1) ما كانت وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهدًا عهدها إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا - يقول: يكون آخرنا - وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي هدى به رسول الله، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه الله له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثاني اثنين إذ هما في الغار فقوموا فبايعوه، فبايع الناس أبا بكر رضى الله عنه البيعة العامة بعد بيعة السقيفة. ثم تكلم أبو بكر، فحمد الله
(1) هي خطبته التي خطب يوم الاثنين حينما قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت.
وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: (أما بعد، أيها الناس فإني وليت عليكم ولست بخيركم (1) فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف منكم قوي عندي حتى أزيح علته (2) إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ منه الحق إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا يشيع قوم قط الفاحشة إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله) (3) ثم استمر الأمر لأبي بكر والحمد لله.
وقد بُعِثَ صلى الله عليه وسلم فبقي بمكة يدعو إلى التوحيد ثلاث
(1) وهذا من باب التواضع منه رضي الله عنه وإلا فهم مجمعون على أنه أفضلهم وخيرهم رضي الله عنه. البداية والنهاية 5/ 248.
(2)
والمعنى: الضعيف فيكم قوي حتى آخذ الحق له وأنصره وأعينه.
(3)
البداية والنهاية 5/ 248 وساق سند محمد بن إسحاق قال: حدثني الزهري، حدثني أنس بن مالك قال: لما بويع أبو بكر
…
الحديث. قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح 5/ 248.
عشرة سنة يُوحى إليه، ثم هاجر إلى المدينة وبقي بها عشر سنين، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة صلى الله عليه وآله وسلم (1).
ورجَّح الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى أن آخر صلاة صلاها صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضي الله عنهم هي صلاة الظهر يوم الخميس، وقد انقطع عنهم عليه الصلاة والسلام يوم الجمعة، والسبت، والأحد، وهذه ثلاثة أيام كوامل (2).
وبعد موته صلى الله عليه وسلم وخطبة أبي بكر رضى الله عنه دارت مشاورات - كما تقدم - وبايع الصحابة رضي الله عنهم أبا بكر في سقيفة بني ساعدة، وانشغل الصحابة ببيعة الصديق بقية يوم الاثنين، ويوم الثلاثاء، ثم شرعوا في تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) وغُسل من أعلى ثيابه، وكفن في ثلاثة أثواب بيض
(1) انظر: البخاري مع الفتح 8/ 15 برقم 4466، وفتح الباري 8/ 151 مختصر الشمائل للترمذي للألباني ص192.
(2)
انظر: البداية والنهاية لابن كثير، 5/ 235.
(3)
انظر: المرجع السابق 5/ 245.
سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة، ثم صلى عليه الناس فرادى لم يؤمهم أحد، وهذا أمر مجمع عليه: صلى عليه الرجال، ثم الصبيان، ثم النساء، والعبيد والإماء، وتوفي يوم الاثنين على المشهور (1) ودفن ليلة الأربعاء، أُلحد لحدًا صلى الله عليه وسلم ونصب عليه اللبن نصبًا (2) ورُفع قبره من الأرض نحوًا من شبر (3) وكان قبره صلى الله عليه وسلم مسنمًا (4) وقد تواترت الأخبار أنه دفن في حجرة عائشة رضي الله عنها شرقي مسجده صلى الله عليه وسلم في الزاوية الغربية القبلية من الحجرة، ووسع المسجد النبوي الوليد بن عبد الملك عام 86هـ
(1) توفي صلى الله عليه وسلم سنة إحدى عشرة للهجرة في ربيع الأول يوم الاثنين، أما تاريخ اليوم فقد اختلف فيه: فقيل لليلتين خلتا من ربيع الأول، وقيل لليلة خلت منه، وقيل غير ذلك، وقيل مرض في التاسع والعشرين من شهر صفر، وتوفي يوم الاثنين في الثاني عشر من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة ، فكان مرضه ثلاثة عشر يوماً، وهذا قول الأكثر. انظر: البداية والنهاية لابن كثير 5/ 255 - 256، وتهذيب السيرة للنووي ص 25، وفتح الباري 8/ 129 - 130.
(2)
مسلم برقم 966.
(3)
ابن حبان في صحيحه 14/ 602، وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح.
(4)
كما قال سفيان التمار في البخاري مع الفتح 30/ 255.