الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علامات النبوة إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا)» (1).
فاختبره بهذه الحادثة فوجده كما وُصِفَ، فأسلم وآمن وصدق، وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم مشاهده، واستشهد في غزوة تبوك مقبلًا غير مدبر (2).
فقد أقام محمد صلى الله عليه وسلم براهين عديدة من أخلاقه على صدقه، وأن ما يدعو إليه حق.
المثال السادس: مع زعيم المنافقين:
قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد أجمع الأوس والخزرج على
(1) ذكر ابن حجر في كتاب الإصابة في تمييز الصحابة هذه القصة وعزاها إلى الطبراني، والحاكم، وأبي الشيخ في كتابه أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وابن سعد، وغيرهم، ثم قال ابن حجر: ورجال إسناده موثّقون
…
ومحمد بن أبي السري وثّقه ابن معين
…
والوليد قد صرح بالتحديث 1/ 566. وذكره ابن كثير في البداية والنهاية، وعزاه إلى أبي نعيم في الدلائل. البداية والنهاية 2/ 310، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 240: رواه الطبراني، ورجاله ثقات.
(2)
الإصابة في تمييز الصحابة 1/ 566.
تمليك عبد الله بن أُبيٍّ، ولم يختلف عليه في شرفه اثنان، ولم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين، وكانوا قد نظموا له الخرز، ليُتَوِّجوه ثم يملِّكوه عليهم، فجاءهم الله - تعالى - برسول الله صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك، فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام امتلأ قلبه حقدًا وعداوةً وبغضًا، ورأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استلبه ملكه، فلما رأى قومه أبوا إلا الإسلام، دخل فيه كارهًا مصرًا على النفاق والحقد والعداوة (1) ولم يأل جهدًا في الصَّدِّ عن الإسلام، وتفريق جماعة المسلمين، والذَّبِّ عن اليهود ومساعدتهم.
وقد ظهرت مواقفه الخبيثة في معاداته لدعوة الإسلام، ولكن عن طريق التستر والنفاق، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقابل عداوته بالعفو والصفح والحلم؛ لأنه يُظهر الإسلام؛ ولأن له أعوانًا من المنافقين، هو رئيسهم وهم
(1) انظر: سيرة ابن هشام 2/ 216، والبداية والنهاية 4/ 157.
تَبَعٌ له، فكان صلى الله عليه وسلم يحسن إليه بالمقال والفعل، ويقابل إساءته بالعفو والإحسان في عدة مواقف، منها على سبيل المثال ما يأتي:
1 -
شفاعته لليهود - بنو قينقاع - عندما نقضوا العهد: نقض بنو قينقاع العهد بعد بدر بكشف عورة امرأة من المسلمين في السوق، وبقتل رجل نصرها من المسلمين (1) فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السبت للنصف من شوال، على رأس عشرين شهرًا من الهجرة، وحاصرهم خمسة عشر يومًا، وتحصَّنوا في حصونهم، فحاصرهم أشد الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بهم فَكُتِّفُوا، وكانوا سبعمائة مقاتل، فقام إلى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أُبيٍّ حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد، أحسن في مواليَّ، فأبطأ عليه رسول الله
(1) انظر: سيرة ابن هشام 2/ 427، والبداية والنهاية 4/ 4، والرحيق المختوم ص228، وهذا الحبيب ص246.
صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، أحسن في موالي، فأعرض عنه، فأدخل يديه في جيب درع النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربع مائة حاسر، وثلاث مائة دارع (1) قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة، إني والله امرؤ أخشى الدوائر، فوهبهم النبي صلى الله عليه وسلم له (2) وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذرعات من أرض الشام، وقبض منهم أموالهم، وخمس غنائمهم صلوات الله وسلامه عليه (3).
فلم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، على هذه الشفاعة وعلى شدته القبيحة، بل عفى عنه صلى الله عليه وسلم.
(1) الحاسر: هو الذي لا درع له، والدارع: هو لابس الدرع. انظر: المعجم الوسيط، مادة "حسر" 1/ 172، ومادة "درع" 1/ 280.
(2)
انظر: سيرة ابن هشام 2/ 428، والبداية والنهاية لابن كثير 4/ 4.
(3)
انظر: زاد المعاد 3/ 126، 190.
2 -
ما فعله مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى معركة أحد، فلما صار بين أحد والمدينة انخزل عبد الله بن أُبيٍّ بنحو ثلث العسكر، ورجع بهم إلى المدينة فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام، والد جابر رضي الله عنهما فوبَّخهم، وحضَّهم على الرجوع، وقال: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع، فرجع عنهم وسبهم (1).
فلم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الجرم العظيم، وتخذيل المسلمين.
3 -
صدُّه الرسولَ صلى الله عليه وسلم عن الدعوة إلى الله تعالى: ركب النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة، فمر بعدو الله عبد
(1) انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد 3/ 194، وسيرة ابن هشام 3/ 8، 3/ 57، والبداية والنهاية 4/ 51.
الله بن أُبَيٍّ وحوله رجال من قومه، فنزل صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس قليلًا، فتلا القرآن، ودعا إلى الله عز وجل، وذكَّر بالله، وحذَّر وبشَّر وأنذر، وعندما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من مقالته، قال له عبد الله بن أُبيٍّ: يا هذا، إنه لا أحسن من حديثك هذا، إن كان حقًّا فاجلس في بيتك فمن جاءك فحدِّثْهُ إيَّاه، ومن لم يأتك فلا تغته (1) ولا تأته في مجلسه بما يكره منه (2) فلم يؤاخذه النبي صلى الله عليه وسلم، وعفا عنه وصفح.
4 -
تثبيته بني النضير: عندما نقض يهود بني النضير العهد بِهَمِّهِم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم، بعث إليهم محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من جواره وبلده، فبعث إليهم أهل النفاق - وعلى رأسهم عبد الله بن أُبيٍّ - أن اثبتوا وتمنَّعوا فإنا لن نسلمكم، إن
(1) أي: لا تكثر عليه به وتتردد به عليه، أو لا تعذبه به. انظر: القاموس المحيط، باب التاء، فصل الغين ص200، والمعجم الوسيط مادة "غتَّ" 2/ 644.
(2)
انظر: سيرة ابن هشام 2/ 218، 219.
قُوتلتم قاتلنا معكم، وإن أُخرجتم خرجنا معكم، فقويت عزيمة اليهود، ونابذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنقض العهد، فخرج إليهم حتى نزل بهم وحاصرهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم وخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام (1).
وترك النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أُبيٍّ فلم يُعاقبه على ذلك الفعل القبيح!
5 -
كيدُهُ وغدره للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين في غزوة المريسيع: في هذه الغزوة قام عبد الله بن أُبيٍّ بعدة مواقف مخزية توجب قتله وعقابه، ومنها:
دَبَّر المنافقون في هذه الغزوة قصة الإفك، وتولى كبره عبد الله بن أُبيٍّ بن سلول (2).
(1) انظر: سيرة ابن هشام 3/ 192، والبداية والنهاية 4/ 75، وزاد المعاد 3/ 127.
(2)
انظر قصة الإفك في البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب حديث الإفك 7/ 431، برقم 4141، وكتاب التفسير، سورة النور، باب: = = {((((((((إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا (((((((((((هَذَا ((((((((عَظِيمٌ} 8/ 452، برقم 4750، ومسلم، كتاب التوبة، باب حديث الإفك 4/ 2129، برقم 2770، وزاد المعاد 3/ 256 - 268. وانظر: البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة المنافقون، باب {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ ((((((((اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا (((((((الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 8/ 648، 652، برقم 4905، وفي كتاب المناقب، باب ما ينهى عنه من دعوى الجاهلية 6/ 546، برقم 3518، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً 4/ 1998، برقم 2584، وانظر: سيرة ابن هشام 3/ 334. والحديث في البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة المنافقون، باب قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ} 8/ 648، برقم 4904، = = ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم 4/ 2140، برقم 2772.
وفي هذه الغزوة قال عبد الله بن أُبيٍّ: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8](1).
وفي هذه الغزوة قال عدو الله: {لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون: 7](2).
(1) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة المنافقون، باب {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} 8/ 648، 8/ 652، 6/ 546، برقم 4905، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً 4/ 1998، برقم 63 - (2584).
(2)
والحديث في البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة المنافقون، باب قوله تعالى:(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ) 8، برقم 4904، ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم 4، برقم 2772.
وقد ظهرت الحكمة المحمدية، وتجلت السياسة الرشيدة في إخماد النبي صلى الله عليه وسلم نار الفتنة، وقطع دابر الشر - بفضل الله ثم بصبره - على عبد الله بن أُبيٍّ، وتَحمُّله له، والإحسان إليه، ومقابلة هذه المواقف المخزية من هذا الزعيم المنافق بالعفو؛ لأنه هذا الرجل له أعوان، ويخشى من شرهم على الدعوة الإسلامية؛ ولأنه يظهر إسلامه، ولهذا «قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب - حينما قال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق -: دعه حتى لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه» (1).
فلو قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان ذلك منفِّرًا للناس عن الدخول في الإسلام؛ لأنهم يرون أن عبد الله بن أُبيٍّ
(1) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة المنافقون، باب (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) 8، 8، 6، برقم 4905، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا 4، برقم 63 - (2584).