الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع عشر
صبره الجميل صلى الله عليه وسلم
للنبي محمد صلى الله عليه وسلم مواقف في الدعوة إلى الله تدل على صبره، ورغبته فيما عند الله تعالى، ومن المعلوم أنه صبر في جميع أحواله ابتداءً بدعوته السرية حتى لَقِيَ ربه صابرًا محتسبًا، وأمثلة صبره في دعوته كثيرة جدًا لا تحصر، ولكني أقتصر على إيراد الأمثلة التطبيقية الآتية:
المثال الأول: صعوده على الصفا ونداؤه العام:
أمر الله نبيه بإنذار عشيرته الأقربين، فقال عز وجل:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ - وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 214 - 216]
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتنفيذ أمر ربه بالجهر بالدعوة والصدع بها، وإنذار عشيرته، فوقف مواقف حكيمة
أظهر الله بها الدعوة الإسلامية، وبيَّن بها حكمة النبي صلى الله عليه وسلم وشجاعته، وصبره، وحسن خلقه، وإخلاصه لله رب العالمين، وقَمَعَ بها الشرك وأهله، وأذلهم إلى يوم الدين.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: "يا بني فهر، يا بني عدي" - لبطون قريش - حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولًا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب، وقريش، فقال:"أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ " قالو: نعم، ما جربنا عليك إلا صِدْقًا. قال:"فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ - مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 1 - 2](1).
(1) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، باب وأنذر عشيرتك الأقربين 8/ 501، 737، برقم 4770، و6/ 551، ومسلم بنحوه في كتاب الإيمان، باب قوله: وأنذر عشيرتك الأقربين 1/ 194، برقم 208.
وفي رواية لأبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم ناداهم بطنًا بطنًا، ويقول لكل بطن:"أنقذوا أنفسكم من النار. . . "، ثم قال: "يا فاطمة أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملك لكم من الله شيئًا، غير أن لكم رحماًَ سأبلها ببلاها» (1).
وهذه الصحية العالمية غاية البلاغ، وغاية الإنذار، فقد أوضح صلى الله عليه وسلم لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو حياة الصلة بينه وبينهم، وأوضح أن عصبية القرابة التي يقوم عليها العرب ذابت في حرارة هذا الإنذار، الذي جاء من عند الله تعالى، فقد دعا صلى الله عليه وسلم قومه - في هذا الموقف العظيم - إلى الإسلام، ونهاهم عن عبادة الأوثان، ورغَّبهم في الجنة، وحذَّرهم من النار، وقد
(1) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة الشعراء، باب وأنذر عشيرتك الأقربين 8/ 501، برقم 4771، 5/ 382، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: وأنذر عشيرتك الأقربين 1/ 192، برقم 206.
ماجت مكة بالغرابة والاستنكار، واستعدت لحسم هذه الصرخة العظيمة التي ستزلزل عاداتها وتقاليدها وموروثاتها الجاهلية؛ ولكن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لم يضرب لصرخاتهم حسابًا، لأنه مرسل من الله عز وجل، ولابد أن يبلغ البلاغ المبين عن رب العالمين، حتى ولو خالفه أو رد دعوته جميع العالمين، وقد فعل صلى الله عليه وسلم (1).
استمر صلى الله عليه وسلم يدعوا إلى الله - تعالى - ليلًا ونهارًا، وسِرًّا وجهاراًًً، لا يصرفه عن ذلك صارف، ولا يردُّه عن ذلك راد، ولا يصدُّه عن ذلك صادٌّ، استمر يتتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم، وفي المواسم ومواقف الحج، يدعو من لقيه من: حر وعبد، وقوي وضعيف، وغني وفقير، جميع الخلق عنده في ذلك سواء.
وقد تسلَّط عليه وعلى من اتبعه الأشداء الأقوياء من
(1) انظر: الرحيق المختوم ص78، وفقه السيرة لمحمد الغزالي ص101، 102، والسيرة النبوية، دروس وعبر لمصطفى السباعي ص47.
مشركي قريش بالأذية القولية والفعلية، وانفجرت مكة بمشاعر الغضب؛ لأنها لا تريد أن تفارق عبادة الأصنام والأوثان (1) ومع ذلك لم يفتر محمد صلى الله عليه وسلم في دعوته، ولم يترك العناية والتربية الخاصة لأولئك الذين دخلوا في الإسلام، فقد كان يجتمع بالمسلمين في بيوتهم على شكل أسر بعيدة عن أعين قريش، وتتكون هذه الأسر من الأبطال الذين عقد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمل بعد الله - تعالى - في حمل العبء والمهام الجسمية لنشر الإسلام، وبذلك تكونت طبقة خاصة من المؤمنين الأوائل قوية في إيمانها، متينة في عقيدتها، مدركة لمسئوليتها، منقادة لأمر ربها، طائعة لقائدها، مطبقة لكل أمر يصدر عنه برغبة وشوق واندفاع لا يعادله اندفاع، وحب لا يساويه حب.
وبهذه المواقف الحكيمة، والتربية الصالحة المتينة استطاع محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤدي الأمانة، ويرسم لنا طريقًا
(1) البداية والنهاية 3/ 40.
نسير عليه في دعوتنا وعملنا وسلوكنا، فهو قدوتنا وإمامنا الذي نسير على هديه، ونستنير بحِكَمِهِ صلى الله عليه وسلم.
فقد بدأ الدعوة بعناصر اختارها ورباها، فلبت الدعوة، وآمنت به، وكانت دعوته عامة للناس، وأثناء هذه الدعوة يُركِّزُ على من يجد عندهم الإمكانات أو يتوقع منهم ذلك، وقد تكوَّن من هذه العناصر نواة القاعدة الصلبة التي ثبتت عليها أركان الدعوة (1).
ومع هذا الجهد المبارك العظيم لم يلجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الاغتيال السياسي، ولم يتخلص بالاغتيال من أفراد بأعينهم، وكان بإمكانه ذلك وبكل يسر وسهولة، إذ كان يستطيع أن يكلف أحد الصحابة بقتل بعض قادة الكفر: كالوليد بن المغيرة المخزومي، أو العاص بن وائل السهمي، أو أبي جهل عمرو بن هشام، أو أبي لهب عبد العزى ابن عبد المطلب، أو النضر بن الحارث، أو عقبة
(1) التاريخ الإسلامي، لمحمود شاكر 2/ 65.
ابن أبي معيط، أو أُبيِّ بن خلف، أو أُمية بن خلف. . .، وهؤلاء هم من أشد الناس أذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يأمر أحدًا من أصحابه باغتيال أحد منهم أو غيرهم من أعداء الإسلام؛ فإن مثل هذا الفعل قد يُوْدي بالجماعة الإسلامية كاملة، أو يعرقل مسيرتها مدة ليست باليسيرة، كرد فعل من أعداء الإسلام الذين يتكالبون على حربه، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر في هذه المرحلة باغتيالهم؛ لأن الذي أرسله هو أحكم الحاكمين.
وعلى هذا يجب أن يسير الدعاة إلى الله فوق كل أرض، وتحت كل سماء، وفي كل وقت، يجب أن تكون الدعوة على حسب المنهج الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان ذلك قبل الهجرة أو بعدها، فطريق الدعوة الصحيح هو هديه والتزام أخلاقه وحكمه وتصرفاته على حسب ما أرادها صلى الله عليه وسلم (1).
(1) انظر: التاريخ الإسلامي، لمحمود شاكر 2/ 65.