الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إيَّاها؛ فإنه شكا إليَّ أنَّك تُجيعه وتُدئبُهُ» (1). (2)
وهذه نماذج يسيرة من أنواع رحمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأعدائه، وأحبابه، والمسلم، والكافر، والذكر والأنثى، والصغير، والكبير، والإنس، والحيوان، والطير، والنمل، وغير ذلك كثير لا يحصر في مثل هذا المقام. فصلوات الله وسلامه عليه ما تتابع الليل والنهار.
النوع الثالث عشر: رقة قلبه صلى الله عليه وسلم وبُكاؤه في مواطن كثيرة:
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يبكي بشهيقٍ ورفع صوتٍ، كما لم يكن ضحكه قهقهة، ولكن كانت تدمع عيناه حتى تَهمُلا ويُسْمَعُ لصدره أزيز، وكان بكاؤُه تارة رحمة للميت، وتارة خوفًا على أمته وشفقة عليها، وتارة من خشية الله
(1) تُدْئِبُهُ: بضم التاء ودال مهملة ساكنة، بعدها همزة مكسورة، وباء موحدة: أي تتعبه بكثرة العمل. [الترغيب والترهيب للمنذري، 3/ 157].
(2)
أحمد، 1/ 205، وأبو داود، برقم 2549، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 110.
تعالى، وتارة عند سماع القرآن وهو بكاء اشتياقٍ ومحبةٍ وإجلالٍ (1).
ومن الحالات التي بكى فيها النبي صلى الله عليه وسلم ما يأتي:
1 -
بكاؤه من خشية الله في صلاة الليل، فقال بلال:«يا رسول الله لِمَ تبكي وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر، قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا، لقد نزلت عليَّ الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكَّر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]» . (2)
2 -
بكاء النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة من خشية الله تعالى،
(1) انظر: زاد المعاد، لابن القيم، 1/ 183.
(2)
ابن حبان في صحيحه، برقم 620، وقال شعيب الأرنؤوط:((إسناده صحيح على شرط مسلم))، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 68:((وهذا إسناد جيد)).
فعن عبد الله بن الشخِّير قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولصدره أزيز كأزيز المِرجل من البكاءِ» (1).
3 -
بكاء النبي صلى الله عليه وسلم عند سماع القرآن، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:«قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ عليَّ القرآن" فقلت: يا رسول الله! أقرأ عليك؛ وعليك أُنزل؟ فقال: "نعم، فإني أُحِبُّ أن أسمعه من غيري" قال ابن مسعود: فافتتحتُ سورة النساء فلما بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]، فإذا عيناه تذرفان» (2).
4 -
بكاء النبي صلى الله عليه وسلم عند فقد الأحبة، «بكى النبي صلى الله عليه وسلم عند موت ابنه إبراهيم، فجعلت عيناه تذرفان، فقال له
(1) أبو داود، برقم 904، وصححه الألباني في مختصر شمائل الترمذي، برقم 276.
(2)
البخاري، برقم 4582، ومسلم، برقم 800.
عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟ فقال: يا ابن عوف! إنها رحمة. . . إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربُّنا، وإنَّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» (1).
5 -
بكاء النبي صلى الله عليه وسلم عند وفاة إحدى بناته، قيل: هي أُمُّ كلثوم زوجة عثمان بن عفان رضي الله عن الجميع، فعن أنس رضي الله عنه قال:«شهدنا بنتًا للنبي صلى الله عليه وسلم قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر، فرأيت عينيه تدمعان، فقال: "هل فيكم أحد لم يُقارف الليلة؟ " فقال أبو طلحة: أنا، قال: "فانزل في قبرها" قال: فنزل في قبرها فقَبَرها» (2).
6 -
وبكى صلى الله عليه وسلم عند موت ابنة له أيضًا، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنة له تقضي (3)
(1) البخاري، برقم 1303، ومسلم، برقم 2315.
(2)
البخاري، برقم 1285، ورقم 1342.
(3)
تقضي: تشرف على الموت.
فاحتضنها فوضعها بين يديه فماتت وهي بين يديه، فصاحت أُمُّ أيمن، فقال: يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتبكين عند رسول الله؟ " فقالت: ألست أراك تبكي؟ قال: إني لست أبكي إنما هي رحمة، إن المؤمن بكل خير على كلِّ حال، إنَّ نفسه تُنزع من بين جنبيه وهو يحمد الله عز وجل» (1).
7 -
وبكى صلى الله عليه وسلم عند وفاة أحد أحفاده، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: «أرسلَتْ بنتُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم (2) إنَّ ابني قد احتُضِرَ فاشْهَدنا، فأرسل يُقرِئُ السلام ويقول:"إنَّ لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمًّى، فلتصبر ولتحتسب" فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينَّها، فقام ومعه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأُبَيُّ بن كعب، وزيد بن ثابت، ورجال رضي الله عنهم، فرُفِعَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبيُّ، فأقعده في حجره ونفسه تقعقع،
(1) أحمد، 1/ 268، والترمذي في الشمائل، برقم 324، وصححه الألباني في مختصر الشمائل، برقم 279.
(2)
قيل: إنها زينب رضي الله عنها؛ بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: كأنها شَنٌّ، وفي رواية: تقعقع (1) كأنها في شنٍّ (2) ففاضت عيناه، فقال سعد: يا رسولَ الله ما هذا؟ قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده" وفي رواية: "هذه رحمة جعلها الله في قلوب مَن شاء من عباده، إنما يرحم الله من عباده الرُّحماءُ» (3).
8 -
بكى النبي صلى الله عليه وسلم عند موت عثمان بن مظعون، فعن عائشة رضي الله عنها قالت:«رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يُقَبِّل عثمان بن مظعون وهو ميِّتٌ حتى رأيت الدموع تسيل» . ولفظ الترمذي: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قَبَّل عثمانَ بن مظعون، وهو ميِّتٌ وهو يبكي، أو قال: عيناه تذرفان» (4).
9 -
بكى صلى الله عليه وسلم على شهداء مؤتة، فعن أنسٍ رضي الله عنه «أن النبي
(1) تقعقع: تضطرب وتتحرك.
(2)
الشن: القربة البالية.
(3)
البخاري، برقم 1284، ومسلم، برقم 923.
(4)
أبو داود، برقم 3163، والترمذي برقم 989، وابن ماجه برقم 1456، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 289.
صلى الله عليه وسلم نعى زيدًا وجعفرًا للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: أخذ الرَّايةَ زيدٌ فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب - وعيناه تذرفان - حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فُتِح عليهم» (1).
10 -
بكى عند زيارة قبر أمه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:«زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أَزورَ قبرها فَأذِنَ لي، فزورُوا القبور فإنها تذكركم الموت» (2).
11 -
بكى صلى الله عليه وسلم عند سعد بن عبادة وهو مريض، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود رضي
(1) البخاري، برقم 4262.
(2)
مسلم، برقم 108 - (976).
الله عنهم، فلما دخل عليه وجده في غاشية أهله (1) فقال:"قد قضى؟ " قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وسلم بَكَوْا، فقال: ألا تسمعون؟ إن الله لا يُعذِّب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يُعذب بهذا (2) - وأشار إلى لسانه - أو يرحم. . .» (3) الحديث (4).
12 -
بكى صلى الله عليه وسلم عند القبر، فعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال:«كُنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فجلس على شفير القبر فبكى حتى بَلَّ الثَّرى ثم قال: يا إخواني! لِمِثْلِ هذا فأعِدُّوا» (5).
13 -
بكى صلى الله عليه وسلم في ليلة بدر وهو يصلي يناجي ربه
(1) غاشية أهله: أي الذين يغشونه للخدمة وغيرها [فتح الباري لابن حجر، 3/ 175].
(2)
ولكن يعذب بهذا: أي إن قال: سوءاً. [فتح الباري 3/ 175].
(3)
أو يرحم: أي إن قال خيراً. [فتح الباري 3/ 175].
(4)
البخاري، برقم 1304، ومسلم، برقم 924.
(5)
ابن ماجه، برقم 4195، وحسّنه الألباني في صحيح ابن ماجه، 3/ 369، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 1751. وكذلك أخرجه أحمد، 4/ 294.
ويدعوه حتى أصبح، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال:«ما كان فينا فارس يوم بدرٍ غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرةٍ يُصلِّي ويبكي حتى أصبح» (1).
14 -
بكى صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال:«انكسفتِ الشمس يومًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلِّي، ثم سجد فلم يكد يرفع رأسه، فجعل ينفخ ويبكي، وذكر الحديث، وقال: فقام فحمد الله وأثنى عليه، وقال: "عُرِضَتْ عليَّ النار فجعلت أنفخها، فخفت أن تغشاكم" وفيه: ربِّ ألم تعدني ألا تُعذَّبهم» (2).
15 -
بكى صلى الله عليه وسلم لقبوله الفداء في أسرى معركة بدر،
(1) ابن خزيمة، برقم 899، 2/ 53، وأحمد 1/ 125، 2/ 222، وصحح إسناده الألباني والأعظمي في صحيح ابن خزيمة، 2/ 52.
(2)
ابن خزيمة في صحيحه، برقم 901، وقال الألباني والأعظمي: إسناده صحيح، انظر: صحيح ابن خزيمة، 2/ 53، وصححه الألباني في مختصر شمائل الترمذي برقم 278.
ففي حديث عبد الله بن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم: «. . . فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: "ما ترون في هؤلاء؟ " فقال أبو بكر: يا نبي الله! هم بنوا العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فديةً فتكون لنا قوةً على الكفار، فعسى الله أن يديهم للإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما ترى يا ابن الخطاب؟ " قال: قلت: لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكرٍ، ولكني أرى أن تُمكِّنَّا فنضرب أعناقهم، فتُمكِّن عليًا من عقيلٍ فيضربُ عُنقه، وتُمكِّنِّي من فلانٍ - نسيبًا لعمر - فأضربَ عنقه؛ فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدُها، فَهَوِيَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكرٍ، ولم يَهْوَ ما قُلْتُ، ولَمَّا كان مِنَ الغَدِ جئتُ فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يا رسول الله! أخبرني من أيِّ شيءٍ تبكي أنت وصاحبُك؟ فإن وجدتُ بُكاءً بكيت، وإن لم أجد بُكاءً تباكيتُ لبكائكما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أبكي للذي عرض عليَّ أصحابُك من أخذهم الفداء، لقد عُرِضَ عليَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة" شجرةٍ قريبةٍ من نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله عز وجل:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ (1) فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] إلى قوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] فأحلَّ الله الغنيمة لهم» (2).
16 -
بكى النبيُّ صلى الله عليه وسلم شفقة على أمته، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36] الآية، وقال عيسى عليه السلام:
(1) يثخن في الأرض: يُكثر القتل والقهر في العدوِّ. شرح النووي 12/ 87.
(2)
مسلم، برقم 1763.
{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] الآية، فرفع يديه وقال:"اللهم أُمَّتي أُمَّتي" وبكى، فقال الله عز وجل: "يا جبريل اذهب إلى محمد وربُّك أعلم فسله ما يُبكيك؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل! اذهب إلى محمد فقل: إنَّا سَنُرضيك في أُمَّتك ولا نسوءك» (1).
(1) مسلم، برقم 202.