الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث عشر
رفقه ولينه صلى الله عليه وسلم
أولًا: ترغيبه صلى الله عليه وسلم في الرفق:
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «إنه من أُعطي حظه من الرفق فقد أُعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، وصلة الرحم، وحسن الخلق، وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار» (1).
فقط عظَّم النبي صلى الله عليه وسلم شأن الرفق في الأمور كلها، وبيَّن ذلك بفعله وقوله بيانًا شافيًا كافيًا؛ لكي تعمل أمَّتهُ بالرفق في أمورها كلها، وخاصة الدعاة إلى الله عز وجل؛ فإنهم أولى الناس بالرفق في دعوتهم، وفي جميع تصرفاتهم، وأحوالهم. وهذا الحديث السابق وغيره من الأحاديث التي ستأتي تُبيِّن فضل الرفق، والحث على التخلق به، وبغيره من الأخلاق الحسنة، وذم العنف وذم من تخلق به.
(1) أخرجه أحمد 6/ 159، وإسناده صحيح؛ انظر الأحاديث الصحيحة للألباني برقم 519.
فالرفق سبب لكل خير؛ لأنه يحصل به من الأغراض ويسهل من المطالب، ومن الثواب ما لا يحصل بغيره، وما لا يأتي من ضده (1).
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من العنف، وعن التشديد على أمته صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشقَّ عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به» (2) وكان صلى الله عليه وسلم إذا أرسل أحدًا من أصحابه في بعض أموره أمرهم بالتيسير ونهاهم عن التنفير، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحدًا من أصحابه في بعض أموره قال:
(1) انظر: شرح النووي على مسلم 16/ 145، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 10/ 449، وتحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي 6/ 154.
(2)
أخرجه مسلم في كتاب الجهاد، باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم 3/ 1458، برقم 1828.
«بشِّرُوا ولا تُنفِّرُوا، ويسِّرُوا ولا تُعسِّرُوا» (1).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله عز وجل بأهل بيت خيرًا أدخل عليهم الرفق» (2).
وقال صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري ومعاذ رضي الله عنهما حينما بعثهما إلى اليمن: «يسَّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوَعَا ولا تختلِفَا» (3).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يسِّرُوا ولا تعسِّرُوا، وبشِّرُوا ولا تنفِّرُوا» (4).
(1) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب الأمر بالتيسير وترك التنفير 3/ 1358، برقم 1732.
(2)
أخرجه أحمد في المسند 6/ 71، قال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة: حديث صحيح من رواية عائشة رضي الله عنها 3/ 219 برقم 1219.
(3)
البخاري مع الفتح في كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع 8/ 62، برقم 4344، و2345، ومسلم في كتاب الجهاد والسير باب الأمر بالتيسير وترك التنفير 3/ 1359، واللفظ له، برقم 1733.
(4)
البخاري مع الفتح في كتاب العلم، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا 1/ 163، برقم 69، ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب الأمر بالتيسير وترك التنفير 3/ 1359، برقم 1732.
في هذه الأحاديث الأمر بالتيسير والنهي عن التنفير، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الألفاظ بين الشيء وضده؛ لأن الإنسان قد يفعل التيسير في وقت والتعسير في وقت، ويُبشِّرُ في وقت ويُنفِّرُ في وقت آخر فلو اقتصر على يسروا لصدق ذلك على من يسَّر مرة أو مرات، وعسَّر في معظم الحالات، فإذا قال ولا تُعسِّرُوا انتفى التعسير في جميع الأحوال من جميع وجوهه وهذا هو المطلوب. وكذا يقال في يسِّرا ولا تُعسرا، وبشِّرا ولا تُنفِّرا، وتطاوعا ولا تختلفا؛ لأنهما قد يتطاوعان في وقت ويختلفان في وقت وقد يتطاوعان في شيء ويختلفان في شيء، والنبي صلى الله عليه وسلم قد حث في هذه الأحاديث وفي غيرها على التبشير بفضل الله وعظيم ثوابه، وجزيل عطائه، وسعة رحمته، ونهى عن التنفير بذكر التخويف وأنواع الوعيد محضة من غير ضمها إلى التبشير، وهذا فيه تأليف لمن قَرُبَ إسلامه وتَرْكُ التَّشديد عليه، وكذلك من قَارَبَ البلوغ من
الصبيان، ومن بلغ، ومن تاب من المعاصي كلهم ينبغي أن يتدرج معهم ويُتلطَّف بهم في أنواع الطاعات قليلًا قليلًا، وقد كانت أمور الإسلام في التَّكليف على التَّدريج فمتى يُسِّرَ على الداخل في الطاعة، أو المُريد للدخول فيها سَهُلَتْ عليه وكانت عاقبته غالبًا الازدياد منها، ومتى عُسِّرت عليه أوْشَكَ أن لا يدخل فيها، وإن دخل أوشك أن لا يدوم ولا يستحليها (1). وهكذا تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدريج؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوَّل أصحابه بالموعظة في الأيام كراهة السَّآمة عليهم (2).
فصلوات الله وسلامه عليه فقد دل أمته على كل خير وحذرهم من كل شر، ودعا على من شق على أمته، ودعا لمن رفق بهم كما تقدم في حديث عائشة وهذا من أبلغ الزواجر عن المشقة على الناس، وأعظم الحث على الرفق بهم (3).
(1) انظر: شرح النووي على مسلم 12/ 41، وفتح الباري 1/ 163.
(2)
انظر: فتح الباري 1/ 162، 163.
(3)
انظر: شرح النووي على مسلم 12/ 213.