الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
14 - باب الإِمامة
ذكر فيه سبعة أحاديث:
الحديث الأول
77/ 1/ 14 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإِمام أن يحول الله رأسه: رأس حمار؛ أو يجعل صورته: صورة حمار"(1).
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: هذا الحديث ترجم عليه البخاري باب (إثم من رفع رأسه قبل الإِمام) ثم أخرجه بلفظ (أما يخشى أحدكم [أو ألا] (2) يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإِمام أن يجعل الله رأسه: رأس حمار، أو يجعل صورته: سورة حمار)، كذا رواه بلفظ (يجعل)
(1) البخاري (691)، ومسلم (427)، والدارمي (1/ 302)، وابن ماجة (961)، والنسائي (2/ 96)، والترمذي (582)، وأبو داود (1/ 413)، وأحمد (2/ 260، 456، 469، 472، 504)، والطيالسي (2490)، والبيهقي (2/ 93). وانظر: الحديث الثاني من باب الصفوف ت (3).
(2)
في ن ب ساقطة.
فيهما، وكذا ذكره الحميدي في جمعه بين الصحيحين بلفظ (يجعل) فيهما، وذكره صاحب المنتقى (1) بلفظ (يحول) فيهما، وعزاه إلى رواية الجماعة، وأما لفظ رواية المصنف (2).
وهذا الحديث رواه مع أبي هريرة، عائشة، وابن عمر، وابن عباس، وأنس، وحذيفة بن اليمان، كما أفاده ابن مندة في مستخرجه (3).
ثانيها: (أما) مخفف لفظهُ: لفظ استفهام ومعناه: التقرير والتوبيخ، ويسمى حرف استفتاح [وحرفا الاستفهام](4)"أما، وألا" أي يستفتح بعدها الكلام، والأصل فيه ما النافية دخلت عليها همزة الاستفهام، وهي كليس في قوله:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} (5).
وفي الصحاح (6): "أمَا" مخففة تحقق الكلام الذي يتلوه، تقول:"أما إن زيدًا قائم" بمعنى أنه قائم على الحقيقة، لا على المجاز، وهذا معنى آخر، وكذا قولهم:(أما والله قد ضرب زيد عمرًا) معناه غير معنى أما في الحديث.
(1) المنتقي للمجد (1/ 606).
(2)
في هامش النسخة ب: بياض في النسخة المنقول منها، وفي الأصل كذلك بياض.
(3)
ذكر في مجمع الزوائد (2/ 80، 82) رواية أبي سعيد الخدري، وابن مسعدة صاحب الجيوش، وأنس، والنعمان بن بشير، وجبير بن مطعم، وسمرة، وأبي أمامة، وأبي هريرة، وأبي الأحوص، وعبد الله بن يزيد.
(4)
زيادة من ب.
(5)
سورة الأعراف: آية 172.
(6)
انظر: مختار الصحاح (19)، مع اختلاف يسير.
ثالثها: (يخشى) معناه: يخاف.
رابعها: الحديث نص في النهي عن الرفع قبل الإِمام في الركوع والسجود، [ويقاس عليها الخفض: كالهويّ في الركوع والسجود] (1) كذا قاله الشيخ تقي الدين (2).
وقد يقال: الرفع وسيلة للفصل بين الأركان والاعتدال، وهو مختلف في [وجوبه، والخفض وسيلة إلى الركوع والسجود، وهما متفق على وجوبهما، وإذا دل الحديث على](3) وجوب الموافقة فيما هو وسيلة لأمر مختلف فيه، فأولى أن تجب الموافقة فيما هو وسيلة لأمر مجمع عليه، نبه على ذلك الباجي.
خص الركوع والسجود دون غيرهما، لأنهما آكد أركان الصلاة من حيث إن غاية الخضوع والتذلل ظاهر، إنما يحصل بهما فهما محل القرب:"أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"(4). وذلك يناسب الطمأنينة فيهما، فلما عجل حتى سبق الإِمام فيهما، فقد قصر فيما ينبغي التطويل فيه نهى عن ذلك ونبه عليه.
خامسها: إنما خص الحمار دون غيره كالكلب مثلًا لمناسبة حسية وهي التنبيه بذكر الحمار على البلادة وعدم الفهم، لأن
(1) زيادة من ب، والزيادة مذكورة في إحكام الأحكام.
(2)
إنظر: إحكام الأحكام (2/ 234).
(3)
زيادة من ب.
(4)
رواه مسلم (482)، وأبو داود (875) في الصلاة، باب: الدعاء في الركوع والسجود أحمد (2/ 421)، وأبو عوانة (2/ 180)، والنسائي (1/ 171)، والبيهقي (2/ 110).
المتعاطي بمخالفة إمامه ومسابقته في أفعاله: كأنه بلغ هذا المبلغ من البلادة، فناسب بذلك أن [يجعل](1) الله رأسه رأس حمار لشبهه به، لا سيما وقد قالوا: إن العقوبة تكون من جنس الجناية والذنب: كقوله عليه الصلاة والسلام: (من تحلم كاذبًا ألزم أن يكلف عقد شعيرتين وليس بعاقد)(2)، وكقوله في المصور:(كلف أن ينفخ فيه الروح، وليس بنافخ)(3)، وفي الحديث الآخر:(أحيوا ما خلقتم)(4).
قلت: وجاء في صحيح ابن حبان في هذا الحديث (أن يحول الله رأسه: رأس كلب)(5) فيتأمل لهذه الرواية مناسبة [أخرى](6)، وروى ابن جُمَيعْ (7) في حديث أبي هريرة أيضًا (أنه يحول الله رأسه: رأس شيطان).
(1) في ب (يحول).
(2)
البخاري (2225)، ومسلم (2107)، والنسائي (8/ 214، 216)، والبغوي (3215)، والبيهقي (7/ 267).
(3)
متفق عليه. راجع ما قبله من رواية ابن عباس.
(4)
متفق عليه. راجع ما قبله.
(5)
ابن حبان (2283)، ذكر ابن حجر في الفتح بلفظ:"ويقوى حمله على ظاهره" أن في رواية ابن حبان من وجه آخر عن محمد بن زياد (2/ 184).
(6)
في ن ب ساقطة.
(7)
هو الشيخ العالم الصالح أبو الحسين محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد صاحب المعجم، ولد في سنة خمس وثلاثمائة، وقيل: في سنة ست. توفي في رجب سنة اثنتين وأربعمائة. وعاش ستًا وتسعين سنة. اهـ. سير أعلام النبلاء (17/ 152). وانظر: مكان وجود النسخ الخطية لمعجمه "تاريخ التراث العربي"، لسزكين (1/ 366).
سادسها: إنما خصت الرأس بذلك دون غيرها، لأن بها وقعت الجناية.
واعلم: أنه جاء في رواية (الرأس) وفي أخرى (الوجه) وفي أخرى (الصورة) وكلها بمعنى واحد، كما قال القاضي، لأن الوجه
في الرأس ومعظم الصورة فيه (1).
سابعها: هذا الحديث فيه الوعيد على الفعل المذكور، ولا يلزم وقوعه بخلاف الوعد، فإنه لازم وقوعه، ثم التحويل والجعل هل يرجع إلى أمر معنوي كما أسلفناه أو صوري أو أعم، فيرجع إلى المعنى والصورة جميعًا، ويكون أبلغ في [الوعيد](2) والتخصيص على عدم المخالفة واجتنابها، فإن الحمار موصوف بالبلادة، ويستعار للجاهل البليد عن ترك ما يجب عليه من فروض الصلاة ومتابعة الإِمام، فيرجح المعنى المجازي بأن التحويل في الصورة الظاهرة لم يقع غالبًا مع كثرة [رفع](3) المأمومين قبل الإِمام، وإن كان قد نقل وقوعه بإسناد صحيح لشخص أو شخصين في أزمنة
(1) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في فتح الباري (2/ 183): والظاهر أنه من تصرف الرواة. قال عياض: هذه الروايات متفقة، لأن الوجه في الرأس ومعظم الصورة فيه. قلت: -أي ابن حجر- لفظ الصورة يُطلق على الوجه أيضًا، وأما الرأس فرواتها أكثر وهي أشمل فهي المعتمدة. اهـ.
(2)
في الأصل (الوعد)، وما أثبت من ن ب.
(3)
ساقطة من ب.
قديمة (1).
لكن الحديث لا يدل على وقوعه، وإنما فاعل الرفع قبل الإِمام متعرض له خصوصًا إن كان مستهزءًا بالحديث.
فإنه يقع به كما ذكرنا ونعوذ بالله من ذلك، والمتعرض للشيء لا يلزم وقوع ما تعرض له، والمتوعَّد به لا يلزم وقوعه في الفعل الحاضر عند المخالفة، والجهل موجود عنده -فإن الجهل عبارة عن فعل ما لا ينبغي- وعن الجهل بالحكم فإن العالم بالشيء ولم يعمل به، يقال له: جاهل، لأن الشيء يفوت بفوات ثمرته ومقصوده وإن كان سببه موجودًا، ولهذا يقال: فلان ليس بإنسان، لفوات وصف يناسب الإِنسانية، ولما كان المقصود من العلم العمل به جاز أن يقال لمن لا يعمل به: جاهل غير عالم، وقد يقال: عالم غير عارف، فسمى عدم المعرفة جهلًا.
(1) قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في الحاشية (2/ 236): رواه ابن حجر الهيثمي في فهرسته على أن التحويل مطلق في الأزمنة، فيحتمل أنه يقع في دار الدنيا أو البرزخ أو الآخرة لبعض، أو يقع بعض في هذه وفي هذه، ومن هنا يعرف ضعف ما يجيء به الشارح -أي ابن دقيق العيد- من قوله:"وربما رجح هذا المجاز".
أقول: ولفظه هنا: "فيرجح المعنى المجازي" بأن التحويل في الصورة الظاهرة لم يقع مع كثرة رفع المأمومين قبل الإِمام، ولا يتم الترجيح به، إذ هو مبني على أن المراد التحويل في هذه الدار. اهـ. وقد نقل الصنعاني في هذا الموضع عن ابن الملقن -رحمهما الله جميعًا-. وقد ساق المؤلف هذا بمعناه من إحكام الأحكام (2/ 235، 238).
ويجوز -والله أعلم- أن المراد تحويل صورته يوم القيامة، فيحشر على تلك الحالة، علمًا له على المخالفة.
ثامنها: في المصنف عن أبي هريرة رضي الله عنه[موقوفًا](1)"إن الذي يخفض ويرفع رأسه قبل الإِمام إنما ناصيته بيد شيطان"(2) وكذا قاله أيضًا سلمان من [طريق](3) ليث بن أبي سليم.
ونظر ابن مسعود إلى من سبق إمامه فقال: "لا وحدك صليت ولا بإمامك اقتديت"(4) وعن ابن عمر نحوه وأمره بالإِعادة (5).
تاسعها: فيه دليل على تحريم مسابقة الإِمام وغلظها كما سلف، إن سبقه بركن لا تبطل صلاته على الأصح مع ارتكابه الحرام، فيندب العود إن كان عامدًا، ويخير بينه وبين الدوام إن كان ساهيًا، وإن سبقه بركنين بطلت.
(1) في ب (مرفوعًا).
(2)
أخرجه عبد الرزاق موقوفًا (2/ 374)، ومالك (1/ 92)، وأخرجه البزار والطبراني في الأوسط، وإسناده حسن، وكشف الأستار (1/ 233). قاله الهيثمي (2/ 80) في مجمع الزوائد، وذكره ابن حجر في الفتح، وسكت عنه، وقال: أخرجه عبد الرزاق من هذا الوجه موقوفًا، وهو المحفوظ (2/ 183).
(3)
في ن ب (حديث).
(4)
موسوعة ابن مسعود (394)، والمغني (2/ 210).
(5)
مصنف عبد الرزاق (2/ 47)، والاستذكار (4/ 306)، والمغني (2/ 210)، والفتح (2/ 183).
وقال القرطبي وغيره: من خالف الإِمام فقد خالف سنة المأموم، وأجزأته صلاته عند جمهور العلماء.
وقال ابن قدامة في المغني (1): إن سبق إمامه فعليه أن يرفع ليأتي بذلك مؤتمًا بالإِمام، فإن لم يفعل حتى لحقه الإِمام سهوًا أو جهلًا فلا شيء عليه، فإن سبقه عالمًا بتحريمه فقال أحمد في "رسالته" (2): ليس لمن سبق الإِمام صلاة لقوله: "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإِمام" الحديث، ولو كانت له صلاة لرجى له الثواب، ولم يخش عليه العقاب.
عاشرها: فيه التهديد على المخالفة خشية وقوعها.
الحادي عشر: فيه وجوب متابعة الإِمام، وقال القاضي عياض: لا خلاف أن متابعة الإِمام من سنن الصلاة.
الثاني عشر: فيه كمال شفقته عليه الصلاة والسلام بأمته، وبيانه لهم الأحكام، وما يترتب على المخالفة.
الثالث عشر: قال صاحب القبس (3): جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن [الشيطان مسلط](4) على الإِنسان من إفساد صلاته [عليه](5) قولًا بالوسوسة
(1) المغني (2/ 210).
(2)
الرسالة السنية، مطبوعة مع مجموعة الأحاديث النجدية (446). وذكره ابن حجر في الفتح عنه (2/ 183).
(3)
القبس (1/ 342) مع اختلاف يسير.
(4)
في ن ب (أن الله يسلط).
(5)
في ن ب ساقطة.
حتى لا يدري كم صلى، وفعلًا بالتقدم على الإِمام حتى يخل بالاقتداء، فأما الوسوسة فدواؤها الذكر والإِقبال على الصلاة، وأما التقدم فعلته طب الاستعجال ودواؤه أن يعلم أنه لا يسلم قبل الإِمام، فلا يستعجله في هذه الأفعال.
الرابع عشر: هذا الحديث دال بمنطوقه على عدم المسابقة، وبمفهومه على جواز المقارنة، ولا شك فيه لكن يكره، ويفوت به فضيلة الجماعة، نعم تضر مقارنته في تكبيرة الإِحرام، هذا في الأفعال، وأما الأقوال فإنه يتابعه فيها، فيتأخر ابتداؤه عن ابتداء الإِمام إلَّا في التأمين، فيستحب المقارنة للنص فيه، وحكى القاضي عن مالك ثلاثة أقوال في الأفعال:
أحدها: عقبة.
ثانيها: بعد تمامه.
ثالثها: معه إلَّا القيام من اثنين فبعد تمامه.
واعلم أن النووي رحمه الله في "شرحه لمسلم"(1) أجحف في شرح هذا الحديث، فلم يذكر فيه غير أنه قال بعد أن روى:(رأسه ووجهه وصورته): هذا كله بيان لغلظ تحريم ذلك، ولم يزد.
(1)(4/ 151).