الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْوَجْه الرَّابِع
فِي وُجُوه إعجاز الْقُرْآن مَا تضمنه من الْأَخْبَار عَن الْأُمَم السالفة والقرون السالفة والشرائع الداثرة والقصص الغابرة الَّتِي لَا يعلم مِنْهَا بَعْضهَا إِلَّا الْآحَاد من عُلَمَاء ذَلِك الشَّأْن الَّذين قد انقضبت لَهُم فِي تعلم تِلْكَ الْعُلُوم أزمان فيورده النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الْقُرْآن على وَجهه وَيَأْتِي بِهِ على نَصه فيعترف الْعَالم بِصِحَّتِهِ وتصديق قصَّته مَعَ الْعلم بِأَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم لم ينل ذَلِك بتعليم وَلَا اكْتسب ذَلِك بِوَاسِطَة معلم وَلَا حَكِيم بل حصل لَهُ ذَلِك بإعلام الْعَزِيز الْعَلِيم
وَإِلَّا فَهُوَ أُمِّي لَا يقْرَأ وَلَا يكْتب وَلَا يتفقه وَلَا يحْسب وَمَعَ ذَلِك فقد حصلت لَهُ عُلُوم الْأَوَّلين والآخرين وَصَارَ كِتَابه وَكَلَامه منبع عُلُوم الْعَالمين فَلَقَد كَانَ أهل الْكتاب يَجْتَمعُونَ إِلَيْهِ ويلحون بالأسئلة عَلَيْهِ فَينزل عَلَيْهِ بأجوبتهم الْقُرْآن فَمَا يُنكر شَيْئا من ذَلِك مِنْهُم إِنْسَان بل يعْتَرف بذلك وَلَا يُنكر شَيْئا مِمَّا يسمع هُنَالك
هَذَا مَعَ شدَّة عداوتهم لَهُ وحرصهم على تَكْذِيبه وَهُوَ مَعَ ذَلِك يحْتَج عَلَيْهِم بِمَا فِي كتبهمْ ويقرعهم بِمَا انطوت عَلَيْهِ مصاحفهم وَيبين لَهُم كثيرا مِمَّا كَانُوا يخفون من شرائع كتبهمْ ووصايا رسلهم وهم مَعَ ذَلِك يرومون تعنيته ويقصدون بأسئلتهم تبكيته مثل سُؤَالهمْ عَن الرّوح وَعَن ذِي القرنين وَعَن أَصْحَاب الْكَهْف وَعَن عِيسَى ابْن مَرْيَم وَعَن حكم الرَّجْم وَعَن مَا حرم إِسْرَائِيل على نَفسه وَعَما حرم علهيم من الْأَنْعَام وَمن طَيّبَات أحلّت لَهُم فَحرمت عَلَيْهِم ببغيهم وَغير ذَلِك من أُمُورهم الَّتِي نزل الْقُرْآن جَوَابا عَنْهَا فَلم ينكروا شَيْئا مِنْهَا حِين ذكرهَا لَهُم على وَجههَا
وَنحن نذْكر بعض ذَلِك على مَا يَقْتَضِيهِ الإقتصار ونقتصر على مَا صَحَّ من الْآثَار وتناقله الْجمع الْكثير من رُوَاة الْأَخْبَار
فَمن ذَلِك مَا استفاض ذكره واشتهر نَقله أَن قُريْشًا لما أَهَمَّهُمْ شَأْن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وأكربهم أمره بعثوا النَّضر بن الْحَارِث وَكَانَ من شياطين قُرَيْش وَعقبَة بن أبي معيط إِلَى أَحْبَار يهود بِالْمَدِينَةِ يسألاهم عَن أمره فجاءا الْمَدِينَة من مَكَّة وقالالأحبار الْيَهُود إِنَّا جئناكم نسألكم عَن شَأْن هَذَا الرجل فَإِنَّكُم أهل الْكتاب وعندكم من الْعلم مَا لَيْسَ عندنَا ووصفا لَهُم أمره وَأخْبرهمْ بِبَعْض قَوْله فَقَالَت لَهما أَحْبَار يهود سلوه عَن ثَلَاثَة نأمركم بِهن فَإِن أخبر بِهن فَهُوَ نَبِي مُرْسل وَإِن لم يفعل فالرجل متقول فروا فِيهِ رَأْيكُمْ
سلوه عَن فتية ذَهَبُوا فِي الدَّهْر الأول مَا كَانَ أَمرهم فَإِنَّهُ قد كَانَ لَهُم حَدِيث عَجِيب وَسَلُوهُ عَن رجل طواف فِي الأَرْض قد بلغ مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا وَمَا كَانَ نبؤه وَسَلُوهُ عَن الرّوح مَا هُوَ فَإِن أخْبركُم بذلك فَاتَّبعُوهُ فَإِنَّهُ نَبِي وَإِن لم يفعل فَهُوَ متقول فَأقبل النَّضر وَعقبَة حَتَّى قدما مَكَّة على قُرَيْش فأعلماهم بِمَا قَالَت لَهُم أَحْبَار يهود فَجَاءُوا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَسَأَلُوهُ عَمَّا أخْبرت أَحْبَار يهود فَأنْزل الله تَعَالَى على نبيه صلى الله عليه وسلم سُورَة أَصْحَاب الْكَهْف وَأخْبرهُ فِيهَا بقصتهم وَاخْتِلَاف النَّاس فِي عَددهمْ وَمُدَّة لبثهم فِي كهفهم حَتَّى أَتَى على آخر قصتهم وَأخْبرهمْ أَيْضا عَن قصَّة ذِي القرنين إِلَى آخرهَا وَعَن قصَّة الْخضر عليه السلام مَعَ مُوسَى عليه السلام وَكَيف سَأَلَ مُوسَى السَّبِيل إِلَى لِقَائِه وَذكر فِيهَا جوابهم عَن الرّوح
وَذَلِكَ كُله مَعَ اللَّفْظ الْوَجِيز الفصيح وَالْكَلَام الجزل الصَّحِيح الَّذِي لَا يمله سامع وَلَا يطْمع فِي معارضته طامع
وَمن ذَلِك قصَّة أهل نَجْرَان وَكَانُوا نَصَارَى سَأَلُوا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن عِيسَى عليه السلام فَأنْزل الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن {ذَلِك نتلوه عَلَيْك من الْآيَات وَالذكر الْحَكِيم إِن مثل عِيسَى عِنْد الله كَمثل آدم خلقه من تُرَاب ثمَّ قَالَ لَهُ كن فَيكون}
وَمن ذَلِك أَن نَفرا من أَحْبَار يهود جَاءُوا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا يَا مُحَمَّد أخبرنَا عَن أَربع نَسْأَلك عَنْهُن فَإِن فعلت اتَّبَعْنَاك وَصَدَّقنَاك وآمنا بك فَقَالَ لَهُم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَلَيْكُم بذلك عهد الله وميثاقه لَئِن أَخْبَرتكُم لتصدقنني قَالُوا نعم قَالَ فاسألوا عَمَّا بدا لكم قَالُوا أخبرنَا كَيفَ يشبه الْوَلَد أمه وَإِنَّمَا النُّطْفَة من الرجل فَقَالَ لَهُم أنْشدكُمْ الله وبأيامه عِنْد بني إِسْرَائِيل هَل تعلمُونَ نُطْفَة الرجل بَيْضَاء غَلِيظَة ونطفة الْمَرْأَة صفراء رقيقَة فأيتهما غلبت كَانَ لَهَا الشّبَه قَالُوا اللَّهُمَّ نعم قَالُوا فَأخْبرنَا عَن نومك كَيفَ هُوَ قَالَ أنْشدكُمْ بِاللَّه وبأيامه هَل تعلمُونَ أَن نوم الَّذِي تَزْعُمُونَ أَنِّي لست بِهِ تنام عينه وَقَلبه يقظان قَالُوا اللَّهُمَّ نعم قَالَ وَكَذَلِكَ نومي تنام عَيْني وقلبي يقظان قَالُوا فَأخْبرنَا عَمَّا حرم إِسْرَائِيل على نَفسه قَالَ أنْشدكُمْ بِاللَّه وبأيامه عِنْد بني إِسْرَائِيل هَل تعلمُونَ أَنه كَانَ أحب الطَّعَام وَالشرَاب إِلَيْهِ ألبان الْإِبِل وَأَنه اشْتَكَى شكوى فعافاه الله مِنْهَا فَحرم على نَفسه أحب الطَّعَام وَالشرَاب إِلَيْهِ شكرا لله فَحرم على نَفسه لُحُوم الْإِبِل وَأَلْبَانهَا قَالُوا اللَّهُمَّ نعم قَالُوا أخبرنَا عَن الرّوح قَالَ أنْشدكُمْ بِاللَّه وبأيامه عِنْد بني إِسْرَائِيل هَل تعلمونه جِبْرِيل وَهُوَ الَّذِي يأتيني قَالُوا اللَّهُمَّ نعم وَلكنه يَا مُحَمَّد لنا عَدو هُوَ ملك إِنَّمَا يَأْتِي بالشدة وَسَفك الدِّمَاء وَلَوْلَا ذَلِك لاتبعناك
فَأنْزل الله تَعَالَى على نبيه صلى الله عليه وسلم {قل من كَانَ عدوا لجبريل فَإِنَّهُ نزله على قَلْبك بِإِذن الله مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ وَهدى وبشرى للْمُؤْمِنين}
وَمن ذَلِك أَن يهوديين بِالْمَدِينَةِ زَنَيَا فَأمرت أَحْبَار يهود بهما فحمما فَمروا بهما على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهما مَا هَذَا أهكذا تَجِدُونَ فِي كتابكُمْ قَالُوا نعم فكذبهم وَقَالَ {فَأتوا بِالتَّوْرَاةِ فاتلوها إِن كُنْتُم صَادِقين} فَجَاءُوا بِالتَّوْرَاةِ فتلوها فَإِذا فِيهَا آيَة الرَّجْم فَوضع الَّذِي كَانَ يقْرؤهَا يَده علها وَقَرَأَ مَا بعْدهَا وَمَا قبلهَا فَقَالَ لَهُ عبد الله بن سَلام ارْفَعْ يدك فَرَفعهَا فَإِذا بِآيَة الرَّجْم فَاعْتَرفُوا بذلك فَأمر بهما رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَا ثمَّ قَالَ للْيَهُود مَا حملكم على هَذَا فَقَالُوا كُنَّا إِذا زنى الشريف منا عندنَا لم نقم عَلَيْهِ الْحَد وَإِذا زنى الضَّعِيف أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَد فَعظم علينا هَذَا فَرَأَيْنَا أَن نَجْتَمِع على حد يَشْمَل الضَّعِيف والشريف فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْحَمد لله الَّذِي جعلني أول من أَحْيَا أَمر الله نقلته بِالْمَعْنَى
فَأنْزل الله تَعَالَى {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ} و {الظَّالِمُونَ} و {الْفَاسِقُونَ} الْآيَات
وَفِي هَذَا الْمَعْنى وَمَا قاربه نزل قَوْله تَعَالَى {يَا أهل الْكتاب قد جَاءَكُم رَسُولنَا يبين لكم كثيرا مِمَّا كُنْتُم تخفون من الْكتاب}
وَالْأَخْبَار فِي هَذَا كَثِيرَة لَيْسَ هَذَا مَوضِع استيفائها وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ كِفَايَة لمن كَانَ ذَلِك عقل ودراية وَهَذَانِ وَجْهَان لَا يتَصَوَّر أَن يُنكر عَاقل أَنَّهَا غير داخلين تَحت مَقْدُور الْبشر بل هما خارقان للْعَادَة اقترنا بتحدي مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَعجز الْخَلَائق عَن معارضتهما فَهُوَ نَبِي صَادِق فِيمَا أخبر بِهِ عَن الله مُصدق من جِهَة الله وَمِمَّا أخبر بِهِ عَن الله أَن الله تَعَالَى بَعثه إِلَى النَّاس كَافَّة يهوديهم ونصرانيهم ومجوسيهم فَهُوَ رَسُول إِلَيْهِم وَإِلَى كَافَّة وَعَامة وَمن كذبه فقد اسْتحق الْعَذَاب الأبدي وَالْعِقَاب السرمدي {أَفَمَن حق عَلَيْهِ كلمة الْعَذَاب أفأنت تنقذ من فِي النَّار}
وَلَا يظنّ ظان أَن إعجاز الْقُرْآن إِنَّمَا هُوَ من هَذِه الْوُجُوه الْأَرْبَعَة فَقَط بل وُجُوه إعجازه أَكثر من أَن يحصيها عدد أَو يُحِيط بهَا أحد وَلَو شِئْنَا لذكرنا مِنْهَا وُجُوهًا كَثِيرَة لَكِن شَرط الإختصار منع من الْإِكْثَار وَمن لم يَنْفَعهُ الْكَلَام الْمُفِيد الْقَلِيل فَهُوَ معرض كسل عَن الْكثير
وعَلى الْجُمْلَة فَأَنا نقُول لمن كذب مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم أَو شكّ فِي رسَالَته مَا قَالَ الله تَعَالَى فِي كِتَابه محتجا على من أصر على تَكْذِيبه {وَإِن كُنْتُم فِي ريب مِمَّا نزلنَا على عَبدنَا فَأتوا بِسُورَة من مثله وَادعوا شهداءكم من دون الله إِن كُنْتُم صَادِقين فَإِن لم تَفعلُوا وَلنْ تَفعلُوا فَاتَّقُوا النَّار الَّتِي وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة أعدت للْكَافِرِينَ}