الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْفَصْل الأول
إتحاد الْكَلِمَة
فِي حِكَايَة كَلَام هَذَا السَّائِل
قَالَ السَّائِل
ثمَّ نبدأ بالْقَوْل فِي الإتحاد فَإِن قلت فَإِذا كَانَ التَّثْلِيث عنْدكُمْ أَسمَاء أَفعَال لخواص قَائِمَة والذات وَاحِد لَا يَنْقَسِم وَلَا يَتَبَعَّض فَلم بعضتموه دون الآب وروح الْقُدس وَلم سميتموه أَبَا وروح الْقُدس
أعلم أَنَّهَا لما تعارفت القضايا بالأفعال اخْتلفت أسماءها كَمَا قدمنَا فاختلفت قَضِيَّة خلق الخليقة بيد إِلَى الْقُدْرَة وَسميت أَبَا وأضفت قَضِيَّة الموعظة إِلَى الْعلم الْمُتَوَلد كلَاما وسمى ابْنا وانفردت قَضِيَّة الْوَعْظ باللحمة دون غَيرهَا لِأَن الْمَسِيح إِنَّمَا اتخذ فِي الدُّنْيَا للموعظة لَا لخلق الخليقة لِأَن الله لَو اتخذ جسما ليخلق بِهِ الْخلق بيد يُسمى الْجِسْم أَبَا وأضفت اللحمة إِلَى الْأَب وَلكنه إِنَّمَا اتَّخذهُ لموعظة الْخلق والوعظ مُضَاف إِلَى الْعلم الْمُتَوَلد كلَاما فَسمى إبنا فَلذَلِك قَالَ الْإِنْجِيل التحمت الْكَلِمَة وسكنت فِينَا فأفرد الْكَلِمَة بالإلتحام لِأَنَّهَا الواعظة بِالْأَمر والنهى دون الْقُدْرَة والإرادة فَهَذَا أخصر شرح الإتحاد
الْجَواب عَن كَلَامه
يَا عجبا من بلادة صَاحب هَذَا السُّؤَال كَيفَ لم يحسن إِذْ تثبج عَلَيْهِ الْمقَال وَكثر عَلَيْهِ اللّحن والإختلال حَتَّى أخل بمفهومه وَعدل عَن السُّؤَال فَصَارَ كَلَامه لذَلِك كَأَنَّهُ كَلَام مَجْنُون مخبول إِذا تهذبن وَلم يثبت فِيمَا يَقُول وَذَلِكَ أَنه وجد على نَفسه فِي كَلَامه هَذَا أسئلة انْفَصل بِزَعْمِهِ عَن وَاحِد مِنْهَا وتغافل عَن سائرها جهلا مِنْهُ بورودها وحيدا عَن جوابها
أحد الأسئلة أَنه أَرَادَ أَن يَقُول قد قُلْتُمْ أَن التَّثْلِيث قد رردتموه إِلَى ثَلَاثَة خَواص لوَاحِد لَا يَتَبَعَّض فَلم بعضتم مَا لم يَتَبَعَّض وَثَانِيها لم اتَّحد الإبن بالمسيح دون الآب وروح الْقُدس وَهَذَا تضمنه كَلَامه حَيْثُ قَالَ دون الآب وروح الْقُدس وَثَالِثهَا لم سميتم الْمَسِيح إبنا وَرَابِعهَا لم سميتم الله تَعَالَى أَبَا وخامسها لم سميتم إِرَادَة الله تَعَالَى روح الْقُدس
على أَن ظَاهر كَلَامه يدل على أَن السؤالين الْأَخيرينِ إِنَّمَا هما راجعان إِلَى الْمَسِيح أَلا ترى أَنه أعَاد الضَّمِير أعنى ضمير سميتموه عَلَيْهِ لكنه لم يرد هَذَا وَيدل عَلَيْهِ أَنه لم يسم أحد مِنْهُم الْمَسِيح أَبَا وَلَا روح الْقُدس وَإِنَّمَا سموهُ إبنا فَتَارَة يَقُولُونَ عَلَيْهِ ابْن الله وَتارَة ابْن الْإِنْسَان وَأما روح الْقُدس فقد تقدم فِي اصْطِلَاح هَذَا السَّائِل أَنه أَرَادَ بِهِ الْإِرَادَة وَمن اصْطِلَاح غَيره أَنه أَرَادَ بِهِ الْحَيَاة وَلم يقل قطّ أحد مِنْهُم أَن الْمَسِيح أتحدت بِهِ إِرَادَة الله وحياته وَلم يقل قطّ أحد مِنْهُم أَن الْمَسِيح اتّحدت بِهِ إِرَادَة الله وحياته فَلَمَّا وَجه على نَفسه هَذِه الأسئلة الَّتِي لم يشْعر بِوَجْه لُزُومهَا وَلم ينْفَصل عَن شَيْء مِنْهَا أَخذ بعد ذَلِك بِزَعْمِهِ يتفضل بِكَلَام لَا يلتئم وَلَا يتَّصل فأسهب فِي التّكْرَار والترداد فَصَارَ كَلَامه لذَلِك أبرد من حَدِيث معاد
ثمَّ قَالَ فِي الْجَواب مَا كَانَ قد فرغ مِنْهُ وَلَقَد كَانَ يَسْتَغْنِي عَنهُ قد قدمنَا أَن الأقانيم الثَّلَاثَة إِنَّمَا سميت بالإبن والآب وروح الْقُدس لاخْتِلَاف القضايا الثَّلَاث فأضيف الْخلق إِلَى الْقُدْرَة وسمى أَبَا وأضيفت الموعظة إِلَى الْعلم وسمى إبنا وَهَذَا كَلَام مُكَرر مُسْتَغْنى عَنهُ فِي جَوَاب مَا سَأَلَ عَنهُ إِذْ لاتعلق لَهُ بِهِ وَإِنَّمَا الْكَلَام الَّذِي يُمكن أَن يكون جَوَابا لبَعض مَا سَأَلَ عَنهُ هُوَ قَوْله إنفردت قَضِيَّة الْوَعْظ باللحمة دون غَيرهَا لِأَن الْمَسِيح إِنَّمَا اتخذ فِي الدُّنْيَا للموعظة وسكنت فِينَا لَا لخلق الخليقة وَلذَلِك قَالَ الْإِنْجِيل التحمت الْكَلِمَة وسكنت فِينَا هَذَا مُقْتَضى كَلَامه فِي الإنفصال 2 بعد تلفيق مبدد وتهذيب مثبج الْمقَال وَمَعَ هَذَا فَكَلَام هَذَا السَّائِل لَا يقبل التلفيق من صانع فَإِن الفتق اتَّسع على الراقع وَبعد تَقْرِير هَذَا نقُول
قد تقدم جوابك عَن أَكثر هَذَا الْفَصْل فِيمَا تقدم حَيْثُ تكلمنا فِي الأقانيم وعَلى أَسمَاء الْأَفْعَال وعَلى التَّثْلِيث وعَلى القضايا الثَّلَاث بِمَا أغْنى عَن إِعَادَته فَمن أَرَادَ أَن يتَحَقَّق فَسَاد هَذَا الْكَلَام فليعد نظرا
فِيمَا تقدم وَإِنَّمَا الْكَلَام مَعَك هُنَا على قَوْلك إِنَّمَا اتّحدت بالمسيح الْكَلِمَة الَّتِي هِيَ الْعلم لِأَن الْمَسِيح اتخذ للموعظة كَيفَ يتَمَكَّن عَاقل من أَن يَقُول هَذَا الَّذِي ذكرته وَعِيسَى عليه السلام قد اتَّخذهُ الله تَعَالَى لابراء الأكمه والأبرص وإحياء الْمَوْتَى وَخلق الطير من الطين وَهَذِه الْأُمُور كلهَا لَا يُمكن أَن تقع إِلَّا بِالْقُدْرَةِ والإرادة فَقولُوا أَنَّهُمَا اتحدتا بِهِ وَلَا فرق بَينهمَا وَبَين الْعلم لَوْلَا مَحْض الْجَهْل والتحكم لاسيما وَقد جَاءَ فِي بعض كتبهمْ أَن عِيسَى عليه السلام قَالَ قدرته قدرتي ومشيئته مشيئتي أَو قُولُوا أَنه عليه السلام كَانَ يفعل هَذِه الْأُمُور الخارقة للْعَادَة بِغَيْر قدرَة فيلزمكم أَن يَفْعَلهَا بِغَيْر علم ثمَّ يلزمك على مساق كلامك أَن يكون كل من اتخذ للموعظة من الْأَنْبِيَاء وَالْعُلَمَاء أَن يتحد بلحمة الإبن
وَأما قَوْلك إِن الله لَو اتخذ جسما ليخلق بِهِ الْخلق لسمى ذَلِك الْجِسْم أَبَا فَهُوَ الزام مَالا يلْزم فَإِن الله تَعَالَى قد اتخذ الأَرْض وَالْمَاء والهواء وَالنَّار ليخلق بهم الخلوقات وَلَا يلْزم من ذَلِك أَن يكون أَبَا وَلَا أَن يُسمى أَبَا وَهِي أجسام
وَأما قَوْلك فَلذَلِك قَالَ الْإِنْجِيل التحمت الْكَلِمَة وسكنت فِينَا فَلَقَد خَالَفت التَّنْزِيل وحرفت التَّأْوِيل فَهَلا عَلَيْك سترت على مكرك وَلم تلبس على نَفسك وخصمك ولأي شَيْء لم تذكر الْكَلَام من أَوله وتسوقه على مَنَازِله أتظن أَن الْمُسلمين لَيْسُوا بكتبكم عارفين وَلَا لتحريفكم وتلبيسكم منتهين تالله لقد فيهم من تعرف مِنْهَا الْحق الَّذِي لَا تعرفُون ويتحقق مِنْهَا الْحق الَّذِي لَا تعرفُون ويتحقق مِنْهَا مَا أَنْتُم فِيهِ تشكون وَيعلم مِنْهَا مَا أَنْتُم بِهِ جاهلون
وَمن ذَلِك أَن هَذَا الْكَلَام الَّذِي حكيته عَن الْإِنْجِيل وسلكت بِهِ مَسْلَك التجهيل هُوَ فِي إنجيل يوحنا بن سبداي المصور بزعمكم بِصُورَة عِقَاب يَقُول عَن عِيسَى عليه السلام من يقبله مِنْهُم وآمن بإسمه أَعْطَاهُم سُلْطَانا ليكونوا أَوْلَاد الله وهم الَّذين لم يتولدوا من دم وَلَا شَهْوَة لُحُوم وَلَا شَهْوَة رجل لَكِن تَوَالَدُوا من
الله فالتحمت الْكَلم وسكنت فِينَا ورأينا عَظمته كعظمة ولد الله الْفَرد المحشو رضوانا وصدقا
هَذَا مساق كَلَامه فِي الْإِنْجِيل وَهَذَا الْكَلَام لَا يسْتَدلّ على مَا ذكرت وَلَا على غَيره حَتَّى يعلم أَن عِيسَى عليه السلام هُوَ الَّذِي قَالَه وَلَيْسَ هُوَ فِي الْإِنْجِيل مَرْفُوعا إِلَى عِيسَى وَلَا مُسْندًا إِلَيْهِ وَلَا مخبرا بِهِ عَن الله تَعَالَى وغايته إِن صَحَّ أَن يكون مَوْقُوفا على يوحنا وَمن قَوْله وحاشا عَن قَول مثله ثمَّ لَو سلمنَا ذَلِك فَلَيْسَ بمعصوم فَإِن الْعِصْمَة إِنَّمَا ثبتَتْ للأنبياء أَو لمن أخبر الْأَنْبِيَاء عَنْهُم أَنهم معصومون وَهَذَا لَيْسَ بِنَبِي وَلَا بلغ عَن الْأَنْبِيَاء بطرِيق قَاطع أَنه مَعْصُوم وَسَيَأْتِي الْكَلَام على هَذَا فِي بَاب النبوات إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَبِتَقْدِير أَنه مَعْصُوم فكتابكم قَابل للتحريف والتغيير فَإِنَّهُ لم تكمل فِيهِ شُرُوط التَّوَاتُر فَإِنَّهُ رَاجع إِلَى أَخْبَار آحَاد لَا تفِيد علما على مَا نبينه وعَلى التَّقْرِيب إِن أناجيلكم إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَة عَن أَرْبَعَة كل وَاحِد مِنْهُم لَا يُفِيد خَبره الْعلم بِأَنَّهُ خبر وَاحِد وَمَعَ ذَلِك فَلَو أَنهم تواردوا على نقل خبر وَاحِد لَكَانَ نقلهم لَا يُفِيد الْيَقِين فَإِن الْخَبَر الَّذِي يحصل بِهِ الْعلم الْيَقِين إِنَّمَا هُوَ الْمُتَوَاتر حَقِيقَة الْخَبَر الْمُفِيد للْعلم بالمخبر عَنهُ الَّذِي تحيل الْعَادة على ناقليه الْغَلَط والتواطؤ على الْكَذِب على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله
وعَلى تَسْلِيم أَنه لَا يقبل التَّغْيِير وَلَا التحريف فَهَذَا الْكَلَام لَيْسَ بِنَصّ قَاطع بل هُوَ مُحْتَمل للتأويل وتأويله معضود بسياقة اللَّفْظ وَذَلِكَ أَن مساق هَذَا الْكَلَام يقتضى أَن كل من آمن بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام
فَإِنَّهُ توالد من الله والتحمت الْكَلِمَة بِهِ وسكنت فِيهِ وَلذَلِك قَالَ وَلَكِن تَوَالَدُوا من الله فالتحمت بِالْكَلِمَةِ وسكنت فِينَا
فَإِن كنت تُرِيدُ أَن تستدل بِهَذَا اللَّفْظ على أَن الْكَلِمَة اتّحدت بالمسيح خَاصَّة فَلَيْسَ لَك فِيهِ دَلِيل بل يدل ظَاهره على أَن كل من آمن بِهِ التحمت الْكَلِمَة بِهِ وسكنت فِيهِ وَهَذَا شَيْء لَا تَقولُونَ بِهِ وَلَا يذهب إِلَيْهِ أحد مِنْكُم فَهَلا عَلَيْكُم فهمتم كِتَابه وتدبرم خطابه ورددتم آخر الْكَلَام على أَوله حَتَّى تعرفوا نَصه من مؤوله على أَنه لَو كَانَ نصا قَاطعا لَا يحْتَمل التَّأْوِيل لما كَانَ يَنْبَغِي لعقل أَن يَقُول بِمُقْتَضَاهُ فَإِن الإتحاد محَال قطعا على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى إِذْ تكلمنا على حَقِيقَة الإتحاد والحلول
وَأما قَوْله فأفرد الْكَلِمَة بالإلتحام لِأَنَّهَا الواعظة بِالْأَمر والنهى فَقَوْل لم يقلهُ الْإِنْجِيل وَلَا دلّ عَلَيْهِ ظَاهر وَلَا تَأْوِيل وَغَايَة مَا فِي الْإِنْجِيل أَن الْكَلِمَة التحمت وَلَيْسَ فِيهِ لِأَنَّهَا الواعظة فَمن عرفك أَن الْكَلِمَة اتّحدت لهَذِهِ الْعلَّة بل لَعَلَّهَا التحمت لعِلَّة أُخْرَى لم تعلمهَا أَنْت وَلَا غَيْرك لَعَلَّهَا التحمت لَا لعة بل لنَفسهَا وَإِنَّمَا نزلنَا فِي هَذَا الْمحل على تَسْلِيم الإلتحام وَإِن كَانَ بَاطِلا بالبرهان ليتبين أَن هَذَا الْمَذْهَب هذيان
وَأما قَوْله لِأَنَّهَا الواعظة بِالْأَمر والنهى فَقَوْل من لَا يعرف فرق مَا بَين الْأَمر والنهى والوعظ وَلَا حصل من الشَّرْع وَلَا من الْعقل على حَظّ فَإِن الْوَعْظ مُخَالف لِلْأَمْرِ والنهى بحقيقته ومقصوده إِذْ قد يعظ الْوَاعِظ من غير أَمر وَلَا نهى وَينْهى وَيَأْمُر وَلَا يعظ فهما أَمْرَانِ مفترقان غير متلازمين على مَا يعرف فِي مَوْضِعه
وَأما قَوْله فَهَذَا أخصر شرح الإتحاد فالسين مَوضِع الصَّاد أليق إِذْ الخسران إِلَيْهِ أقرب وَبِه ألزق لِأَنَّك أوهمت أَنَّك شرحت وأوضحت واختصرت وأوجزت بل أخللت وطوت وبفائدة مَا أتيت وَكَيف تصح لَك هَذِه الدَّعْوَى وَقد قلت كلَاما لَا فَائِدَة لَهُ وَلَا جدوى دَلِيل ذَلِك أَنَّك اعترضت على نَفسك بإعتراضات كَثْرَة ثمَّ إِنَّك حدت عَن الْجَواب وَلم تأت بفصل خطاب بل أتيت بِكَلَام يشْهد عَلَيْك عِنْد الْعُقَلَاء بالبلادة وقله التَّحْصِيل وَعدم الإجادة
وَقد كَانَ يَنْبَغِي لَك أَن تبين حققة الإتحاد والحلول وَتبين فرق مَا بَين مَذْهَب الرّوم فِيهِ وَبَين مَا بِهِ تَقول وَتبين الْفرق بَينه وَبَين الإختلاط والإمتزاج وَبعد ذَلِك تستدل على صِحَة وُقُوعه وعَلى اخْتِصَاص عِيسَى عليه السلام بِهِ دون غَيره من الْأَنْبِيَاء فَلَو فعلت ذَلِك حِينَئِذٍ كَانَ يَنْبَغِي لَك أَن تَدعِي أَنَّك شرحت وأوضحت وَأما الْآن فقد جهلت وافتضحت