الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْفَصْل السَّادِس
فِي حِكَايَة مَذْهَب أعشتين إِذْ هُوَ زعيم القسيسين
نذْكر إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي هَذَا الْفَصْل كَلَام هَذَا الْمَذْكُور الْوَاقِع لَهُ فِي مصحف الْعَالم الْكَائِن ونحكي أَلْفَاظه من غير زِيَادَة وَلَا نُقْصَان إِلَّا أَنِّي اختصر من كَلَامه مَالا تَدْعُو ضَرُورَة سِيَاق الْكَلَام إِلَيْهِ من غير إخلال بِلَفْظِهِ وَلَا تَقْصِير فِي مَعْنَاهُ وَرُبمَا قدمت وأخرت وَإِنَّمَا خصصته بالْكلَام مَعَه فِي فصل مُفْرد لغرضين
أَحدهمَا أَن هَذَا السَّائِل على مذْهبه عول وإياه قلد وَمن كِتَابه نقل إِلَّا أَنه مَعَ ذَلِك أخل بِمَفْهُوم كَلَامه وَخَالفهُ فِي سِيَاقه ونظامه فَرُبمَا ترك مذْهبه بِسوء نظره وَهُوَ يظنّ أَنه يمشي على أَثَره وسيتبين ذَلِك
وَالثَّانِي أَن النَّصَارَى معولون على مَعْرفَته ومقلدون لَهُ فِي قومته وقعدته على أَنه أعرف بمسالك النّظر وأجرأهم على مناهج العبر لَكِن نَعُوذ بِاللَّه من عين عوراء وفطنة بتراء
قَالَ أغشتين قد أَجمعت الْملَّة على أَن الله تَعَالَى قد كلم مُوسَى تكليما وَاجْتمعت على أَن مُوسَى سمع صَوتا يَقُول لَهُ أَنا رَبك فأخبرونا أتؤمنون بِأَن الصَّوْت الَّذِي سَمعه مُوسَى هُوَ ذَات الرب وَأَن الرب فِي ذَاته مسموع أم تَقولُونَ إِن الرب أسمع مُوسَى صَوتا على مَا يَشَاء من رفع وخفض وغلظة ورقة وَأَنه ابْتَدَأَ الصَّوْت مَتى شَاءَ وقطعه مَتى شَاءَ وأنهى إِلَى مُوسَى من إِرَادَته مَا شَاءَ فَإِن قَالُوا إِن الصَّوْت نَفسه هُوَ الرب وَأَن الرب مدرك بِالسَّمْعِ فقد خَرجُوا عَن مَذْهَبهم فِي نفى التَّشْبِيه وَإِن قَالُوا إِن الصَّوْت من فعل الله وَأَن الله خلق الصَّوْت على مَا وَافقه وَأظْهر فِيهِ من إِرَادَته مَا شَاءَ وَأَن الصَّوْت قد كَانَ لَهُ مُبْتَدأ ومنتهى وَأَن الله الْخَالِق لَهُ لَا مُبْتَدأ لَهُ وَلَا مُنْتَهى قيل لَهُم فقد ثَبت أَن الصَّوْت الَّذِي سَمعه كَانَ مخلوقا فَكيف جَازَ لمُوسَى أَن يَقُول سَمِعت الله فَإِن قَالُوا مقَام الصَّوْت من الله مقَام صَوت الْإِنْسَان من الْإِنْسَان وَأَنا نسْمع صَوت إِنْسَان فَنَقُول
سمعنَا فلَانا وَكَذَلِكَ وَجب على مُوسَى لما سمع صَوت الله أَن يَقُول سَمِعت الله قيل لَهُم فقد أقررتم أَن الصَّوْت من فعل الله كَمَا أَن صَوت الْإِنْسَان من فعل الْإِنْسَان ولستم تقدرون أَن تَقولُوا إِذا سَمِعْتُمْ صَوت رجل سمعنَا صَوت المريد كَذَلِك الصَّوْت الَّذِي ابتدأه وخاطب بِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَقولُونَ سمعنَا صَوت فلَان وَسَمعنَا فلَانا إِذْ سَمِعْتُمْ صَوته وَكَذَلِكَ من سمع صَوت الله وَجب أَن يَقُول سمعنَا الله لإن الله خلق الصَّوْت وَجعله حِجَابا لإرادته الَّتِي أظهرها فِيهِ فقد ثَبت أَن النَّاس لَا يسمعُونَ الرب إِلَّا بِصَوْت مَخْلُوق على مَا يُشبههُ تعارفهم يكون حِجَابا فِيمَا بَينه وَبينهمْ
وَالْوَاجِب عَلَيْهِم أَن يخاطبوا الصَّوْت باسم الَّذِي الصَّوْت لَهُ كَمَا أَن الصَّوْت إِنَّمَا خاطبهم عَن الله وَمثل ذَلِك يلْزمهُم فِي كل مَا يشبه التَّحْدِيد مِمَّا وَقع فِي كتب الْملَل الثَّلَاثَة من التَّشْبِيه بالعالم وَوصف نَفسه بِالْعينِ وَالْوَجْه والفم وَلَا يُمكن جَحده فقد رضى أَن ينْسب إِلَى نَفسه مثل كَلَامهم وَأَن يخاطبهم فِي مثل لغتهم فقد ثَبت أَنه أَتَّخِذ التَّشْبِيه حِجَابا بَينه وَبَين خلقه
ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك كلَاما مَعْنَاهُ كَمَا جَازَ أَن يتَّخذ صَوتا ويجعله حِجَابا لإرادته حَتَّى أظهرها فِيهِ كَذَلِك يجوز أَن يكون قَادِرًا على إتخاذ أَي صُورَة شَاءَ وَأَن يظْهر لِعِبَادِهِ فِي أَي حلية وافقته وَتلك الصُّورَة ملك لَهُ يبدلها كَيفَ شَاءَ لأَنا إِن قُلْنَا أَنه لَا يقدر أَن يسمع عباده صَوتا وَلَا أَن يظْهر لَهُم بِصُورَة فقد أزلنا عَنهُ الْقُدْرَة على كل شَيْء
ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك فَعلمنَا أَن الْحجاب مَخْلُوق وَعلمنَا أَن الله خَالق كل شَيْء وَوَجَب علينا إنزاله من الْإِكْرَام بِحَيْثُ أنزلهُ الله المحتجب بِهِ لِأَنَّهُ مَتى لم ننزل كل شَيْء على مَا أنزلهُ عَلَيْهِ فقد عصينا لأَنا لَا نجد بدا من أَن نكرم الْمَلَائِكَة مَالا نكرم الشَّيَاطِين ونكرم الصَّالِحين مَالا نكرم الْفجار وَهَكَذَا فَلَا بُد أَن يكون شَيْء أعز من شَيْء وَشَيْء أقرب إِلَى الله من شَيْء حَتَّى يكَاد شَيْء فِي الْعِزّ أَن يتَّصل بخالقه وَيكون أعز الْأَشْيَاء ويكاد شَيْء أَيْضا أَن يكون فِي الهوان بِحَيْثُ لَا يكون شَيْء تَحْتَهُ
وَالْوَاجِب على الْعَارِف بِاللَّه أَن ينزل كل شَيْء بِحَيْثُ أنزلهُ الله ويسميه بِمَا سَمَّاهُ الله فَإِن أقرّ بِأَن الله خَاطب بِصَوْت مسموع أَو ظهر فِي صُورَة مرئية فقد أقرّ بِأَن الله خص ذَلِك الصَّوْت وَتلك الصُّورَة بِمَا لم يخص بِهِ شَيْئا من الْمَخْلُوقَات وَأَن الْوَاجِب على من سمع ذَلِك الصَّوْت أَن يَقُول سَمِعت صَوت الله وَمن رأى تِلْكَ الصُّورَة يَقُول رَأَيْت صُورَة الله وَلِهَذَا وَجب على مُوسَى إِذْ سمع صَوت الْقَائِل أَنا رَبك أَن يجاوبه بإسم الرب وَيَقُول بِأَنَّهُ ربه وَوَجَب على آدم إِذْ قَالَ يَا آدم أَن يستجيب فَيَقُول هنأأنذا يَا رب وَكَذَلِكَ فِي مخاطبته لجَمِيع الْأَنْبِيَاء لِأَن الصَّوْت لم يقل أَنا صَوت الله وَأَنا أخاطب عَن الله وَإِنَّمَا الله خَاطب بِهِ فَقَالَ أَنا الله فَالْوَاجِب أَن نخاطب بِمثل مَا خَاطب بِهِ
وَمثل ذَلِك يجب فِي الصُّورَة وَمن ظهر لَهُ الله فِي صورته كَمَا ظهر لأشعياء ولدانيال فقد وَجب عَلَيْهِ أَن يسْجد للصورة وَأَن يخاطبها باسم الله لِأَن علمه بِأَن الله خص تِلْكَ الصُّورَة بالإتخاذ لَهَا والإحتجاب بهَا ضام لَهُ إِلَى عِبَادَته فِيهَا لِأَنَّهُ قد رضى أَن يرى فِيهَا ويعبد بهَا
وَقد علمنَا أَن الله خَالق الصَّوْت الَّذِي أسمعهُ لمُوسَى كَمَا علمنَا أَن الله خلق جَمِيع الْأَصْوَات وَلَكِن وَجب علينا الْإِقْرَار لذَلِك الصَّوْت بالربوبية مَا لم يجب لغيره لعلمنا أَن الله ولى المخاطبة بذلك وَكَذَلِكَ يجب فِي الصُّورَة أَن يَخُصهَا من الْإِكْرَام بِمَا خصها الله بِهِ
وَمن قَالَ لَا يجب أَن يُخَاطب الصُّورَة باسم الله وَلَا أَن يُجَاوب الصَّوْت بإسم الله فقد قَالَ إِنَّه لَا يجوز أَن يتَّخذ الله صُورَة وَلَا أَن يسمع صَوتا وَإِذا وَجب إكرام الْحجاب بإكرام المحتجب بِهِ لم يبْق علينا من الْكَلَام شَيْء إِلَّا فِي الْحجاب الَّذِي اتَّخذهُ منا وَهُوَ الْمَسِيح والإستشهاد بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيل فِي أمره إِلَّا أَنا نقدم القَوْل فِي ذَلِك بِالْقِيَاسِ لِئَلَّا نستشهد بِالْكتاب إِلَّا فِيمَا كَانَ دَاخِلا تَحت الْإِمْكَان
ثمَّ قَالَ هَذَا وَإِن لم يُوجِبهُ الْقيَاس إِيجَاب الإضطرار فَإِنَّهُ يجوزه تَجْوِيز الْإِمْكَان لِأَن الْقيَاس الَّذِي فضل بِهِ الْإِنْسَان على جَمِيع خلقه وخاطبهم بِمثل لغتهم وتشبه بهم فِي مخاطبتهم وَخلق كل
شَيْء لَهُم وَمن أَجلهم وَأوجب لَهُم الْبَقَاء مَعَه فِي رضوانه وَألا يكون دونهم أبدا وَأَنه ظهر لَهُم بحجاب مَخْلُوق فتشبه لَهُم بنعت محدد فَغير مُمْتَنع فِيهِ وَلَا بعيد أَن يكون حجابه فِيمَا بَينه وبلغهم مِنْهُ وَمِمَّا يشبههم ونزوله إِلَى مخاطبتهم فِي مثل لغتهم وَهُوَ نُزُوله إِلَى الظُّهُور لَهُم فِي مثل صورتهم لِأَن اتِّخَاذ الصُّورَة مثل اتِّخَاذ الصَّوْت
ثمَّ قَالَ شواهده الْوَاضِحَة كَثِيرَة من ذَلِك قَول أرمياء النَّبِي حَيْثُ يَقُول مناجيا الله يَا رَجَاء إِسْرَائِيل يَا مخلصه من الْغم لم سَتَكُون فِي الْمُسْتَقْبل كالغريب فِي الأَرْض أَو كالمسافر يعدل إِلَى الْمبيت لم سَتَكُون فِي الْمُسْتَقْبل كَرجل صَالح لَا يقوى أَن يخلص وَقَول أشعياء النَّبِي حَيْثُ يَقُول إِن الْعَذْرَاء ستحمل وتلد ولدا ويدعى وَلَدهَا عجيبا مُدبرا إِلَهًا قَوِيا والدا مقبل الدَّهْر الْعَالم يكثر ملكه وَلَا يكون لسلطانه إنقطاعا وَلَا آخر وَقَوله أَيْضا من ذَا يقبل خبرنَا أَمن ذَا ظهر لَهُ ذِرَاع الرب ثمَّ وصف أَنه ظهر ضَعِيفا محتقرا وَأَنه هدى بِنَفسِهِ إِلَى الْقَتْل طَوْعًا وَوصف خبر الْمَسِيح ظَاهرا كَمَا كَانَ وَقَول يعقول لِبَنِيهِ حَيْثُ يَقُول لَا ينقضى
الْملك من سبط يهوذا وَلَا يزَال مِنْهُم أَمِير حَتَّى يَأْتِي الَّذِي هُوَ مُرْسل وَهُوَ يكون رَجَاء الْأَجْنَاس وتترجم كَذَلِك بإختصار لَا يَنْقَطِع الْملك مِنْهُم حَتَّى يَأْتِي الْمَسِيح
هَذَا ملخص كَلَامه وزبدته فِي عدَّة أَبْوَاب من كِتَابه الْمُتَقَدّم الذّكر من غير أَن أخرج عَن لَفظه إِلَّا ألفاظا يسيرَة يتَّصل بهَا الْكَلَام وَلَا تغير الْمَعْنى
وَهَا نَحن بعون الله نجاوبه مُجَاوزَة على طَرِيق الْبَحْث والمناظرة
وَأما قَوْله اجْتمعت الثَّلَاث ملل على أَن مُوسَى سمع صَوتا يَقُول أَنا رَبك فَهَذَا قَول كذب يُنبئ عَن غَفلَة أَو جهل وَذَلِكَ أَن الَّذِي اتّفقت الْملَل عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ أَن الله كلم مُوسَى وَأَن الله تَعَالَى مُتَكَلم وَأما أَنه مُتَكَلم بِصَوْت أَو سمع مُوسَى صَوتا من الله فَهَذَا شَيْء اخْتلفت فِيهِ الْملَل وتباينت فِيهِ النَّحْل وَأكْثر أهل الْملَّة الحنيفية يَأْبَى ذَلِك ويخطئ من صَار إِلَى ذَلِك أعنى من صَار إِلَى أَن يكون الْبَارِي تَعَالَى متكلما بِصَوْت وَأَن مُوسَى عليه السلام لم يكلمهُ الله بِصَوْت وَإِنَّمَا
كَلمه بِكَلَامِهِ الَّذِي هُوَ وَصفه الَّذِي لَيْسَ بِصَوْت وَلَا حرف على مَا تقرر بَيَانه فِيمَا تقدم فَهَذَا الرجل الحاكي هَذَا القَوْل إِمَّا أَن يكون علم اخْتِلَاف الْملَل فِيمَا ذكر فِيهِ إجماعها أَو لم يعلم فَإِن كَانَ علم فقد كذب وَإِذا عرف من أحد من النَّاس الْكَذِب فَيَنْبَغِي أَلا يلْتَفت إِلَيْهِ وَلَا يعول عَلَيْهِ
فَيَنْبَغِي لكم أَلا تعولُوا على شَيْء من نَقله لامكان أَن يكون كذب فِيهِ كَمَا كذب فِي هَذَا وَإِن كَانَ ذَلِك القَوْل مِنْهُ عَن جهل فَهَذَا كثير فِي حَقه من جِهَتَيْنِ
أَحدهمَا أَنه أقدم على الْإِخْبَار عَمَّا لم يتَحَقَّق من غير بَصِيرَة وَلَيْسَ هَذَا فعل الْعلمَاء وَلَا الأكياس من الْفُضَلَاء وَكفى بِالْمَرْءِ كذبا وإثما أَن يحدث بِمَا لم يعلم صِحَّته
والجهة الثَّانِيَة أَنه جهل أمرا مَعْلُوما على الْقطع صَار إِلَيْهِ وَعمل على مُقْتَضَاهُ أُمَم لَا يُحصونَ كَثْرَة مُنْذُ مضى السنين وَلَا محمل بِمن تعاطى نصْرَة الْمذَاهب وَالْكَلَام مَعَ أَرْبَابهَا أَن يجهل مثل هَذَا وَإِذا جهل هَذَا فَهُوَ بِمَا هُوَ أخْفى من هَذَا أَجْهَل فَهُوَ بَين أَمريْن إِمَّا أَن يكذب مُتَعَمدا فَلَا يثقون بقوله أَو يجهل أمرا جليا يدْرك بِأَدْنَى بحث وأيسر أَمر فَلَا يَنْبَغِي لكم أَن تقلدوه فِي عمله وَنَظره
وَإِنَّمَا ذكرت هَذَا لِتَعْلَمُوا أَن عُمْدَة النَّصَارَى على هَذَا الرجل فِي مذاهبهم بقوله يحكون وَبِه يحتجون وَله يقلدون وَعَلِيهِ يعولون فَهُوَ وهم كَرجل أعمى ادّعى أَنه بَصِير فاستقاده عمى فقادهم فَسقط فِي حُفْرَة فسقطوا لسقوطه وَأَشد عذَابا يَوْم الْقِيَامَة رجل قتل نَبيا أَو قَتله نَبِي وامام ضَلَالَة وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِك لِأَن عَلَيْهِ وزرها ووزر من عمل بهَا فطوبى لمن مَاتَ وَمَاتَتْ مَعَه ذنُوبه
وَأما قَوْله فَإِن قَالُوا إِن الصَّوْت نَفسه هُوَ الرب وَأَن الرب مدرك بِالسَّمْعِ فقد خَرجُوا عَن مَذْهَبهم فِي نفى التَّشْبِيه فَهَذَا نَص من كَلَام هَذَا الرجل أَن الصدى لَيْسَ بالرب
وَقد قَالَ السَّائِل الَّذِي جاوبناه قبل هَذَا أَنه أقرّ لَهُ بالربوبية وَظَاهر قَوْله مُنَاقض لقَوْل إِمَامه ثمَّ نقُول لَهما قد أتفقتما على أَن
الصَّوْت مَخْلُوق وَأَن الله تَعَالَى لَيْسَ بمخلوق فَهَذَا الصَّوْت الْمَخْلُوق إِمَّا أَن يكون رَبًّا غير الله أَو لَيْسَ رب فَإِن كَانَ رَبًّا غير الله فيلزمكم أَن تَعْبُدُوهُ بِعبَادة خَاصَّة غير عبَادَة الله بل هُوَ أولى بِالْعبَادَة من ناسوت الْمَسِيح إِذْ يتغوط ويبول ويصلب على قَوْلكُم إِلَى غير ذَلِك مِمَّا عددناه
وَذَلِكَ أَن الصَّوْت لَا يَلِيق بِهِ شَيْء من ذَلِك وَذَلِكَ كُله جهل وَقد ألزمناهم على ذَلِك مناقضات لَا محيص عَنْهَا فِيمَا تقدم وَإِن كَانَ هَذَا الصدى لَيْسَ بِرَبّ فيلزمكم على قَوْلكُم أَن يكون مُوسَى خَاطب بالربوبية من لَيْسَ بِرَبّ وَذَلِكَ لَا يَلِيق بِهِ وَهَذَا على قَوْله أَن الْمُخَاطب هُوَ الصدى لَازم ضَرُورَة ثمَّ مَا أعجب أَمر هَؤُلَاءِ الْقَوْم ينفون تَشْبِيه الله تَعَالَى بخلقه ويجعلون نَفسه قَاعِدَة يرجعُونَ إِلَيْهَا بزعمهم ثمَّ يلتزمون من التَّشْبِيه فِي حق الله تَعَالَى مَا لم يقل بِهِ من المشبهة أحد وَذَلِكَ أَنهم قَالُوا إِن الله تَعَالَى مُتَكَلم بِصَوْت هُوَ من قبيل أصواتنا وَهُوَ مَخْلُوق مقطع بالحروف وَهُوَ مَعَ ذَلِك مُخَاطب بالبربوية وَهَذَا هُوَ التَّشْبِيه الَّذِي فروا مِنْهُ وَزِيَادَة عَلَيْهِ
وَلَقَد أوغل فِي التَّشْبِيه كَبِيرهمْ أغشتين وَإِن كَانَ عَن أصل التَّشْبِيه من المعرضين وَذَلِكَ أَنه جوز عقله بِزَعْمِهِ أَن يتَّخذ الْبَارِي صُورَة يجهلها وَيظْهر فِيهَا وَيسْجد لَهَا وَمن رأى تِلْكَ الصُّورَة وَيَقُول رَأَيْت صُورَة الله فَإِنَّهُ قد رأى الله وَلَا تَشْبِيه أعظم مِنْهَا بل المشبهة أحسن حَالا مِنْهُ وَذَلِكَ أَنهم أعنى المشبهة بنوا أَمرهم على ظواهر الشَّرَائِع فأثبتوا مَا أَثْبَتَت الشَّرَائِع وَمَا قَالَت الْأَنْبِيَاء وَمَا جَاءَ فِي كتب الله مُصدقين لَهَا غير منحرفين عَن ظواهرها ثمَّ عزلوا عُقُولهمْ فَلم ينْظرُوا بهَا فبقوا على جمود التَّقْلِيد وثبتوا على صميم الإعتقاد والتوحيد وَمَعَ ذَلِك فَإِنَّهُم يعظمون الله وَيَقُولُونَ بِأَن لَا إِلَه إِلَّا الله
وَمِمَّا صرح فِيهِ بإلتزام التَّشْبِيه قَوْله صَوت الله من فعل الله كَمَا أَن صَوت الْإِنْسَان من فعل الْإِنْسَان وَلَا معنى للتشبيه الَّذِي نفى إِلَّا هَذَا فَهَذَا تنَاقض ظَاهر فَإِنَّهُ تَارَة نفى التَّشْبِيه وَتارَة أثْبته ثمَّ قَوْله يُصَرح بِأَن حَقِيقَة الْمُتَكَلّم من فعل الْكَلَام وَهُوَ خطأ بل حَقِيقَة الْمُتَكَلّم من قَامَ بِهِ الْكَلَام وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن حَقِيقَة الْمُتَكَلّم تفهم بكمالها مَعَ فرض الْغَفْلَة والذهول عَن كَونه فَاعِلا للْكَلَام وَلَو كَانَت حَقِيقَة الْمُتَكَلّم من فعل الْكَلَام لما فهمت حَقِيقَة الْمُتَكَلّم حَتَّى يفهم كَونه
فَاعِلا للْكَلَام على مَا يعرف فِي مَوْضِعه وَلَو كَانَت حَقِيقَة الْمُتَكَلّم من فعل الْكَلَام لَكَانَ الْبَارِي تَعَالَى متكلما بالْكلَام الَّذِي يقوم بِنَا فَإِنَّهُ فَاعل كلامنا وخالقه على مَا يعرف فِي مَوْضِعه وَذَلِكَ محَال
ولتعلم أَيهَا النَّاظر فِي هَذَا الْكتاب أَن كل مَا ذكره هَذَا القس فِي هَذَا الْفَصْل إِنَّمَا هُوَ مبْنى على أَنه تَعَالَى مُتَكَلم بِحرف وَصَوت وَقد أبطلنا ذَلِك فِيمَا تقدم حَيْثُ قُلْنَا كَلَام الْبَارِي تبارك وتعالى لَيْسَ بِصَوْت وَلَا حرف وَإِنَّمَا هُوَ وصف لَهُ قَائِم بِهِ لَيْسَ بِحرف وَلَا صَوت كَمَا نبهنا عَلَيْهِ
وَإِذا بِكُل ذَلِك بَطل كل مَا انتحله فِي هَذَا الْفَصْل من الهذيان وَإِنَّمَا كلامنا مَعَه بعد ذَلِك على طَريقَة المناظرة الْجَارِيَة بَيْننَا وَذَلِكَ أَن أَرْبَاب النّظر رُبمَا يسلمُونَ مَا هُوَ مَعْلُوم الْفساد ليتبين تنَاقض الْخصم وتحكمه للعباد وَكَذَلِكَ نَفْعل نَحن بِهَذَا الرجل بحول الله فَنَقُول لَهُ
لأي شَيْء قلت أَن الله اتخذ الصَّوْت حِجَابا لإِظْهَار أَرَادَتْهُ ولبست بِلَفْظ الْحجاب وَلَو قلت إِن الله جعل الصَّوْت دَلِيلا على مَا أَرَادَ لارتفع التلبيس ولزال الْإِبْهَام الَّذِي أوهمت فَإنَّك أوهمت بِلَفْظ الْحجاب أَن الْإِرَادَة احْتَجَبت بِهِ واتحدت مَعَه حَتَّى ظَهرت بواسطته فجعجعت أَنْت بِلَفْظ الْحجاب والظهور وأوهمت وَأَنت مَا حصلت على فَائِدَة وَلَا وجدت
وَمِمَّا يتَبَيَّن أَن هَذَا الَّذِي ذكره إِنَّمَا هُوَ جعجعة لفظية لَيْسَ وَرَاءَهَا معنى أَنا نبطل لفظ الْحجاب بِالدَّلِيلِ وَلَا نبقى مِمَّا توهمه شَيْء فإننا يمكننا أَن نقُول إِن الصَّوْت الَّذِي خلقه الله تَعَالَى وَجعله دَلِيلا على إِرَادَته على قَوْله إِنَّمَا هُوَ بِمَثَابَة أَن لَو خلق خُطُوطًا فِي حجر يسْتَدلّ بهَا الْمُسْتَدلّ على إِرَادَته إِذا قَرَأَهَا فَلَا يتَمَكَّن لعاقل أَن يَقُول إِن الْإِرَادَة انحجبت بخطوط ذَلِك الْحجر وَلَا اتّحدت بِهِ فَإِن الْإِرَادَة لَا تقوم بجماد وَهَذَا بَين بِنَفسِهِ
وَكَذَلِكَ لَو كتبنَا لفظ النَّار فِي ورقة لما تخيل عَاقل بل غافل أَن ذَات النَّار حلت فِي الورقة إِذْ لَو حلت النَّار فِي الورقة لاحترقت وَكَذَلِكَ
الصَّوْت المقطع حروفا إِنَّمَا هُوَ دَلِيل على مَا فِي النَّفس من غير أَن يحل مَا فِي النَّفس وَلَا أَن يتحد بِهِ وَإِذا فهم هَذَا ارْتَفع كل مَا توهمه هَذَا المخدوع بِالضَّرُورَةِ
ثمَّ نقُول لَهُ نسلم جدلا مَا ذكرته من لفظ الْحجاب والظهور لَكِن لم قلت أَنه إِذا صَحَّ أَن تظهر إِرَادَته بحجاب الصَّوْت جَازَ أَن تظهر ذَاته بحجاب الصُّورَة وَمَا الدَّلِيل على ذَلِك وَأي جَامع بَينهمَا
فَإِن قَالَ الدَّلِيل على ذَلِك أَن الله تَعَالَى قَادر على ذَلِك كَمَا هُوَ قَادر على حجاب صَوته فَإِنَّهُ إِن لم يكن قَادِرًا على إِظْهَار ذَاته بِصُورَة فَيكون عَاجِزا وَالْعجز عَلَيْهِ محَال فَهَذَا هُوَ الدَّلِيل وَأما الْجَامِع فَإِن الصَّوْت مظهر للإرادة وَالصُّورَة مظهرة للذات
فَيُقَال لَهُ أما إستدلالك بِأَن الله قَادر على كل شَيْء فإستدلال فَاسد فَإِن الْأَشْيَاء الَّتِي يقدر الْبَارِي تَعَالَى عَلَيْهَا إِنَّمَا هِيَ الممكنات لَا المستحيلات وَهَذَا الَّذِي ذكرت من ظُهُور الله فِي صُورَة مُسْتَحِيل لَا يكون بِهِ مَقْدُورًا فَإِن المستحيل لَا يُوصف الْبَارِي تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَلَا بِالْعَجزِ عَنهُ لإستحالة شَرط تعلق الْقُدْرَة وَهَذَا إِنَّمَا يعرفهُ من يعرف حَقِيقَة حَقِيقَة الْوَاجِب والممكن والمستحيل
ثمَّ أَنا نقلب عَلَيْهِم دليلهم ونقول هَل يقدر الله تَعَالَى أَن يظْهر نَفسه من غير صُورَة أم لَا فَإِن قَالُوا يقدر قُلْنَا لَهُم لَا يحْتَاج إِلَى الصُّورَة الَّتِي فرضتم وَإِن قَالُوا لَا يقدر قُلْنَا لَهُم فَيلْزمهُ الْعَجز وَبِالَّذِي ينفصلون عَن هَذَا بِهِ بِعَيْنِه ننفصل نَحن عَمَّا ألزمونا
وَقد بَينا فِيمَا تقدم أَن إتخاذ الْبَارِي سبحانه وتعالى صُورَة ليظْهر فِيهَا مُسْتَحِيل حَيْثُ أبطلنا الْحُلُول والإتحاد وَمَا فِي مَعْنَاهُ
ونزيد الْآن هُنَا نكته وَهِي أَنا نقُول هَذِه الصُّورَة الَّتِي يظْهر فِيهَا لابد أَن تكون متحيزة محدودة وَالظَّاهِر فِيهَا إِمَّا أَن يكون دَاخِلا فِيهَا أَو خَارِجا مِنْهَا أَولا خَارِجا وَلَا دَاخِلا فَإِن كَانَ دَاخِلا فِيهَا كَانَ محدودا محاطا بِهِ وَهَذَا هُوَ التَّشْبِيه