المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الْفَصْل الثَّانِي دفاع عَن الْإِسْلَام أعلم أَن النَّصَارَى يعيبون دين الْإِسْلَام ويقبحونه - الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام

[القرطبي]

فهرس الكتاب

- ‌بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌صدر الْكتاب

- ‌فصل

- ‌فِي بَيَان مذاهبهم فِي الأقانيم وَإِبْطَال قَوْلهم فِيهَا

- ‌أقانيم الْقُدْرَة وَالْعلم والحياة

- ‌دَلِيل التَّثْلِيث

- ‌الْفَصْل الأول

- ‌فِي حِكَايَة كَلَام السَّائِل وَ‌‌الْجَوَاب عَنهُ

- ‌الْجَوَاب عَنهُ

- ‌الْفَصْل الثَّانِي

- ‌فِي حِكَايَة كَلَامه أَيْضا

- ‌وَالْجَوَاب عَن قَوْله

- ‌الْفَصْل الثَّالِث

- ‌فِي حِكَايَة كَلَامه أَيْضا

- ‌الْجَواب عَن مَا ذكر

- ‌الْفَصْل الرَّابِع

- ‌فِي حِكَايَة كَلَامه أَيْضا

- ‌الْجَواب عَنهُ

- ‌الْفَصْل الْخَامِس

- ‌قَالُوا

- ‌الْجَواب عَن مَا ذكره الْمصدر كَلَامه

- ‌فِي بَيَان مذاهبهم فِي الإتحاد والحلول وَإِبْطَال قَوْلهم فِيهَا

- ‌معنى الإتحاد

- ‌تجسد الْوَاسِطَة

- ‌مَذْهَب أغشتين إِذْ هُوَ زعيم القسيسين

- ‌الْفَصْل الأول

- ‌فِي حِكَايَة كَلَام هَذَا السَّائِل

- ‌الْجَواب عَن كَلَامه

- ‌الْفَصْل الثَّانِي

- ‌من حِكَايَة كَلَامه أَيْضا

- ‌الْجَواب عَنهُ

- ‌الْفَصْل الثَّالِث

- ‌من حِكَايَة كَلَام السَّائِل

- ‌الْجَواب عَنهُ

- ‌الْفَصْل الرَّابِع

- ‌من حِكَايَة كَلَامه

- ‌الْجَواب عَمَّا ذكره

- ‌الْفَصْل الْخَامِس

- ‌الْجَواب عَن كَلَامهم

- ‌ف {هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين}

- ‌مِنْهَا

- ‌وَنور بعد ذَلِك إلزامات لَهُم

- ‌إِلْزَام آخر

- ‌إِلْزَام آخر يظْهر تناقضهم

- ‌ثمَّ نقُول تَحْقِيقا لالزام الْجَمِيع

- ‌إِلْزَام آخر وَطَلَبه

- ‌مِنْهَا

- ‌‌‌وَمِنْهَا

- ‌وَمِنْهَا

- ‌إِلْزَام آخر

- ‌‌‌إِلْزَام آخر

- ‌إِلْزَام آخر

- ‌إِلْزَام آخر

- ‌الْفَصْل السَّادِس

- ‌نُكْتَة أُخْرَى

- ‌كمل الْبَاب الثَّانِي وبكماله كمل الْجُزْء الأول الحمدلله حق حَمده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَسلم يتلوه الثَّانِي

- ‌الْإِعْلَام

- ‌فِي النبوات وَذكر كَلَامهم

- ‌الْقسم الأول

- ‌احتجاج أَصْحَاب الْملَل

- ‌الْجَواب عَن كَلَامه يَا هَذَا أسهبت وأطنبت وبحبة خَرْدَل مَا أتيت كثر كلامك فَكثر غلطك وَقلت فَائِدَته فَظهر قصورك وسقطك وَمن كثر كَلَامه كثر سقطه وَمن كثر سقطه كَانَت النَّار أولى بِهِ أعميت لجهلك بلحنه وَلم تتفطن لتثبيجه ولحنه فَلَقَد استسمنت ذَا ورم ونفخت فِي غير ضرم

- ‌الْفَصْل الثَّانِي

- ‌فِي حِكَايَة كَلَامه أَيْضا

- ‌فَافْهَم الْجَواب عَنهُ

- ‌الْفَصْل الثَّالِث

- ‌من حِكَايَة كَلَامه أَيْضا

- ‌الْجَواب عَمَّا ذكر

- ‌فصل

- ‌فَأول دَلِيل

- ‌فصل فِي بَيَان أَن الْإِنْجِيل لَيْسَ بمتواتر وَبَيَان بعض مَا وَقع فِيهِ من الْخلَل

- ‌الْفَصْل السَّابِع

- ‌من حِكَايَة كَلَامه أَيْضا

- ‌الْجَواب عَمَّا ذكر

- ‌‌‌وَأما قَوْلك

- ‌وَأما قَوْلك

- ‌وَأما قَوْلك

- ‌وَأما قَوْلك

- ‌وَأما قَوْلك

- ‌الْقسم الثَّانِي

- ‌الْمُقدمَة الأولى

- ‌فَأَما المعجزة

- ‌وَأما وَجه دلالتها

- ‌الْمُقدمَة الثَّانِيَة

- ‌وَمِمَّا يدل على أَنهم من كِتَابهمْ وشرعهم على غير علم

- ‌ من ذَلِك

- ‌الْإِعْلَام بِمَا فِي دين النَّصَارَى من الْفساد والأوهام وَإِظْهَار محَاسِن دين الْإِسْلَام وَإِثْبَات نبوة نَبينَا مُحَمَّد عليه الصلاة والسلام

- ‌الْجُزْء الثَّالِث

- ‌أَنْوَاع الْقسم الثَّانِي

- ‌نقُول

- ‌النَّوْع الأول

- ‌فَمن ذَلِك

- ‌وَمن ذَلِك

- ‌وَمن ذَلِك

- ‌وَفِي التَّوْرَاة

- ‌وَمن ذَلِك مَا جَاءَ فِي الزبُور

- ‌أخبرونا

- ‌‌‌وَفِي الزبُور أَيْضا

- ‌وَفِي الزبُور أَيْضا

- ‌وَفِيه أَيْضا

- ‌وَقد تقدم قَول دَاوُود

- ‌وَفِي الزبُور

- ‌وَفِيه أَيْضا عَن يوحنا

- ‌‌‌وَفِيه أَيْضا

- ‌وَفِيه أَيْضا

- ‌وَفِيه أَيْضا

- ‌فَالْجَوَاب

- ‌وَفِي الْإِنْجِيل أَيْضا

- ‌وَفِي صحف أشعياء النَّبِي

- ‌وَفِي صحف حزقيال النَّبِي

- ‌وَقَالَ أشعياء

- ‌وَفِي صحف حبقوق النَّبِي الَّتِي بِأَيْدِيكُمْ

- ‌‌‌وَفِي صحف أشعياء النَّبِيقَالَ

- ‌وَفِي صحف أشعياء النَّبِي

- ‌وَفِي صحفه أَيْضا

- ‌وَفِي الصُّحُف المنسوبة للإثنى عشر نَبيا

- ‌وَفِي صحف حزقيال النَّبِي

- ‌وَقَالَ دانيال النَّبِي

- ‌وَفِي نفس النَّص

- ‌ثمَّ قَالَ

- ‌وَفِي صحف أشعياء

- ‌وَقَول أشعياء

- ‌وَقَالَ أَيْضا عَن الله

- ‌وَقَالَ على أثر ذَلِك

- ‌وَقَالَ أشعياء أَيْضا عَن الله

- ‌النَّوْع الثَّانِي

- ‌وَمن أوضح ذَلِك وأبينه

- ‌وَيَنْبَغِي الْآن أَن يعرف الجاحد وَالْجَاهِل بعض مَا خص بِهِ من صِفَات الْكَمَال والفضائل

- ‌اعْلَم أَنا

- ‌فَمن ذَلِك

- ‌قَالَ ناعته

- ‌يَقُول ناعته

- ‌وَأما فصاحة لِسَانه

- ‌وَأما نسبه

- ‌وَأما عزة قومه

- ‌أما سفساف الْأَخْلَاق ودنيها

- ‌وَأما قُوَّة عقله وَعلمه

- ‌أما الْأُمُور المصلحية

- ‌فأصول الشَّرِيعَة وَإِن تعدّدت صورها فَهِيَ رَاجِعَة إِلَى هَذِه الْخَمْسَة

- ‌وَأما الدِّمَاء

- ‌وَأما الْأَمْوَال

- ‌وَأما الْعُقُول

- ‌وَأما حفظ الْأَنْسَاب وصيانة إختلاط الْمِيَاه فِي الْأَرْحَام

- ‌وَأما الْمُحَافظَة على الْأَدْيَان وصيانتها

- ‌وَأما صبره وحلمه

- ‌وَأما تواضعه

- ‌وَأما عدله وَصدقه صلى الله عليه وسلم وأمانته وَصدق لهجته

- ‌وَأما زهده

- ‌وَأما كَثْرَة جوده وَكَرمه

- ‌وَأما وفاؤه بالعهد

- ‌يَا هَذَا تَأمل بعقلك

- ‌وَأما حسن سمته وتؤدته وَكثير حيائه ومروءته

- ‌وَمِمَّا يدلك على عَظِيم شجاعته

- ‌وَأما خَوفه من الله تَعَالَى وإجتهاده فِي عِبَادَته

- ‌خَاتِمَة جَامِعَة فِي صِفَاته وشواهد صدقه وعلاماته

- ‌النَّوْع الثَّالِث

- ‌وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن

- ‌الْوَجْه الثَّانِي من الْجَواب

- ‌فَإِن قيل

- ‌الْجَواب

- ‌معَارض

- ‌فَإِن قيل

- ‌فَالْجَوَاب

- ‌الْوَجْه الأول

- ‌أَن لِسَان الْعَرَب مباين للسان غَيرهم

- ‌الْوَجْه الثَّانِي

- ‌الْوَجْه الثَّالِث

- ‌الْوَجْه الرَّابِع

- ‌النَّوْع الرَّابِع

- ‌الْفَصْل الأول فِي إنشقاق الْقَمَر

- ‌الْفَصْل الثَّانِي فِي حبس الشَّمْس آيَة لَهُ صلى الله عليه وسلم

- ‌الْفَصْل الثَّالِث نبع المَاء وتكثيره معْجزَة لَهُ صلى الله عليه وسلم

- ‌الْفَصْل الرَّابِع تَكْثِير الطَّعَام معْجزَة لَهُ صلى الله عليه وسلم

- ‌الْفَصْل الْخَامِس فِي كَلَام الشّجر وَكثير من الجمادات وشهادتها لَهُ بِالنُّبُوَّةِ

- ‌النَّوْع الأول

- ‌النَّوْع الثَّانِي

- ‌الْفَصْل السَّادِس فِي كَلَام ضروب من الْحَيَوَان وتسخيرهم آيَة لَهُ صلى الله عليه وسلم

- ‌النَّوْع الأول

- ‌النَّوْع الثَّانِي

- ‌الْفَصْل السَّابِع فِي إحْيَاء الْمَوْتَى وَكَلَام الصّبيان والمراضع وشهادتهم لَهُ بِالنُّبُوَّةِ

- ‌الْفَصْل الثَّامِن فِي إِبْرَاء النَّبِي صلى الله عليه وسلم المرضى وَذَوي العاهات

- ‌الْفَصْل التَّاسِع فِي إِجَابَة دُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌الْفَصْل الْعَاشِر فِي ذكر جمل من بركاته ومعجزاته صلى الله عليه وسلم

- ‌الْفَصْل الْحَادِي عشر فِي مَا أخبر بِهِ مِمَّا أطلعه الله من الْغَيْب صلى الله عليه وسلم

- ‌الْفَصْل الثَّانِي عشر فِي عصمَة الله لَهُ مِمَّن أَرَادَ كَيده

- ‌فَإِن قَالَ قَائِل من النَّصَارَى والمخالفين لنا

- ‌قُلْنَا فِي الْجَواب عَن ذَلِك

- ‌الْفَصْل الثَّالِث عشر فِي مَا ظهر على أَصْحَابه وَالتَّابِعِينَ لَهُم من الكرامات الخارقة للعادات

- ‌أَحدهمَا أَن نبين أَن مَا ظهر على أَصْحَابه وعَلى أهل دينه من الكرامات هُوَ آيَة لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم من أعظم الْآيَات وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى إِذا أكْرم وَاحِدًا مِنْهُم بِأَن خرق لَهُ عَادَة فَإِن ذَلِك يدل على أَنه على الْحق وَأَن دينه حق إِذْ لَو كَانَ مُبْطلًا فِي دينه مُتبعا لمبطل فِي

- ‌وَالْغَرَض الثَّانِي

- ‌من ذَلِك مَا علمنَا من أَحْوَالهم على الْقطع

- ‌وَأما التابعون

- ‌وَبعد هَذَا

- ‌انْتهى الْجُزْء الثَّالِث من كتاب الْإِعْلَام بِمَا فِي دين النَّصَارَى من الْفساد والأوهام وَإِظْهَار محَاسِن دين الْإِسْلَام وَإِثْبَات نبوة نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ويليه الْجُزْء الرَّابِع بِإِذن الله وأوله الْبَاب الرَّابِع فِي بَيَان أَن النَّصَارَى متحكمون فِي أديانهم وَأَنَّهُمْ لَا مُسْتَند لَهُم فِي

- ‌الْإِعْلَام بِمَا فِي دين النَّصَارَى من الْفساد والأوهام وَإِظْهَار محَاسِن دين الْإِسْلَام وَإِثْبَات نبوة نَبينَا مُحَمَّد عليه الصلاة والسلام

- ‌تَقْدِيم وَتَحْقِيق وَتَعْلِيق الدكتور أَحْمد حجازي السقا

- ‌فِي بَيَان أَن النَّصَارَى متحكمون فِي أديانهم

- ‌الصَّدْر وَفِيه فصلان

- ‌الْفَصْل الأول

- ‌الْفَصْل الثَّانِي

- ‌قَالَ ذَلِك الْجَاهِل بعد ذكر الْمُحرمَات

- ‌الْفَنّ الأول

- ‌مَسْأَلَة فِي المعمودية

- ‌مَسْأَلَة فِي غفران الأساقفة والقسيسين ذنُوب المذنبين وإختراعهم الْكَفَّارَة للعاصين

- ‌مِثَال الْقسم الأول العابثون بالصبيان

- ‌وَمِثَال الثَّانِي نِكَاح الْقرَابَات

- ‌وَأما الَّذِي يَأْتِي الْبَهِيمَة

- ‌مِثَال مَا يغرمون فِيهِ الْأَمْوَال

- ‌وَقد حكمُوا على قَاتل عَبده

- ‌وَأما قَاتل الْخَطَأ

- ‌وعَلى الْجُمْلَة

- ‌مُطَالبَة وَهِي أَنا نقُول لَهُم

- ‌مَسْأَلَة فِي الصلوبية وَقَوْلهمْ فِيهَا

- ‌قَالُوا

- ‌ مِنْهَا

- ‌‌‌وَمِنْهَا

- ‌وَمِنْهَا

- ‌وَمِنْهَا

- ‌مَسْأَلَة فِي تَركهم الْخِتَان

- ‌فأولها

- ‌وَثَانِيها

- ‌وَثَالِثهَا

- ‌وَرَابِعهَا

- ‌وَهل يصلح الْعَطَّار مَا أفسد الدَّهْر

- ‌مَسْأَلَة فِي أعيادهم المصانة

- ‌مَسْأَلَة فِي قُرْبَانهمْ

- ‌أَحدهَا

- ‌مَسْأَلَة فِي تقديسهم دُورهمْ وَبُيُوتهمْ بالملح

- ‌مَسْأَلَة فِي تصليبهم على وُجُوههم فِي صلَاتهم

- ‌مَسْأَلَة فِي قَوْلهم فِي النَّعيم وَالْعَذَاب الأخراوين

- ‌الْفَنّ الثَّانِي

- ‌تمهيد

- ‌أَحدهمَا

- ‌وَالْغَرَض الثَّانِي

- ‌وَفِي هَذَا الْفَنّ فصلان

- ‌الْفَصْل الأول

- ‌الْفَصْل الثَّانِي

- ‌مُلْحق

- ‌المبحث الثَّالِث

- ‌أَولا النبوءات

- ‌يَوْم الرب

- ‌ثَانِيًا تَغْيِير التَّوْرَاة

- ‌عالمية الْملَّة النَّصْرَانِيَّة

الفصل: ‌ ‌الْفَصْل الثَّانِي دفاع عَن الْإِسْلَام أعلم أَن النَّصَارَى يعيبون دين الْإِسْلَام ويقبحونه

‌الْفَصْل الثَّانِي

دفاع عَن الْإِسْلَام

أعلم أَن النَّصَارَى يعيبون دين الْإِسْلَام ويقبحونه عِنْد جهالهم وعامتهم بِأُمُور من فروع الْإِسْلَام لَا يَنْبَغِي لمنصف أَن يعيبها وَلَا يعيب شرعا هِيَ فِيهِ

وَقد كُنَّا بَينا فِيمَا تقدم أَنه لَا يَنْبَغِي أَن ننبذ الشَّرَائِع أَو نجحدها بِمَا تجوزه الْعُقُول بل يتلَقَّى ذَلِك المجوز عقلا الَّذِي جَاءَت بِهِ الشَّرَائِع بِالْقبُولِ إِذا علم صدق ذَلِك الشَّرْع بل يَنْبَغِي للعاقل أَن ينظر فِي دَلِيل صدق ذَلِك الشَّرْع فَإِن وجده دَلِيلا صَحِيحا قبل مِنْهُ كل مَا يَقُول فَإِنَّهُ صَادِق والصادق لَا يَقُول مَا تكذبه الْعُقُول نعم قد يَقُول مَا يقصر الْعقل عَن إِدْرَاكه وَلَيْسَ ذَلِك طَعنا على قَول الصَّادِق وَإِنَّمَا الْعَجز فِي حق الْعقل فَلَيْسَ كل مَا تَأتي بِهِ الشَّرَائِع يعرف الْعقل جَوَازه قبل وُقُوعه بل قد يكون مِنْهُ مَا يجهله

وَهَذَا بَين عِنْد الْفَهم الْمنصف وَقد كُنَّا قَررنَا ذَلِك بأبلغ من هَذَا فِيمَا تقدم

فَإِذا تقرر ذَلِك قُلْنَا لِلنَّصَارَى كَانَ يجب عَلَيْكُم أَن تنظروا فِي الْأَدِلَّة الَّتِي بهَا اسْتدلَّ هَذَا النَّبِي على صدقه فَإِذا صحت لزمكم قبُول قَوْله وَإِن لم تصح لديكم رددتم كُلية شَرعه وَلَا تعترضوا بِبَعْض مَا جَاءَ بِهِ مِمَّا يجوزه الْعقل على مَا تقرر

وَنحن قد أثبتنا الْأَدِلَّة القاطعة على صدقه وأنواعها فَيجب عَلَيْكُم أَن تقبلُوا شَرعه إِذْ قَالَ أَنا رَسُول الله إِلَى النَّاس كلهم وَإِلَى الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَقد ظهر صدقه فِي قَوْله وَإِن لم تَفعلُوا فقد وَجَبت عَلَيْكُم اللَّعْنَة وحاقت بكم الطامة {وَسَيعْلَمُ الْكفَّار لمن عُقبى الدَّار}

ص: 447

وَنحن نذْكر إِن شَاءَ الله تَعَالَى مَا اعْترضُوا بِهِ على ديننَا ونحكي اعتراضهم كَمَا ذَكرُوهُ فِي كتبهمْ ونسبوه إِلَى أساقفتهم

قَالَ صَاحب كتاب الْحُرُوف بعد أَن ذكر وَصِيَّة عِيسَى الَّتِي قَالَ فِيهَا احْذَرُوا أَنْبيَاء الْكَذِب الَّذين يأتونكم بلباس الحملان يَعْنِي سمة الْأَبْرَار وزي الْعباد وَبَاطِنهمْ ذئاب خاطفة قَالَ بعد ذَلِك معرضًا بنبينا ومستنقصا لديننا وَقد رَأينَا نَفاذ قَوْله هَذَا فبمن ادّعى النُّبُوَّة فأظهر سمة الحملان ثمَّ عمل عمل الذئاب فَأمر بِخِلَاف هَذِه الْوَصَايَا من الْعَدَاوَة للنَّاس عَامَّة والتحريض على قتل من خَالفه وَالْأَمر بِالْقصاصِ والإنتقام

ثمَّ أَمر بالإكثار من النِّسَاء وَرخّص فِي طلاقهن وَأحل تَزْوِيج المطلقات الفاجرات ثمَّ ردهن إِلَى الْأزْوَاج الْأَوَّلين بعد طَلَاق ثَان وَأحل ذَلِك لَهُنَّ من الرجل الثَّانِي إِلَى الأول ثمَّ مَا وصف الله بِهِ من الْجور والقساوة وَالظُّلم إِذْ زعم أَنه يهدي بَعْضًا ويضل بَعْضًا

وَقَالَ القوطي الَّذِي قدمنَا ذكره لَا فَائِدَة فِي شريعتكم لأَنا نجد الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة حكمين الأول التوراوي الَّذِي هُوَ من لطمك فالطمه

الآخر الإنجيلي الَّذِي هُوَ من لطم خدك الْيُمْنَى فانصب لَهُ الْيُسْرَى

وَأَنت ترى فضل هَذَا على الأول ثمَّ لَا تَجِد لهذين الْحكمَيْنِ ثَالِثا إِلَّا كَانَ دَاخِلا فيهمَا

هَذَا مُنْتَهى مَا يعْتَرض بِهِ من ينتمي إِلَى النّظر من أقستهم وَإِن كَانَ بَعيدا عَن التَّحْقِيق

وَأما عامتهم وَمن لَا مبالاة بهم فقد تَقولُوا العظائم وجاهروا

ص: 448

بالتواقح والشتائم وَنحن نجيب هذَيْن الْقسمَيْنِ على مَا قَالَاه جَوَابا يرفع الإشتباه وَنَرْجُو بِهِ التَّقَرُّب من الْإِلَه فَنَقُول للْأولِ

أما استدلالك على رد نبوة نَبينَا بقول عِيسَى فتجهيل للعامة وتلبيس عَلَيْهِم فَإنَّك أدخلته فِي جملَة أَنْبيَاء الْكَذِب وَقد شهد الْأَنْبِيَاء بصدقه كَمَا قدمنَا بل قد شهد كتابك بصدقه وبنبوته فَإِنَّهُ قد جَاءَ فِيهِ من قَول عِيسَى مَالا يمكنك إِنْكَاره حَيْثُ ذكر البرقليط وَأخْبر أَنه يَأْتِي وَوَصفه بِمَا يَنْبَغِي لَهُ وَقد قدمنَا ذَلِك مُسْتَوفى

فَهَذَا مِنْك ياهذا جهل بكتبك وَتَكْذيب لأنبيائك ورسلك وَإِنَّمَا الَّذِي حذر مِنْهُ عِيسَى وَغَيره من الْأَنْبِيَاء إِنَّمَا هم أَنْبيَاء الْكَذِب كَمَا قَالَ وَلم تزل الْأَنْبِيَاء يحذرون من الْأَنْبِيَاء الْكَذَّابين

وَلَقَد أَكثر من مثل هَذَا التحذير نَبينَا عليه السلام حَتَّى قَالَ يكون فِي آخر الزَّمَان ثَلَاثُونَ كذبا كلهم يزْعم أَنه نَبِي وَأَنا خَاتم النَّبِيين فَلَا رَسُول بعدِي وَلَا نَبِي وَقد وجد بَعضهم وَلَا بُد من أَن يُوجد الْبَاقِي كَمَا قَالَ الصَّادِق

وَأما قَوْلك أَن سمة نَبينَا سمة الحملان وَعَمله عمل الذئاب فكذب صراح وإفك وقاح وَنحن قد بَينا سمته وَعَمله ومنهاجه وَقد عرف حَاله الْقَرِيب والبعيد بل سمته سمت الْأَنْبِيَاء وَعَمله عَمَلهم وَلَا فرق بَينه وَبينهمْ إِلَّا أَنه أفضلهم وأكملهم وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لِأَن فِي صحف أشعياء أَنه قَالَ أَتَت أَيَّام الإفتقادات أَيَّام الْكَمَال ثمَّ قَالَ لِتَعْلَمُوا يَا بني إِسْرَائِيل الْجَاهِلين أَن الَّذِي تسمونه ضَالًّا هُوَ صَاحب النُّبُوَّة تفترون بذلك على كَثْرَة ذنوبكم وَعظم فجوركم

وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّمَا عَنى نَبينَا وَلم يرد غَيره لِأَنَّهُ قَالَ يَا بني إِسْرَائِيل وَهَذَا خطاب لجميعهم وَلم تكذب جَمِيع بني إِسْرَائِيل بنبوة نَبِي إِلَّا نبوة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم إِلَى غير ذَلِك مِمَّا تقدم وَأما عِيسَى وَغَيره فَكَانَ مِنْهُم من آمن بِهِ وَصدقه على مَا هُوَ مَعْرُوف

وَأما قَوْلك أَمر بِخِلَاف هَذِه الْوَصَايَا من العدواة للنَّاس فكذب وتشنيع لَا يرضى بِهِ سفلَة النَّاس بل قد أَمر بالألفة والإجتماع والتحاب فِي الله والمؤاخاة فِي ذَاته والتعاون على الْبر وَالتَّقوى وَنهى عَن التباغض والتدابر والتخاذل على مَا بَيناهُ من شَرعه

ص: 449

وكل ذَلِك من حَاله وحالهم مَعْرُوف بِحَيْثُ لَا يجهل ومشهور بِحَيْثُ لَا يُنكر نعم رَحمته للْمُؤْمِنين وغلظته على الْكَافرين

وَكَذَلِكَ وَصفه الله فِي كتبه وعَلى لِسَان رسله قَالَ الله الْعَظِيم فِي مُحكم وحيه الْكَرِيم {لقد جَاءَكُم رَسُول من أَنفسكُم عَزِيز عَلَيْهِ مَا عنتم حَرِيص عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رؤوف رَحِيم} وَكَذَلِكَ كَانَت أَحْوَال أَصْحَابه قَالَ الله تَعَالَى {مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم} وَلَيْسَ كَمَا تقولونه أَنْتُم عَن أَصْحَاب عِيسَى أَنه لما تقبضت الْيَهُود عَلَيْهِ فروا عَنهُ وأنكروه وحلفوا على أَنهم لم يعرفوه فأسلموه وتركوه

وَقد بَينا فِيمَا تقدم مَا ذكرت الْأَنْبِيَاء من أَوْصَافه وعَلى أَنه لم يغلظ على الْكَافرين حَتَّى تمردوا على الله وكذبوا رسالات الله وَذَلِكَ أَنه أَقَامَ بَين أظهرهم عشر سِنِين أَو نيفا عَلَيْهَا يَدعُوهُم إِلَى الله على سَبِيل الْوَعْظ والإنذار والتعليم والتبليغ وَإِظْهَار الْآيَات والعجائب ملينا لَهُم القَوْل ومظهرا لَهُم الإشفاق وباذلا لَهُم النَّصِيحَة صَابِرًا بِنَفسِهِ على مَا يلقى من أذاهم وَمن سبهم وهم مَعَ ذَلِك يبالغون فِي ضَرَره بِكُل مَا يُمكن وَكلما ألح عَلَيْهِم بالإنذار زادوا فِي الْإِضْرَار حَتَّى هموا بقتْله وطرده عَن بَلَده وَأَهله

وَبعد ذَلِك أمره الله بالإنتصار مِمَّن ظلمه وَإِخْرَاج من أخرجه وَلذَلِك أنزل الله تَعَالَى عَلَيْهِ {أذن للَّذين يُقَاتلُون بِأَنَّهُم ظلمُوا وَإِن الله على نَصرهم لقدير}

وَأما قَوْله والتحريض على قتال من خَالفه فَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَن يعاب بِهِ دين فَإِن الْكَافِر بِالْحَقِّ لَا حُرْمَة لَهُ وجنايته أكبر من كل جِنَايَة فعقوبته يَنْبَغِي أَن تكون أكبر من كل عُقُوبَة لَا سِيمَا بعد أَن تقدم للْكَافِرِينَ بالأعذار وبولغ لَهُم فِي الْإِنْذَار وَلأَجل أَن الْكَافِر لَا حُرْمَة لَهُ عِنْد الله يُعَاقِبهُ فِي الدَّار الْآخِرَة عُقُوبَة لَا إنقطاع لَهَا بإتفاق الشَّرَائِع

وَإِن جَازَ أَن يعاب شرعنا لِأَنَّهُ جَاءَ بِقِتَال الْكَافرين جَازَ أَن يعاب شرع مُوسَى فَإِنَّهُ جَاءَ بِقِتَال الجبارين على مَا لَا يخفى على

ص: 450

أحد من المتشرعين فقد لزم هَذَا الْمُنكر لشرعنا من حَيْثُ أَنه شرع فِيهِ الْقِتَال أَن يُنكر مَا يدين بِهِ ويعتقده من شرع مُوسَى بن عمرَان وَيَنْبَغِي لَهُ أَن يسفه فعل يشوع بن نون حَيْثُ أذاق الجبارين أَشد الْقَتْل وَأعظم الْهون ثمَّ أعجب من ذَلِك جهلهم بِمَا فِي كتبهمْ أَو مجاهرتهم بإنكارها

وَذَلِكَ أَنه يَجدونَ فِي كتبهمْ أَوْصَاف النَّبِي صلى الله عليه وسلم ويجدون فِيهَا أَنه يبْعَث بِالْقَتْلِ وَالسيف ثمَّ يُنكرُونَ ذَلِك ويباهتون فِيهِ وَقد ذكرنَا من ذَلِك مَا فِيهِ كِفَايَة وَمن ذَلِك مَا قد جَاءَ فِي كتاب أشعياء أَنه أخبر عَن هزيمَة الْعَرَب وَقتل اشرافهم فَقَالَ لما ذكر النَّبِي صلى الله عليه وسلم يدوسون الْأُمَم كدوس البيادر وَينزل الْبلَاء بمشركي الْعَرَب وينهزمون ثمَّ قَالَ وينهزمون بَين يَدي سيوف مسلولة وقسى موتورة من شدَّة الملحمة

وَكَذَلِكَ قَالَ حبقوق تضيء لنوره الأَرْض وستنزع فِي قسيك إغراقا وترتوي السِّهَام بِأَمْرك يَا مُحَمَّد إرتواء وَهَذِه نُصُوص على إسمه وَصفته كَمَا تقدم

وَقد أَشَارَ إنجيلكم إِلَى هَذَا فَإِنَّكُم تَزْعُمُونَ أَن عِيسَى قَالَ لتلاميذه إِنِّي كنت أرسلتكم وَلَيْسَ مَعكُمْ مزود وَلَا خف فَهَل ضركم ذَلِك أَو نقصكم شَيْئا قَالُوا لَا قَالَ أما الْآن فَمن لم يكن لَهُ كيس فليأخذ كيسا ومزود فليشتر مزودا وَمن لم يكن لَهُ سيف فليبع من ثِيَابه وليشتر سَيْفا

فَأَمرهمْ بإشتراء السيوف لِلْقِتَالِ بعد أَن كَانَ نَهَاهُم عَن الْقِتَال لعلمه أَن مُحَمَّدًا يبْعَث بعده بِالسَّيْفِ وَهَذَا كثير بِحَيْثُ لَا يحْتَمل التَّأْوِيل

ص: 451

وَخير من ذَلِك كُله أَنهم قد ذكرُوا فِي إنجيلهم أَن عِيسَى قَالَ لَهُم لَا تحسبوا أَنِّي قدمت لأصلح بَين أهل الأَرْض لم آتٍ لاصلاحهم لَكِن لألقى الْمُحَاربَة بَينهم إِنَّمَا قدمت لأفرق بَين الْمَرْء وإبنه وَالْمَرْأَة وإبنتها وأعداء الْمَرْء أهل بَيته

وَهَذَا نَص بِأَن عِيسَى إِنَّمَا جَاءَ بالمحاربة وإلقاء الْعَدَاوَة بَين النَّاس وَهَذَا عين مَا أنكروه علينا ثمَّ قد زَاد وَأَعْلَى ذَلِك أَنهم حكوا أَنه قَالَ لم آتٍ لأصلح أهل الأَرْض لم آتٍ لإصلاحهم وَظَاهر هَذَا إِنَّمَا جَاءَ بِفساد أهل الأَرْض

وَهَذَا لايصح أَن يَقُوله عِيسَى عليه السلام وَلَا غَيره من الْأَنْبِيَاء وَهُوَ من كذبهمْ وتحريفهم وَقد قدمنَا ذَلِك فِيمَا سبق وَمن الْعجب أَنهم يَقُولُونَ أَن مِلَّة الْمَسِيح وشريعته لم تأت بِقِتَال ويتمدحون بِأَنَّهَا لم تظهر بِقِتَال وَإِنَّمَا ظَهرت بِمَا ظهر على أَيدي الحواريين من الْعَجَائِب وهم مَعَ ذَلِك يعترفون بمحاربة قسطنطين وبمقاتلته من خَالفه وَأَنه الَّذِي تلقيت عَنهُ الشَّرِيعَة الصليبية فَإِنَّهُ أرى فِي النّوم صُورَة الصَّلِيب وَقيل لَهُ بِهَذَا تنصر فَفعله وأعتقده وَقَاتل فنصر

وأعجب من ذَلِك تَلبسهمْ بِالْقِتَالِ والإكثار مِنْهُ أَبَد الدَّهْر إِلَى الْيَوْم وهم مَعَ ذَلِك يدعونَ أَن الْقِتَال غير مَشْرُوع لَهُم ويذمون الشَّرِيعَة الَّتِي جَاءَت بِهِ فهم قد ناقضت أفعالهم أَقْوَالهم وَشهِدت على كذبهمْ أَحْوَالهم ثمَّ نقُول لقسطنطين ولجماعة النَّصَارَى المقاتلين

قتالكم من خالفكم لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون مَشْرُوعا لكم أَو غير مَشْرُوع لكم فَإِن كَانَ مَشْرُوعا لكم فلأي معنى تخالفونا فِي ذَلِك وتذموا شرعنا لأَجله وَإِن لم يكن مَشْرُوعا لكم فلأي معنى تركْتُم شرعكم وفعلتم خِلَافه

وَكَيف حل لكم ذَلِك فَأنْتم بَين أَمريْن قبيحين عَلَيْكُم إِمَّا أَن تعترفوا بِأَن قتال الْأَعْدَاء جَائِز حسن فَلَا تَذُمُّوا شرعنا لأَجله وَإِمَّا أَن تعترفوا بِأَنَّهُ غير جَائِز وقبيح فيلزمكم التَّنَاقُض والسفه وَالْخُرُوج عَن شَرِيعَة الْمَسِيح فَأنْتم على الْمثل السائر أَعور بِأَيّ عَيْنَيْهِ شَاءَ

ص: 452

فَإِن قَالُوا إِنَّمَا نقتصر بِالْقِتَالِ لأنفسنا ونمتنع مِمَّن يُرِيد بِهِ ظلمنَا قُلْنَا وَمن شرع لكم أَن تنتصفوا مِمَّن ظلمكم أَو تنتصروا لأنفسكم بل قد حكيتم فِي إنجيلكم أَنه قَالَ لكم احْفَظُوا أعداءكم وأكرموا من أَسَاءَ إِلَيْكُم فَإِن لم تحفظُوا إِلَّا إخْوَانكُمْ فَمَا أجرؤكم على ذَلِك

وَهَذَا نَص على أَنه يَنْبَغِي لكم أَن تستسلموا عَن قاتلكم وَلَا تنتصروا مِمَّن ظلمكم فَإِن لم تَفعلُوا ذَلِك فقد تركْتُم شرعكم واستهنتم بِسنة نَبِيكُم ثمَّ يلزمكم على ذَلِك أَن تعترفوا بِأَن شرعكم نَاقص إِذْ قد بَين لكم نَبِيكُم بعض الْمصَالح وَترك بَعْضهَا وَهُوَ الْقِتَال الَّذِي استدركتموه بنظركم من حَيْثُ كَانَ ضَرُورِيًّا ومحتاجا إِلَيْهِ وتعترفوا بِكَمَال الشَّرْع الَّذِي جَاءَ بِالْقِتَالِ الَّذِي هُوَ شرعنا

وَعند هَذَا يتَبَيَّن فَسَاد قَوْلهم إِن الحكم حكمان لَا ثَالِث لَهما وَيفْسد عيبهم علينا الْقصاص وَذَلِكَ أَنهم يَزْعمُونَ أَن حكم التَّوْرَاة يقتضى الْقصاص وَحكم الْإِنْجِيل يقتضى الْعَفو ثمَّ زعم ذَلِك الْجَاهِل أَن لَا حكم ثَالِث وَلم يشر بثالث متوسط هُوَ أكملهما وأتمهما وَهُوَ الحكم الفرقاني حَيْثُ قَالَ الله الْعَظِيم {وَإِن عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمثل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهو خير للصابرين} وَقَالَ {وَلمن صَبر وَغفر إِن ذَلِك لمن عزم الْأُمُور} وَقَالَ تَعَالَى {وَلمن انتصر بعد ظلمه فَأُولَئِك مَا عَلَيْهِم من سَبِيل}

ثمَّ الْعجب من هَؤُلَاءِ الْجُهَّال كَيفَ يذمون شريعتنا ويكذبونها من حَيْثُ أَنَّهَا تَضَمَّنت الْقصاص ويؤمنون بشريعة مُوسَى وَقد صرحت بِالْقصاصِ فيلزمهم على قَوْلهم أَن يكذبوا بشريعة مُوسَى ويذمونها من ذَلِك الْوَجْه

ثمَّ أعجب من ذَلِك كُله مدحهم شريعتهم من حَيْثُ كَانَت مَبْنِيَّة على الْعَفو والصفح ثمَّ مَعَ ذَلِك أَبَوا أَن يجوزوا عَفْو الله تَعَالَى عَن آدم حِين أكل من الشَّجَرَة حَتَّى قَالُوا أَن جَمِيع بني آدم

ص: 453

كَانُوا مرتهنين بِمَعْصِيَة أَبِيهِم حَتَّى فداهم الْمَسِيح بِنَفسِهِ بل لم يتَصَوَّر عِنْدهم عَفْو الله حَتَّى انتقم من إِلَه مثله تَعَالَى الله وتقدس عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علوا كَبِيرا

فعلى هَذَا نقُول لَهُم لَا يَخْلُو الْعَفو من أَن يكون هُوَ الأولى مُطلقًا أَو الإنتقام هُوَ الْأَفْضَل أَو الْحَالة الثَّالِثَة فَإِن كَانَ الْعَفو هُوَ الأولى فَلم لم يعف الله تَعَالَى عَن آدم من غير أَن يُعَاقِبهُ وبنيه على مَا زعمتم وَإِن كَانَ الإنتقام هُوَ الأولى فَلم لم ينْتَقم من آدم وبنيه مُطلقًا

فَلم يبْق على هَذَا إِلَّا أَن الأولى هُوَ الْحَالة الثَّالِثَة وَهُوَ الإنتقام فِي حَال من مُسْتَحقّه وَالْعَفو فِي حَال أُخْرَى عَن مُسْتَحقّ الْعقَاب تفضلا وتكرما حسب مَا يُريدهُ الْبَارِي تَعَالَى

وعَلى هَذَا الْمِنْهَاج السديد وَالْأَمر الرشيد جَاءَت شريعتنا فَهِيَ كَامِلَة متممة والحمدلله ثمَّ إِذا كَانَ الْعَفو هُوَ الأولى وَالْأَفْضَل وَبِه جَاءَت شريعتكم فلأي معنى تتركون شريعتكم الأولى

فقد اعترفتم بألسنتكم وتناقضتم بأفعالكم وَكم لكم مِنْهَا وَكم

وَأما إعتراضه على شرعنا بتحليل نِكَاح الْكثير من النِّسَاء فَذَلِك مَالا يَنْبَغِي أَن يُنكره أحد من الْعُقَلَاء فَإِنَّهُ من مجوزات الْعُقُول وَقد ورد بذلك الشَّرْع الصَّادِق الْمَنْقُول ثمَّ قد ورد عَن جمَاعَة من الرُّسُل وَقد جَاءَت بذلك الْكتب ألم يَجِيء فِي التَّوْرَاة أَن إِبْرَاهِيم كَانَت لَهُ سارة وَهَاجَر وَكَذَلِكَ ورد فِيهَا أَن يَعْقُوب جمع بَين أُخْتَيْنِ ليئة وراحيل وَقد ثَبت أَيْضا أَن سُلَيْمَان كَانَت لَهُ مائَة إمرأة أَو تِسْعَة وَتسْعُونَ بل قد روى فِي الْإسْرَائِيلِيات أَنه كَانَ لَهُ ثَلَاث مائَة إمرأة حرَّة وَسبع مائَة سَرِيَّة

فَإِن كَذبْتُمْ شرعنا لأجل أَنه اشْتَمَل على جَوَاز نِكَاح نسَاء كَثِيرَة فلتكذبوا بنبوة إبراهم وَيَعْقُوب وَسليمَان وَلَا فرق بَين نَبينَا وَبَين هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاء فِي أَن كل وَاحِد مِنْهُم رَسُول الله يبلغ

ص: 454

حكم الله فَمَا لكم تنكرون مَا بِمثلِهِ تعترفون وتكذبون عين مَا تصدقُونَ فَلَعَلَّ الْمَعْتُوه الَّذِي لَا يعرف مابه يفوه

ثمَّ لَا يُنكر عَاقل حِكْمَة الله تَعَالَى فِي شَرْعِيَّة كَثْرَة النِّسَاء إِذْ مَقْصُوده بذلك إِنَّمَا هُوَ تَكْثِير النَّسْل وَعمارَة الدُّنْيَا بِالذَّرَارِيِّ ليكْثر الصالحون لما أَرَادَ الله بهم من الْكَرَامَة وليكثر الطالحون لما أَرَادَ الله بهم من الشقاوة والتعذيب ولتنفذ على خلقه أَحْكَامه وتجري عَلَيْهِم أقداره {لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون}

وَأما إعتراضه بِالطَّلَاق ورد المطلقات فقد تقدم ذكره على أوضح المقالات وأشفينا فِي الْجَواب على أحسن الغايات فلينظره من أَرَادَهُ فِي بَاب النبوات

وَأما إعتراضهم على إعتقادنا أَن الله يهدي من يَشَاء ويضل من يَشَاء فقد قدمنَا فِيهِ قولا كَافِيا وَلَكنَّا مَعَ ذَلِك نؤيده أيضاحا فَنَقُول

قد قَامَ الدَّلِيل الْقَاطِع والبرهان الصادع على أَن الله تَعَالَى مُنْفَرد بِخلق الموجودات ومريد لكل الحادثات لَا يخرج عَن قدرته مُمكن وَلَا يشذ عَن إِرَادَته حَادث وَالْهدى والضلال من الْحَوَادِث فَإِذن هما مستندان إِلَيْهِ وموجودان بإرادته وَتَحْقِيق هَذَا الْبُرْهَان يعرف فِي مَوْضِعه

ثمَّ نقُول لَا يشك عَاقل أَن الْهدى والضلال وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا أُمُور محدثة وأفعال مَوْجُودَة بعد أَن لم تكن وكل فعل مُحدث فَلَا بُد لَهُ من فَاعل مُحدث بِالضَّرُورَةِ ففاعل الْهدى والضلال وخالقهما إِمَّا أَن يكون الله سُبْحَانَهُ أَو غَيره محَال أَن يكون غير الله لِاسْتِحَالَة وجود خالقين وَيلْزم مِنْهُ إمتناع الْخلق كَمَا قدمنَا حِين ذكرنَا دلَالَة التمانع فَلم يبْق إِلَّا أَن يكون الْفَاعِل هُوَ الله تَعَالَى إِذْ لَا خَالق إِلَّا هُوَ وَلَا مبدع سواهُ

ثمَّ نقُول لِلنَّصَارَى صلب الْمَسِيح وَقَتله إِمَّا أَن يكون ضلالا وَإِمَّا أَن يكون هدى ومحال أَن يكون هدى فَإِنَّكُم تكفرون من فعل ذَلِك

ص: 455

وتضللونهم وَلأَجل ذَلِك الْفِعْل حاق الْغَضَب وحاقت اللَّعْنَة على الْيَهُود بزعمكم فَلم يبْق إِلَّا أَن يكون ضلالا

وَإِذا كَانَ كَذَلِك فقد لزمكم أَن الله فعل الضلال فَإِنَّكُم قد صرحتم بِأَن الله إِنَّمَا فعل ذَلِك لأجل خطية آدم وَلَا من أحد من وَلَده وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن ينْتَقم من إِلَه مثله فقد صرحتم ونصصتم أَن الله تَعَالَى أَرَادَ الضلال وَفعله على أقبح مَا سمع وأشنع مَا بِهِ يتحدث ثمَّ إِنَّا لَا ندير مِمَّا يكون التَّعَجُّب أَكثر إِن كَانَ من ذهَاب عقولكم أَو من جهلكم بكتبكم

فَأَما نقص عقولكم فَإِنَّكُم تَقولُونَ أقوالا تتناقضون فِيهَا وَلَا تشعرون وتلتزمون ضروبا من المحالات وتنكرون أمورا جائزات كَمَا قدمنَا آنِفا وَلم نزل نبين ذَلِك من أول كلمة من هَذَا الْكتاب إِلَى آخِره

وَأما جهلكم بكتبكم فقد جَاءَ فِي كتابكُمْ نصا هَذَا الْمَعْنى الَّذِي أنكرتموه علينا وَذَلِكَ أَن عِيسَى قَالَ حِين دنا أَجله يَا أبتاه إِنَّك قَادر على جَمِيع الْأَشْيَاء فزح عني هَذِه الكأس وَلَكِن لست أَسأَلك أَن تفعل مشيئتي بل مشيئتك وَهَذَا نَص على أَن الله على كل شَيْء قدير وَأَنه يفعل مَا يُرِيد وَأَنه أَرَادَ صلب الْمَسِيح بزعمكم وَكَانَ ضلالا للْيَهُود بِلَا شكّ

فَمَا لكم تخبطون وَعَن كتبكم تعرضون بل أَنْتُم عَن عقولكم مصروفون وَفِي ورطة الْجَهْل مرتبكون وَفِي بحبوحة الضلال عمهون

فَلَقَد صدق الَّذِي قَالَ الْيَهُود مغضوب عَلَيْهِم وَالنَّصَارَى ضلال

وَالْكَلَام على الْهدى والضلال والطبع والختم يَسْتَدْعِي تَطْوِيلًا وشرحا وتفصيلا وَمن طلبه وجده إِذا ساعده التَّحْقِيق ورافقه التَّوْفِيق

وَقد حصل غرضنا من مكالمة هَؤُلَاءِ وإفحامهم والحمدلله

وَأما قَوْله ودعواه أَنا وَصفنَا الْبَارِي تَعَالَى بالجور والقساوة وَالظُّلم فعلى الْمثل السائر رمتني بدائها وانسلت

ص: 456

أما نَحن فننزه الله تَعَالَى عَن كل مَا ذكر وَلَا نقُول بقول يُؤَدِّي إِلَى ذَلِك وَكَيف يَصح فِي حَقه تَعَالَى الظُّلم والجور وَهُوَ إِنَّمَا يتَصَرَّف فِي ملكه وَملكه وخلقه وَلَا يجب عَلَيْهِ لأحد من خلقه حق بل هُوَ متفضل بِكُل مَا يفعل وَإِنَّمَا يتَصَوَّر الظُّلم والجور فِي حق من تصرف فِي ملك غَيره أَو عدل عَن فعل مَا وَجب عَلَيْهِ وَهَذَا كُله فِي حق الله تَعَالَى محَال

وَإِنَّمَا يلْزم وَصفه بالظلم والجور والقساوة لمن قَالَ إِن آدم عَصَاهُ ثمَّ جعل ذَنبه على جَمِيع وَلَده ثمَّ لم يقنع بِشَيْء من دِمَائِهِمْ بل وَلَا من دِمَائِهِمْ كلهم حَتَّى انتقم من اله مثله وأجرى دَمه على خَشَبَة الصَّلِيب فَهَذَا ظلم من حَيْثُ حمل الذَّنب من لم يَفْعَله وجور من حَيْثُ قتل إِلَهًا لأجل لقْمَة من شَجَرَة أكلهَا غَيره وقساوة من حَيْثُ قتل وَلَده وحبيبه فِي عَبده العَاصِي عنْدكُمْ وَلم يعف

نَعُوذ بِاللَّه من هَذِه القبائح وَمن إلتزام هَذِه الفضائح وتتبع جهالات الْجُهَّال بِحَق مَعْقُول العقال

على أَن كَلَام هَؤُلَاءِ الْقَوْم لَا يسْتَحق أَن يسمع إِذْ لَيْسَ لَهُم فِي الْعُقُول مطمع ولكثرة فَسَاد كَلَامهم يحار النحرير النَّاظر فِي هذيانهم فيظل مُتَعَجِّبا وينشد متمثلا

تَفَرَّقت الظباء على خرَاش

فلايدري خرَاش مَا يصيد

وَأَنا أكرر الإستغفار من حكايات كَلَامهم وأسأله النَّفْع بِإِظْهَار فَسَاد مرامهم وَمَعَ ذَلِك فقد أصبْنَا مِنْهُم غَرضا وصادفنا مِنْهُم مقتلا وَلَئِن زادوا زِدْنَا وَإِن عَادوا عدنا

إِن عَادَتْ الْعَقْرَب عدنا لَهَا

وَكَانَت النَّعْل لَهَا حَاضِرَة

وَيَنْبَغِي أَن نختم الْكتاب بِدُعَاء مأثور عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَلَعَلَّ الْوَاقِف على كتابي هَذَا يُؤمن عِنْد خاتمته وَعَسَى الله أَن يشركنا فِي صَالح دَعوته

ص: 457

فَأَقُول اللَّهُمَّ اقْسمْ لنا من خشيتك مَا تحول بَيْننَا وَبَين مَعَاصِيك وَمن طَاعَتك مَا تبلغنَا بِهِ جنتك وَمن الْيَقِين مَا تهون بِهِ علينا مصائب الدُّنْيَا وَمَتعْنَا بأسماعنا وأبصارنا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا واجعله الْوَارِث منا وَاجعَل ثَأْرنَا على من ظلمنَا وَانْصُرْنَا على من عَادَانَا وَلَا تجْعَل مُصِيبَتنَا فِي ديننَا وَلَا تجْعَل الدُّنْيَا أكبر هَمنَا وَلَا مبلغ علمنَا وَلَا تسلط علينا من لَا يَرْحَمنَا آمين آمين

والحمدلله رب الْعَالمين وَالصَّلَاة على مُحَمَّد سيد الْمُرْسلين وَسَلام عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم فِي الْعَالمين وعَلى صَحبه أَجْمَعِينَ وعَلى التَّابِعين لَهُم بِإِحْسَان إِلَى يَوْم الدّين

نجز الْكتاب الْمُبَارك بحمدالله وعونه وَحسن توفيقه على يَد العَبْد الْفَقِير إِلَى الله تَعَالَى عَليّ بن مُحَمَّد بن عانبه الفيومي نسبا وَالشَّافِعِيّ مذهبا حامدا لله ومصليا وَمُسلمًا على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وعَلى جَمِيع الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ فِي سَابِع عشْرين شهر ربيع أول سنة تسع وَسبعين وثماني مائَة

قَالَ فِي أصل النُّسْخَة وَكَانَ الْفَرَاغ مِنْهُ ضحوة سادس شهر شعْبَان سنة سِتّ وَعشْرين وَسبع مائَة بِدِمَشْق المحروسة والحمدلله رب الْعَالمين

تمّ الْجُزْء الرَّابِع من كتاب الْإِعْلَام بِمَا فِي دين النَّصَارَى من الْفساد والأوهام وَإِظْهَار محَاسِن دين الْإِسْلَام وَإِثْبَات نبوة نَبينَا مُحَمَّد عليه الصلاة والسلام وبتمامه تمّ الْكتاب كُله بعون الله وَكَانَ الْفَرَاغ من تَحْقِيقه وَالتَّعْلِيق عَلَيْهِ والتقديم لَهُ فِي يَوْم السَّبَب الْعشْرين من شهر شَوَّال سنة ثَمَان وَتِسْعين وثلثمائة وَألف من الْهِجْرَة الْمُوَافق الثَّالِث وَالْعِشْرين من شهر سبتمبر سنة ألف وتسعائة وثمان وَسبعين من الميلاد فِي مَدِينَة الْقَاهِرَة

ص: 458