الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْفَصْل الْخَامِس
فِي بَيَان اخْتلَافهمْ فِي الأقانيم
نبين فِي هَذَا الْفَصْل مَذَاهِب أوائلهم ونتكلم مَعَهم فِيهَا ونوضح مسائلهم فِيهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى ونحكى مذاهبهم بألفاظهم كَمَا وَجدتهَا فِي كتبهمْ وَلم أعول فِي ذَلِك على نقل عُلَمَائِنَا عَنْهُم فَقَط بل تتبعت مَا أمكنني من كتبهمْ وَالله الْمُوفق
قَالُوا
لما أفهمتنا الشواهد الْعَقْلِيَّة أَن الْخَالِق لم يزل حَيا وَلم يزل ناطقا قُلْنَا فَهَل يحِق أَن يكون هُوَ بحياته ونطقه شخصا وَاحِدًا جَامعا لأجزاء مُخْتَلفَة كَمَا يُقَال فِي حد الْإِنْسَان أَنه حَيَوَان نَاطِق مائت إِذْ تسمى أَجزَاء جوهره مَعَ أعراضه الْمُخْتَلفَة فِيهِ أقنوما وَاحِدًا شخصا وَاحِدًا وَلَا يُسمى كل جُزْء وكل عرض مِنْهَا أقنوما أنسيا وَذَلِكَ لِأَن اسْم الأقنوم وَاجِب للشَّيْء المستغنى بِذَاتِهِ الْقَائِم بشخصه لالذي الإضطرار ولالذي الإشتباك كالأعراض فَإِن الْأَجْزَاء والأعراض لَا تقوم مكتفية بذواتها كَمَا أَن حر النَّار الَّذِي هُوَ جُزْء من قوى النَّار لَا يقوم بِذَاتِهِ أقنوما مُنْفَردا دون أَصْلِيَّة النَّار وضوئها وَكَذَلِكَ الْأَعْرَاض المشتبكة فِي الْجَوْهَر كالسواد وَالْبَيَاض وَمَا أشب 4 ههما لَا تقوم أشخاصها مكتفية بذواتها دون الْجَوْهَر اللَّازِم لَهَا فالأقنوم هُوَ المستغنى بِذَاتِهِ عَن أصل جوهريته كالإنسان المستغنى بخاصية إنسانه عَن النَّاس والشجرة عَن الْأَشْجَار وَالدِّينَار عَن الدَّنَانِير فامتناع أَجزَاء الْإِنْسَان من الْقيام أشخاصا لاضطرارها وعجزها عَن الْقيام بذواتها كروحه العاجزة عَن الْقيام بتحديدها إنْسَانا دون جِسْمه ونطقه وَكَذَلِكَ نُطْفَة وجسمه يعجز كل وَاحِد مِنْهُمَا عَن الْقيام بتحديده إنْسَانا دون روحه وَذَلِكَ لاضطرار كل جُزْء مِنْهَا إِلَى صَاحبه فِي الْقيام بإنسانيته
فَإِذا تقرر هَذَا فحياة الله ونطقه لَا يَخْلُو من أَن يَكُونَا جزأين من جوهره كَمَا هُوَ من الْإِنْسَان أَو غير جَوْهَرَة فان قُلْنَا هما جزءان من الجوهره ألزمنا مَا يلْزم الْإِنْسَان من الإضطرار والتأليف لأَنا وجدنَا
أَجزَاء الْإِنْسَان لاضطرار بَعْضهَا إِلَى بعض تقصر عَن إحتمال أَسمَاء الأقانيم وَهَذَا يَسْتَحِيل على الْجَوْهَر الأزلي إِذْ هُوَ ومتعالى عَن الْأَجْزَاء والتأليف والتركيب والأعراض فأوجبوا أَن تكون خواصه لغنائه وكمالها تسمى أقانيم قَائِمَة بخواصها ومستحقة الَّذِي تُوصَف بِهِ بجوهرية قديمَة كقدمه لَا جزأين مركبين وَلَا عرضين منفصلين لِأَنَّهُ لم يزل حَيا وناطقا بكلمته
وَمن زعم أَن الْحَيَاة من الله والنطق مِنْهُ محدثان وصف الله تَعَالَى فِي أزليته بِالْمَوْتِ وَالْجهل وَإِن قُلْنَا حَيَاته ونطقه غير جوهره أزليان فقد أشركنا مَعَ الله فِي أزليته غَيره فَلذَلِك يُسمى كل وَاحِد من الرّوح والكلمة جوهرية خَاصَّة فَوَجَبَ أَن يكون جَوْهَر الْخَالِق تَعَالَى أقنوما خَاصّا قَائِما كَامِلا بخاصيه لم يزل ونطقه الَّذِي هُوَ كَلمته أقنوما خَاصّا كَامِلا قَائِما بخاصية لم تزل وروحه أعنى حَيَاته أقنوما خَاصّا كَامِلا بِخَاصَّة لم يزل فَهَذِهِ ثَلَاثَة أقانيم مَعْرُوفَة بمعانيها لَا متفاصلة وَلَا متركبة وَلَا متشابكة جَوْهَر وَاحِد ذَات وَاحِدَة
هَذَا كَلَام صَاحب الْحُرُوف وَهُوَ عِنْدهم القسيس الْمَعْرُوف وَلَقَد رام تَحْسِين مَذْهَبهم وتبيين مطلبهم وَلَكِن لَا يَسْتَوِي الظل وَالْعود أَعْوَج وَلَا يصلح الْمَذْهَب وقائله أهوج
…
وَهل يصلح الْعَطَّار مَا أفسد الدَّهْر
…
وهم مَعَ ذَلِك فِيمَا ذَكرْنَاهُ من الأقانيم مُخْتَلفُونَ وبالحيرة عمهون
هَذَا صَاحب كتاب الْمسَائِل يَقُول هَذِه الثَّلَاثَة الأقانيم متوحدة لأجل الآب مُتَسَاوِيَة لأجل الإبن منتظمة الرّوح فنؤمن أَن الْأَب أَب لأجل أَنه ذُو ابْن والإبن ابْن لِأَنَّهُ ذُو أَب وَالروح الْقُدس منبثق لِأَنَّهُ من الآب والإبن فالأب أَصْلِيَّة الإلهية لِأَنَّهُ كَمَا لَا يَخْلُو قطّ أَن يكون إِلَهًا كَذَلِك لم يَخْلُو قطّ أَن يكون أَبَا الَّذِي الإبن مِنْهُ مَوْلُود وَالَّذِي الرّوح الْقُدس مِنْهُ لَيْسَ مولودا لِأَنَّهُ لَيْسَ ابْنا وَلَا غير مَوْلُود لِأَنَّهُ لَيْسَ مخلوقا لِأَنَّهُ لَيْسَ من شَيْء بل إِلَه منبثق من الآب والإبن إِلَه
وأقنوم الآب غير أقنوم الإبن وأقنوم الإبن غير أقنوم الرّوح الْقُدس لَكِن التَّثْلِيث الْمُقَدّس ذَات وَاحِدَة إلهية وَاحِدَة وَهَذَا تَصْرِيح بِأَن الأقانيم آلِهَة وَإِن كَانَ وَاحِد مِنْهَا غير الآخر
وَقد ذهب شباليش إِلَى أَن الثَّلَاثَة الأقانيم ممتزجة فِي أقنوم وَاحِد وَهُوَ عِنْد كثير مِنْهُم مكفرا وكالمكفر وَقد ذهب آريش إِلَى أَنه إلهية الأقانيم منخزلة ومتبعضة الذَّات وَهُوَ عِنْدهم مفتر خارجي
وَقَالَ صَاحب كتاب الْمسَائِل لسنا نؤمن أَن فِي التَّثْلِيث شَيْئا مخلوقا أَو خَادِمًا كَالَّذي أنشأه دنونيشيش أَو غير معتزل كَقَوْل أونوميش أَو نَاقص الإمتنان كَقَوْل أوتفش أَو مقدما أَو مُؤَخرا أَو صَغِيرا كَقَوْل آريش وَلَا ذَا جَسَد كَقَوْل مالطه وترتليان وَلَا مصورا بالحيدية كَقَوْل أَرْبَد ونمرشيش أَو محجوبا بعضه عَن بعض كَقَوْل أوريان وَلَا مربيا من الْمَخْلُوقَات كَقَوْل فرشاط وَلَا متفرق الإدارة والعوائد كَقَوْل مرحيون وَلَا منقلبا من ذَات التَّثْلِيث إِلَى طبيعة الْمَخْلُوقَات كَقَوْل فلاطون وترتلليان وَلَا مُنْفَردا فِي رُتْبَة مُشْتَركا فِي أُخْرَى كَقَوْل أوريان وَلَا ممتزجا كَقَوْل شباليش بدل كُله كَامِل لِأَنَّهُ كُله وَاحِد وَمن وَاحِد لَا تعدد كزعم شلبانش
وَإِذا وفقت على هَذِه الْأَقَاوِيل الضعيفة والآراء السخيفة لم تشك فِي تخبطهم فِي عقائدهم وحيرتهم فِي مقاصدهم قَالُوا فِي الله تبارك وتعالى بآرائهم وَاتبعُوا فِيهَا ظَاهر أهوائهم فهم فِي ريبهم يَتَرَدَّدُونَ ولجهالهم مقلدون وبضلالهم مقتدرون
وَلما رَأينَا هَذِه الْمذَاهب الرَّكِيكَة لَا تسْتَحقّ أَن تحكى بل يضْحك من ذهَاب عقول أَرْبَابهَا ويبكي أَعرَضت عَنْهَا أَعْرَاض المطلع على عوره أَمَام من يخَاف جوره فعزمت على نقل مَذْهَب كَبِيرهمْ أغشتين فَإِن مذْهبه فِي الأقانيم مقارب فِي الصِّفَات مَذْهَب الْمُسلمين
وَذَلِكَ أَنه قَالَ بعد مُقَدّمَة كَلَام يرجع حَاصله إِلَى مَا نذكرهُ
لما أقرّ عُلَمَاء الْمَجُوس بِالْقُوَّةِ الماسكة لكل شَيْء وَأَرَادَ بَعضهم أَن ينزلوها جوهرا غير حَيّ وَلَا مستغن بِنَفسِهِ وَجب علينا أَن نحتج عَلَيْهِم بِمَا يضمهم إِلَى الْإِقْرَار بِأَن تِلْكَ الْقُدْرَة ذَات علم وَإِرَادَة
قَالَ وَقد رد علينا هَذِه الْمقَالة برفيريش فَقَالَ لَا نقُول أَنه شَيْء فَيكون قد سميناه بالإشياء الَّتِي لَا تسلم من عيب وَلَكنَّا نقُول إِنَّه وَلَا نقُول شَيْء ثمَّ قَالَ ألستم تقرأون أَن الَّذِي قدر هُوَ الَّذِي علم وَأَن الَّذِي علم هُوَ الَّذِي أَرَادَ فَهُوَ وَاحِد فِي جَمِيع الْمعَانِي وَإِنَّمَا الْقُدْرَة وَالْعلم والإرادة أَسمَاء صَارَت فِيمَا بَين الْخلق والمخلوق وَلَيْسَت لَا خالقة وَلَا مخلوقة لِأَنَّهُ لَو لم يكن الشَّيْء الْمَقْدُور لم يسم ذَا قدرَة وَلَو لم يكن الشَّيْء الْمَعْلُوم لم يسم ذَا علم وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْإِرَادَة فَهَذِهِ الْأَسْمَاء إِنَّمَا هِيَ أَعْرَاض وَأَسْمَاء فِيمَا بَينه وَبَين الْخلق مثل قَوْلنَا ذُو رَحْمَة وَذُو حكم وَذُو عِقَاب فَلَو لم يكن الْخلق المرحوم لم يلْزمه اسْم الرَّحْمَة وَكَذَلِكَ غَيرهَا
قَالَ أغشتين فِي جَوَابه عَن قَوْله لَا نقُول أَن لكل شَيْء عقيب وَمَا لم يكن لَهُ عقيب فَلَيْسَ بِشَيْء لِأَن عقيب شَيْء لَا شَيْء وَإِذا كَانَ إِنَّمَا ينفى عَنهُ اسْم شَيْء لِأَن الْأَشْيَاء كلهَا لَهُ فَمثل ذَلِك يجب عَلَيْهِ فِي قَوْله أَن أَو قَوْله كَانَ مَعَ أَنا لَا نَعْرِف شَيْئا نقُول فِيهِ أَن إِلَّا بعد معرفتنا إِيَّاه شَيْئا وحسبنا فِي هَذَا قَوْلنَا شَيْء لَيْسَ كشيء من جَمِيع الْأَشْيَاء
قَالَ وَأما قَوْله أَن الْقُدْرَة وَالْعلم إِنَّمَا هِيَ أَعْرَاض لزمنه فِيمَا بَينه وَبَين الْخلق وَأَنَّهَا مثل الرَّحْمَة وَالْحكم فَأَنا نحتج عَلَيْهِ فِي ذَلِك بِأَن نقُول لست تنكر أَنه كَانَ قبل الْأَشْيَاء وَدون الْأَشْيَاء بِلَا إبتداء فَهَل تقدر أَن تجحد أَنه كَانَ أبدا قَادِرًا فَإِذا أَقرَرت أَنه لم يزل قَادِرًا فقد أَقرَرت أَن الْقُدْرَة صفة أزلية فَإِن قلت أَنه لَا يجوز أَن يُسمى قبل أَن يكون الشَّيْء الْمَقْدُور عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يُسمى قَادِرًا بعد كَون الشَّيْء الْمَقْدُور علينا قُلْنَا أَفَكَانَ يقدر على أَن يقدر أم لَا فَلَا بُد لَك من أَن تَقول كَانَ يقدر على أَن يقدر أم لَا فَلَا بُد لَك من أَن تَقول كَانَ يقدر فيلزمك وَصفه بِالْقُدْرَةِ على كل حَال
وَكَذَلِكَ قَوْلنَا فِي الْعلم والإرادة وقولك يرحم وَيغْفر وَيحكم لَيْسَ مثل قَوْلنَا يقدر وَيعلم وَيُرِيد لِأَنَّك لَا تَقول كَانَ أبدا يرحم وَكَانَ أبدا يخلق وَلَا بُد من أَن تَقول كَانَ أبدا يقدر وَكَانَ أبدا يعلم وَكَانَ أبدا يُرِيد
ثمَّ قَالَ بعد كَلَامه مَعَ الفلاسفة فَنحْن مَا لم نصفه بِالْعلمِ والإرادة لم نصفه بمدبر وَلَا حَيّ
ثمَّ قَالَ إِن قُلْنَا عَرفْنَاهُ بوحدانيته وعلمناه بِذَاتِهِ من غير نَظرنَا إِلَى فعله الدَّال على قدرته وَعلمه وإرادته فقد كذبنَا لِأَنَّهُ لَا يقدر أحد أَن يَقُول أَنه وَقع على مَعْرفَته إِلَّا بِمَا نظر إِلَيْهِ من خلقه وتفكر فِيهِ من حكمه وبمعرفته بِنَفسِهِ وكل هَذَا إِقْرَار بِالثَّلَاثَةِ الأقانيم الَّتِي ذكرنَا لأَنا لما وجدنَا الْخلق الَّذِي لم يقدر أَن يكون بِنَفسِهِ وَجب الْإِقْرَار بالشَّيْء الَّذِي قدر أَن يكون وَهِي الْقُدْرَة الَّتِي سَمَّاهَا عُلَمَاء الْمَجُوس الهيول ثمَّ لما نَظرنَا إِلَى تَدْبِير الْخلق وَجب الْإِقْرَار بِالْعلمِ والإرادة لِأَن التَّدْبِير لَا يكون إِلَّا مِمَّن يعلم وَيُرِيد فثلاثتها إسم لإله وَاحِد ونعت لمدبر فَرد وَلَا تَجِد هِيَ غَيره وَلَا يجد هُوَ غَيرهَا فَهَذَا قَوْلنَا فِي التَّثْلِيث الَّذِي وَصفه الْإِنْجِيل وَأمر بِالْإِيمَان بِهِ وَسَماهُ بِاللِّسَانِ العجمي الآب والإبن وَالروح الْقُدس
فَهَذَا كَلَام هَذَا القس وَالنَّصَارَى يعترفون بِأَنَّهُ أعرفهم بدينهم وأعلمهم بشرعهم ويقينهم ينص على أَن الأقانيم الثَّلَاثَة صِفَات ونعوت للْوَاحِد الْفَرد وَلَا يُقَال فِيهَا أَنَّهَا هُوَ وَلَا هِيَ غَيره وَهُوَ لعمرى من المسددين فِي هَذَا النّظر إِذْ قد سلك مناهج الْبَحْث والعبر وَلَقَد قَارب الحنيفية وتباعد عَن الْملَّة النَّصْرَانِيَّة إِلَّا أننا ننازعه نزاعين أَحدهمَا فِي تَسْمِيَة هَذِه الصِّفَات الآب والإبن وَالروح الْقُدس على مَا تقرر وَهَذَا نزاع لَفْظِي لَيْسَ بكبير وَلَا لَهُ حَظّ خطير والنزاع الثَّانِي فِي أَنه قصر الأقانيم على هَذِه الثَّلَاثَة وَلم يعد الْحَيَاة فِيهَا كَمَا فعل غَيره مِنْهُم وَكَذَلِكَ الْوُجُود الْمَوْصُوف بِهَذِهِ الصِّفَات لم يعده أقنوما وَقد صرح بِأَنَّهَا صِفَات وَلَا بُد للصفات من مَوْصُوف بهَا