الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْقسم الأول
الْفَصْل الأول
احتجاج أَصْحَاب الْملَل
فِي حِكَايَة كَلَامه
قَالَ إبتداء احتجاج الثَّلَاث ملل بعون الله
أعلم أَن أهل الْملَل أَجْمَعِينَ متكافئون فِي إدعاء الْإِيمَان حاكمون على كل قوم لأَنْفُسِهِمْ بِالْإِيمَان ولغيرهم بالْكفْر قد غلبت عَلَيْهِم فِي ذَلِك الغواية وتأديب الصِّبَا وَوَصِيَّة الْآبَاء والأجداد حَتَّى صَار ذَلِك طبعا فيهم لَازِما لَهُم فكلهم قد سهل عَلَيْهِم انتقاص غَيرهم وطاب عِنْدهم دينهم بالتهنية فِي دنياهم عَن معاد آخرتهم وصاروا فِي تَدْبِير دنياهم ومعايشهم على خلاف ذَلِك لِأَنَّك تَجِد أهل كل مِلَّة يَزْعمُونَ أَن غَيرهم من الْملَل ألحف على كل طلب مَعَايشهمْ وألطف فِي إستجلاب أَرْزَاقهم
وأحسب أَن الْعلَّة فِي ذَلِك رغبتهم فِي التكاثر من الدُّنْيَا وَهِي الَّتِي تدخلهم إِلَى التحاسد والمعايرة فيعجز كل قوم أنفسهم فِي طلب معاشهم وَأَن الْآخِرَة عِنْدهم مُهْملَة لبعدها عَن حواسهم
فَلذَلِك يزْعم أهل كُله مِلَّة أَنهم أَحَق خيرا من غَيرهم فَلذَلِك قل تناصفهم فِيهَا وَإِن طَال عصرهم لِأَن كل قوم قد قلدوا سلفهم وطاب عِنْدهم خبرهم فِي مدح دينهم وذم غَيرهم فأسقط الرجل مِنْهُم كل حاسة وأمات خواطره وأذهب فهمه بِقطع كشفه عَن مصَالح مَا يستقبله من خَبره وإستعماله إِيَّاه بِمَا هُوَ مُدبر عَنهُ من دُنْيَاهُ
ولتجدن الرجل من كل مِلَّة يروم شِرَاء خرقَة يرقع بهَا ثَوْبه أَو شركَة لنعله فتراه يستجير ويستشير خوف السقطة والغلط
ثمَّ إِذا صَار إِلَى كشف دينه ومعاده أكتفى فِيهِ بتقليد سلفه ثمَّ لَا يبالى بِدَلِيل من خَالف مِلَّته وينتقص كل خَارج عَن دينه
فَكل يقتحم المناظرة وَإِن لم يحسنها ويراها فَرِيضَة وَهُوَ لَا يفهمها وَلم يتَّخذ شَيْئا من الْعُلُوم والصناعات إِلَّا الفضول معترف فِيهَا للفضائل لَا الْجِدَال والمناظرة وَأَن الْجَمِيع يدعونَ أمرا لَا يقدرُونَ على التناصف فِيهِ لبعد غَايَته وَهُوَ أَنهم ليختلفون فِي معرفَة الْبَارِي تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا يدركونه بالحواس فيختلفون فِي مَعْرفَته وَإِنَّمَا يتعارف النَّاس فِيمَا يدركونه بالحواس ويتصورونه فِي الأوهام فينقمع الْعقل السَّلِيم فِي إِجَابَة الْحق إِذا أدْركهُ وانكشف لَهُ فَلذَلِك يُجَادِل كل قوم عَن دينهم ويفضلون أنفسهم على غَيرهم ويدلك على ذَلِك أَنَّك تَجِد الصقلبي العَبْد الحبشي يَقع مرقوقا بيد رجل من أحد الثَّلَاث ملل فَيردهُ إِلَى مِلَّته ويورد عَلَيْهِ أَخْبَار سلفه فيتقبله مِنْهُ كتقبل الْأَطْفَال الْمُعَذَّبين فِيهِ وعلته فِي ذَلِك أَنه يجد صَدره خَالِيا من الْأَخْبَار الْمُدَوَّنَة فِي الْكتب فَيتَعَلَّق بِمَا أورد عَلَيْهِ من أَخْبَار من علمه ويتمكن ذَلِك فِي صَدره حَتَّى يصير وَاحِدًا من أهل الْملَّة فِي إدعاء الْفضل لَهَا وإنتقاص أهل غَيرهَا والطعن عَلَيْهِم وَلَو أَن مجوسيا دخل بلدنا طارئا أَو تَاجِرًا فكبرت عَلَيْهِ مجوسيته ووحش لوحدته على الْبَقَاء عَلَيْهَا عَازِمًا على رفضها ثمَّ طلب الْخُرُوج إِلَى أفضل الثَّلَاث الْملَل الْمفْسدَة عَلَيْهِ مجوسيته لتحير وعمى أَيَّة أفضل فَيخرج إِلَيْهَا لِأَنَّهُ يجد كل قوم يدعونَ لأَنْفُسِهِمْ الْإِيمَان ولغيرهم الْكفْر ثمَّ تجدهم متكافئين فِي إدعاء الْآيَات لِأَن أهل كل دين يزعموه أَن بَيِّنَة دينهم على آيَات قَامَت وبراهين ظَهرت وَمَا تَجِد عِنْد أحدهم آيَة من تِلْكَ الْآيَات الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهَا أضطرت عقل المجوسى إِلَى الدُّخُول فِي أديانهم
وَلَكِن الَّذِي كَانَ يضمه إِلَيْهِ حسن نظره أَن يتَوَقَّف حَتَّى يسمع حجتهم وَيسْتَعْمل عقله فِي دَعوَاهُم ليفهم مَا احتجاجهم من نبذ الْحق فَكَانَ يجد فِي دَعوَاهُم أَن النَّصْرَانِي وَالْمُسلم مقران لِلْيَهُودِيِّ بِأَن دينه أول وأنبياؤه حق ثمَّ يَقُول النَّصْرَانِي إِن كتابي جَاءَ من بعد فنسخ طَاعَة دين الْيَهُودِيّ ثمَّ يَقُول الْمُسلم وَكَذَلِكَ جَاءَ كتابي بعد فنسخ طَاعَة دين النَّصْرَانِي كَمَا نسخ الْيَهُودِيّ فَإِذا كاشف الْمَجُوسِيّ الْيَهُودِيّ عَمَّا إدعياه أنكرهما وَقَالَ لم يَأْتِ بعد كتابي