الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على رسَالَته وَأَنْتُم تستدلون بذلك على ألوهيته فَيلْزم من هَذَا الإستدلال الْعُدُول عَن شرع عِيسَى الْمَنْقُول ومصادمة الْعُقُول
ثمَّ نقُول لَهُم كَيفَ يَنْبَغِي لكم أَن تَقولُوا هَذِه الْأَفْعَال العجيبة تدل على أَنه لاهوت وَأَنْتُم تعزون فِي كتبكم أَن عِيسَى كَانَ إِذا أَرَادَ أَن يفعل شَيْئا مِمَّا ذكر تضرع إِلَى الله وَرغب إِلَيْهِ بخضوع وتذلل حَتَّى يقْضى الله حَاجته وَهَذَا مَوْجُود فِي كتبكم كثيرا فِيهَا
وَكفى دَلِيلا على نفي مَا تنسبونه إِلَيْهِ قَوْله حِين صلبه بزعمكم إلهي إلهي لم أسلمتني وَقَوله قبل ذَلِك يَا أبتاه إِن كَانَت هَذِه الكأس لَا تقدر تجاوزني حَتَّى أشربها فلتكن إرادتك وَهَذَا كُله فِي سُجُوده
وَفِي هَذَا الموطن قَالَ يَا أبتاه إِن كَانَ مُمكنا فلتذهب عني هَذِه الكأس
وَفِي إنجيل ماركوش أَنه قَالَ فِي هَذَا الْمقَام سيلقى ابْن الْإِنْسَان مَا كتب لَهُ ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك يَا أبتاه إِنَّك قَادر على جَمِيع الْأَشْيَاء فرج عني هَذِه الكأس فَهَذَا كُله يدل دلَالَة لَا شكّ فِيهَا أَنه كَانَ يفعل مَا يفعل بِإِذن الله إِذا أَرَادَهُ وأقدره عَلَيْهِ
وَأَنه إِنَّمَا كَانَ يتَّفق لَهُ ذَلِك بعد أَن يتَضَرَّع ويرغب لله تَعَالَى وَرُبمَا كَانَ يسْأَل أمورا لَا يُعْطِيهَا الله لَهُ لما سبق فِي علم الله أَنَّهَا لَا تكون
مِنْهَا
مَا تقدم حَيْثُ سَأَلَ الله أَن يدْفع عَنهُ أَمر الصلب وَالْقَتْل فَلم يجب لذَلِك على زعمكم وَمِنْهَا أَن الْيَهُود كَانَت تطالبه بِمثل بعض
معجزات مُوسَى بن عمرَان فَلَا يُجِيبهُمْ بِشَيْء وَسَيَأْتِي لهَذَا مزِيد وَدَلِيل ذَلِك من الْإِنْجِيل أَن عِيسَى قَالَ للْيَهُود لست أفعل من ذاتي شَيْئا لكنني أحكم بِمَا أسمع لِأَنِّي لست أنفذ إرادتي بل إِرَادَة الله الَّذِي بَعَثَنِي إِلَى مَا فِي كتبكم من هَذَا الَّذِي قد عميتم عَنهُ وَلم تسمعوا حرفا مِنْهُ فَتَارَة ينبهكم على وَجه الإستدلال وَأُخْرَى يُصَرح بالمقال وَتارَة يسْأَل فَيعْطى وَيُجَاب وَأُخْرَى يسْأَل فَلَا يرد عَلَيْهِ جَوَاب وحينما يتبرأ من مَشِيئَته ويعترف بزلته وعبوديته ثمَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْم مَعَ ذَلِك يَقُولُونَ هُوَ إلهنا ومحيينا وخالقنا فَهَؤُلَاءِ يكونُونَ بكم كالأنعام وصم كالأصنام {فَمَا لهَؤُلَاء الْقَوْم لَا يكادون يفقهُونَ حَدِيثا}
ثمَّ نقُول إِن كَانَ إحْيَاء الْأَمْوَات يدل على الألوهية فلأي شَيْء لَا تَقولُونَ إِن الياس وَالْيَسع كَانَا إِلَهَيْنِ وَأَنه حل بناسوتهما اللاهوت وشأنهما فِي إحْيَاء الْمَوْتَى لَا يقدر أحد على دَفعه وَلَا يخفى
وَلم لَا تعتقدون ألوهية النَّبِي حزقيال إِذْ فر قومه وهم أُلُوف حذر الوباء فأماتهم الله ثمَّ جَاءَهُم نَبِيّهم فَقَالَ لَهُم لتحيوا بِإِذن الله فَحَيوا وَرَجَعُوا إِلَى قَومهمْ سحنة الْمَوْت على وُجُوههم حَتَّى مَاتُوا بآجالهم وَهَذَا مَعْرُوف عِنْدهم وَلَا مدفع فِيهِ
وَإِن أنكرتم وجود شَيْء من ذَلِك نزلنَا مَعكُمْ إِلَى مَا فِي الْكتب الْقَدِيمَة من قصَص الْأَنْبِيَاء وكتبهم وَهَذَا لَازم لهَؤُلَاء الْقَوْم لَا يَنْفَكّ عَنهُ وَاحِد مِنْهُم أبدا
ثمَّ من عَجِيب أَمر هَؤُلَاءِ الْقَوْم أَنهم يَزْعمُونَ أَن عِيسَى عليه السلام أيد نَفرا من الحواريين بإحياء الْمَوْتَى وجعلهم رسلًا إِلَى الْأَجْنَاس فأحيوا الْمَوْتَى بزعمهم فَمَا الَّذِي أوجب أَن يكون الْمَسِيح فِي حَال ألوهيته قد أيد بذلك بشرا وَجعله رَسُولا إِلَى الْأَجْنَاس كَمَا زَعَمُوا وَمَا الَّذِي منع أَن يكون الله عز وجل يُؤَيّد بذلك بشرا ويجعله رَسُولا إِلَى النَّاس فَإِن كَانَ الْمَسِيح من أجل أَنه أَحْيَا مَيتا هُوَ الله فَكل من أَحْيَا مَيتا من الحواريين وَغَيرهم هُوَ الله ثمَّ كل خارق للْعَادَة يجعلونه دَلِيلا على ألوهيته فَإِنَّهُم يعارضون بِمثل ذَلِك فِي حق غَيره من الْأَنْبِيَاء عليه السلام ويدعى ألوهيته فَلَا يَجدونَ فصلا بَينهم وَبَين من يعارضهم
وَأما من اسْتدلَّ على ذَلِك بِأَنَّهُ خلق من غير أَب فَيلْزمهُ أَن يعْتَرف لآدَم بألوهية فَإِنَّهُ لم يخلق من نُطْفَة أَب بل إِنَّمَا خلق من تربة أَرض ثمَّ نفخ فِيهِ من روحه كَمَا فعل بِعِيسَى خلقه من نفخة الْملك فعلقت بلحمة مَرْيَم فَنَشَأَ مِنْهَا وفيهَا فتربه بِمَنْزِلَة لَحْمه ونفخه بِمَثَابَة نفخه وَهَذَا مَالا مخلص مِنْهُ وَلَا خُرُوج عَنهُ ثمَّ أكْرمه الله تَعَالَى بأنواع من الكرامات لم يكرم بهَا غَيره مِنْهَا أَنه أَسجد لَهُ مَلَائكَته وأعلمه بِمَا لم يعلمهُمْ حَتَّى جعله رَسُولا إِلَيْهِم وَكفى بِهَذَا شرفا إِلَى مَا هُنَالك من خَصَائِصه وَمن فضائله
بل لَو أمكن لأحد أَن يَقُول إِن بشرا يتَصَوَّر أَن يكون إِلَهًا لكَونه من غير أَب لَكَانَ آدم أولى بذلك من حَيْثُ أَنه لم تشْتَمل عَلَيْهِ أوضار الرَّحِم فقد شَارك الْمَسِيح فِي كَونه من غير أَب وَزَاد عَلَيْهِ أَنه من غير أم لم يتكون فِي ظلمَة الرَّحِم وَلم يتلطخ بِدَم الطمث وَلَا خرج
من مجْرى الْبَوْل هَذَا مَعَ الإعتراف بِأَن ذَلِك كَذَلِك وَلم يخْتَلف فِي ذَلِك أحد أعنى فِي أَن آدم مكون مَخْلُوق من غير أبوين
وَقد خالفتكم الْيَهُود لعنهم الله فِي كَون الهكم الْمَسِيح من غير أَب وأطلقت القَوْل على مَرْيَم البتول المبرأة عِنْد الله مِمَّا قَالُوا بِمَا قد علمْتُم فلعنهم الله وَغَضب عَلَيْهِم فَلَقَد كذبُوا
وَإِنَّمَا أسمعتكم هَذَا لِتَعْلَمُوا أَنا نَعْرِف مَا قَالَت الْيَهُود لعنهم الله فِي عِيسَى وَأمه عليهما السلام وَأَنا ننزههما عَمَّا قَالَ فيهمَا المبغضون لَهما والمحبون القالون فيهمَا فَمَا أجمل بكم لَو شَاءَ الله توفيقكم أَن لَو قُلْتُمْ فيهمَا الْحق الَّذِي يَنْبَغِي لَهما أَن الله جعل عِيسَى وَأمه آيَة للنَّاس هُوَ عبدا ورسولا وَأمه صديقَة مباركة
ثمَّ نقُول للمستدل بِمَا تقدم يلزمك على استدلالك أَن تكون حَوَّاء أم الْبشر إِلَهًا فَإِنَّهَا لم تخلق من أبوين وَلَا من نُطْفَة وَإِنَّمَا خلقهَا الله من ضلع من أضلاع آدم لم تتكون فِي ظلمات الرَّحِم وَلَا نشأت بَين الأقذار والأوضار وخلقها من ضلع آدم كخلقه من تُرَاب وَلَا فرق و {إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون}
وَأما استدلالهم بِمَا فِي كتَابنَا من قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم رَسُول الله وكلمته أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم وروح مِنْهُ} فَلَا حجَّة لَهُم فِي ذَلِك لوجوه
أَحدهَا أَنهم لَا يصدقون بكتابنا فَلَا يستدلون بِهِ على شَيْء
وَالثَّانِي أَنهم إِن استدلوا على غرضهم بِشَطْر هَذِه الْآيَة فَإِن صدرها يرد عَلَيْهِم استدلالهم وَكَذَلِكَ الْآيَات الَّتِي بعْدهَا قَالَ الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْعَزِيز الَّذِي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه تَنْزِيل من حَكِيم حميد} مُخَاطبا لَهُم وردا عَلَيْهِ {أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ وَلَا تَقولُوا على الله إِلَّا الْحق إِنَّمَا الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم رَسُول الله وكلمته أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم وروح مِنْهُ فآمنوا بِاللَّه وَرُسُله وَلَا تَقولُوا ثَلَاثَة انْتَهوا خيرا لكم إِنَّمَا الله إِلَه وَاحِد سُبْحَانَهُ أَن يكون لَهُ ولد لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض وَكفى بِاللَّه وَكيلا لن يستنكف الْمَسِيح أَن يكون عبدا لله وَلَا الْمَلَائِكَة المقربون وَمن يستنكف عَن عِبَادَته ويستكبر فسيحشرهم إِلَيْهِ جَمِيعًا فَأَما الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فيوفيهم أُجُورهم ويزيدهم من فَضله وَأما الَّذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذَابا أَلِيمًا وَلَا يَجدونَ لَهُم من دون الله وليا وَلَا نَصِيرًا}