الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَن ادعوا نسخ شَيْء مِنْهَا طالبناهم بِدَلِيل النّسخ وَلَا يَجدونَ سَبِيلا إِلَى ذَلِك وَمَعَ ذَلِك فتركوا الْعَمَل بِمَا أَمر الله بِهِ وارتكبوا مَا نهى الله عَنهُ
وَلَقَد وقفت على بعض كتبهمْ فِي الْفِقْه فَذكر هَذِه الْمُحرمَات مؤلفة ثمَّ تأولها بِزَعْمِهِ وَأَنا الْآن أذكر ماذكر فِي ذَلِك الْكتاب ليقضى الْعَاقِل من تواقحهم وجهلهم الْعجب العجاب وَيعلم أَنهم مفترون ويكذبون على رب الأرباب
قَالَ ذَلِك الْجَاهِل بعد ذكر الْمُحرمَات
فَهَذِهِ أَمْثِلَة ضربت فِي التَّوْرَاة الَّتِي هِيَ أم الْإِنْجِيل وَأول الْكتب كلهَا ففسر الْمَسِيح سيدنَا فِي الْإِنْجِيل حَيْثُ قَالَ لم آتٍ لنقض الْكتاب بل لتمامه فتمام الْكتاب التَّأْوِيل
فَأَما الْميتَة فِي التَّوْرَاة فَإِنَّمَا نعنى بذلك أَلا تميتوا الْأَحْيَاء وَلَا تغموا الْحق فِي الشَّهَادَة وَلَا تَرفعُوا الطَّعَام وتمنعوه السَّائِل والجائع فَأَما الْميتَة والمنخنقة فَمَا فِي أكلهَا غِبْطَة لذِي عقل فَمن شَاءَ أكل وَمن شَاءَ ترك وَأما الدَّم فيعنى بِهِ أَلا يقتل أحد بَرِيئًا ويهريق دَمه وعنى بالخنزير الزِّنَا وَالْكفْر بِاللَّه إِذْ الْمَعْرُوف من الْخِنْزِير الإلتطاخ فِي المطائق فنهانا عَن فعله وَأما أكله فَمَا فِيهِ مَنْفَعَة وَلَا مضرَّة فَمن شَاءَ أكله وَمن شَاءَ تَركه وعنى بالنطيحة أَلا يتناطح ملك جَبَّار وفقير مِسْكين وعنى بالموقوذة أَلا تزدري بِمن هُوَ تَحت ظلم غَيْرك وعنى بالمنخنقة أَلا تخنق أحدا إِذا كَانَ لَك قبله حق فتضايقه وعنى بالقردة أَلا تحاكى أحدا فتفعل كفعلها وعنى بالدب واللب أَلا تَأْكُل مَعَ غَيْرك بالهجم والغارة وعنى بالأرانب أَلا تَفعلُوا فعل الأرانب فتكونوا كقوم لوط فَإِن الأرانب الذُّكُور يَأْتِي بَعْضهَا بَعْضًا لِكَثْرَة شهوتها
وعنى بالبازي والشدانق وَالْعِقَاب وكل طير يبغى بمخلبه أَلا يقتل أحدا وَلَا يهريق دم أحد وَلَا يغلب أحدا على مَتَاعه وَلَا تحسد جارا فتفعل كفعلها وعنى بالدابة الَّتِي لَيست مشقوقة الْحَافِر الْكَفَرَة الَّذين يعْبدُونَ الْأَوْثَان ويسبحون لَهَا أَيَّام حياتهم وَلَا يقسمون أيامهم مشاطرة
وعنى بالحوت الَّذِي لَيْسَ لَهُ سفانق الْإِنْسَان المذنب الَّذِي يَتلون فِي دينه وعبادته وعنى بحرث الثور مَعَ الْحمار الْإِنْسَان الْكَافِر وعنى بِحمْل الْخَيل على الْحمير وَالْحمير على الْخَيل أَلا يتَزَوَّج الْكَافِر مُؤمنَة وَلَا الْمُؤمن كَافِرَة
وعنى بالجدي فِي لبن أمه أَلا تَأْخُذ مَال الْيَتِيم ظلما وعنى بالملتصقة الرئه الْإِنْسَان الحسود الحقود الَّذِي يوسوس الشَّرّ فِي صَدره طول حَيَاته وعنى بالخبز المختمر أَلا ينفخنا الشَّيْطَان ويهيج فِينَا الْكِبْرِيَاء وعنى بالفطير أَن تكون أَنْفُسنَا ضامرة بِلَا انتفاخ
وعنى بالحمام واليمام الْمُؤمنِينَ الَّذين جعلُوا أنفسهم لله قربانا
قَالَ فَهَذَا هُوَ المُرَاد بِتَحْرِيم هَذِه الْأَشْيَاء وَأما تِلْكَ الْمَذْكُورَات بِأَعْيَانِهَا فَمن شَاءَ أكلهَا وَمن شَاءَ تَركهَا
هَذَا مَذْهَب النَّصَارَى أَجْمَعِينَ وَلَا يأباه أحد مِنْهُم إِلَّا الأقلين فَيَنْبَغِي لنا أَن نوبخ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلين ونعرض عَلَيْهِم من الإلزامات المفحمة مَا كَانُوا عَنهُ معرضين ونقول لَهُم مَا الَّذِي حملكم على أَن حرفتم كتاب الله وغيرتم شرع الله فأحللتم مَا حرم عَلَيْكُم من غير دَلِيل وصرتم إِلَى تَأْوِيل لم تضمكم إِلَيْهِ ضَرُورَة عقل وَلَا مُعَارضَة قَول رَسُول فيا للعجب مَا أثقب أذهانكم وَأَصَح أفهامكم إِذْ قد فهمتم من كتاب رب الْعَالمين مَا لم يفهمهُ أحد من النَّبِيين بل قد زَاد فهمكم على فهم مُوسَى بن عمرَان وَعِيسَى عليهما السلام إِذْ كَانَا قد عملا على تَحْرِيم مَا فهمتم أَنْتُم تَحْلِيله من الْأَحْكَام
وعَلى ذَلِك عملت بنوا إِسْرَائِيل مُدَّة مديدة من الأعوام إِلَى زمَان بولش الْمُفْسد لدين الْمَسِيح الَّذِي جَاءَكُم بمكر خَالص وَكفر صَرِيح فتلقيتم مِنْهُ هذيانه وَلم تعرفوا شَأْنه فحرفتم كتاب الله وانحرفتم عَن الدّين القويم دين الْمَسِيح حِين حرف الدّين الَّذِي لم تروا مِنْهُ أثرا وَلَا سَمِعْتُمْ لَهُ خَبرا
ثمَّ نقُول يَا معشر المحرفين لكتاب الله أخبرونا هَل كَانَ مُوسَى بن عمرَان وَعِيسَى ابْن مَرْيَم وَمن بَينهمَا من أَنْبيَاء بني إِسْرَائِيل علمُوا من هَذِه الْأَحْكَام مَا علمْتُم أَنْتُم أم لَا فَإِن كَانُوا قد علمُوا فَمَا بالهم
نصوا على خلاف ذَلِك وحكموا بِتَحْرِيم تِلْكَ الْأَشْيَاء فَلم يرو قطّ عَن وَاحِد مِنْهُم أَنه أكل خنزيرا وَلَا ميتَة وَلَا دَمًا وَلَا شَيْئا مِمَّا ذكر تَحْرِيمه وَأَنْتُم تَقولُونَ هَذَا وتساعدون عَلَيْهِ فَكيف يمتنعون من أكل مَا يحل لَهُم ثمَّ يصرحون بِتَحْرِيمِهِ فعلى هَذَا يلزمكم أَنهم كذبُوا على الله ولبسوا فِي أَحْكَام الله إِذا كَانُوا علمُوا تَحْلِيل تِلْكَ الْأَشْيَاء ثمَّ صَرَّحُوا بتحريمها وَالنَّهْي عَنْهَا وَإِن لم يعلمُوا شَيْئا مِمَّا علمتموه أَنْتُم فَمن أَيْن علمتموه أَنْتُم أشافهتكم بذلك الْمَلَائِكَة أم أرسل إِلَيْكُم بذلك رسل أخر أم خلق لكم بذلك علم ضَرُورِيّ وكل ذَلِك لَا تقدرون على ادعائه فَلم يبْق إِلَّا أَنكُمْ جاهلون بشرع الله محرفون كتاب الله متواقحون على الله كاذبون عَلَيْهِ ومتهاونون برسله وستقفون بَين يَدَيْهِ ويسألكم عَمَّا افتريتم عَلَيْهِ فتحيط بكم النيرَان وتجركم على وُجُوهكُم إِلَيْهَا مَلَائِكَة غِلَاظ شَدَّاد لَا يطيقهم إِنْسَان {وَيَوْم الْقِيَامَة ترى الَّذين كذبُوا على الله وُجُوههم مسودة أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مثوى للمتكبرين}
فتنادون إِذْ ذَاك يَا أسقفنا بولش انظرنا فَمَا منا إِلَّا متخرق عاطش عاطش فَيُقَال لكم هُوَ فِي أَسْفَل سافلين فتصيروا إِلَيْهِ أَجْمَعِينَ فَإِذا اجْتَمَعْتُمْ مَعَه لعن بَعْضكُم بَعْضًا وَجحد بَعْضكُم بَعْضًا {ومأواكم النَّار وَمَا لكم من ناصرين}
ثمَّ نقُول لَهُم إِن جَازَ أَن نتأول الفاظ الشَّارِع وكلماته من غير ضَرُورَة دَاعِيَة إِلَى ذَلِك وندفع النُّصُوص بالتحكم بطلت الْكتب كلهَا والألسنة وَلم يقدر وَاحِد أَن يفهم مِنْهَا شَيْئا إِذْ كل لفظ يتَكَلَّم بِهِ مُتَكَلم يُمكن صرفه عَن بَابه وَعَن مَوْضُوعه الْأَصْلِيّ ونصابه
وَإِذا أمكن ذَلِك لم تقدروا على أَن تثبتوا نبوة عِيسَى على الْيَهُود بِمَا قدمتم فَإِن من نَص مَا عنْدكُمْ من كَلَام الْأَنْبِيَاء على نبوته قَول يَعْقُوب لَا يَنْقَطِع قضيب الْملك من نسل يهوذا حَتَّى يَأْتِي الْمَسِيح فيسوغ لِلْيَهُودِيِّ أَن يَقُول إِنَّمَا عَنى بِالْملكِ دينهم الَّذِي ورثوه عَن كِتَابهمْ وأنبيائهم وَلم يعن الْملك الَّذِي هُوَ الْإِمَارَة وَالْولَايَة وَقد
يُسمى الدّين الْملك وَقد جَاءَ فِي التَّوْرَاة حَيْثُ قَالَ الله تَعَالَى لإِبْرَاهِيم الْمُلُوك من صلبك يخرجُون وَإِنَّمَا أَرَادَ بذلك الْأَنْبِيَاء وَأهل الدّين وَلم يرد بذلك الْأُمَرَاء فَقَط
وعَلى هَذَا التَّأْوِيل تحاجكم الْيَهُود وَيَقُولُونَ لكم هَذَا ديننَا بَاقٍ لم يَنْقَطِع فَإنَّا نُقِيم التَّوْرَاة وأحكامها فَلم يَأْتِ بعد الْمَسِيح وَهَذَا التَّأْوِيل فِي هَذَا الْموضع أسوغ مِمَّا تأولتم بِهِ أَنْتُم أَحْكَام التَّوْرَاة
فَإِن أنكرتم هَذَا التَّأْوِيل أَنْكَرُوا تأويلكم وخطؤوكم وشهدوا عَلَيْكُم أَنكُمْ غيرتم كتاب الله وحرفتموه
هَذَا مَا جنى عَلَيْكُم تأويلكم إِذْ قد شَكَكْتُمْ فِي مسيحكم فَفِي مثلكُمْ يضْرب الْمثل يداك أوكتا وفوك نفخ
وَلَو شِئْنَا لأبدينا لكم من التأويلات وأريناكم من المناقضات أَكثر من هَذَا لفعلنَا وَلَكِن منعنَا من ذَلِك من ذَلِك مَا قدمنَا وَلَا يَصح أَن يَقُول قَائِل مِنْهُم إِن تَحْرِيم هَذِه الْمُحرمَات كلهَا الَّتِي تثبت فِي التَّوْرَاة نسخ بقول عِيسَى فِي الْإِنْجِيل لَيْسَ ينجس الْمَرْء مَا يدْخل فَاه وَإِنَّمَا يُنجسهُ مَا يخرج من فِيهِ لأَنا نقُول قَول عِيسَى هَذَا إِذا سلم مَفْهُومه نفى التَّنْجِيس لَا نفى التَّحْرِيم إِذْ هما حكمان متغايران مُخْتَلِفَانِ فَإِن الحكم بِتَحْرِيم هَذِه الْمَذْكُورَات إِنَّمَا يرجع إِلَى منع أكلهَا ثمَّ يجوز أَن تتَنَاوَل بِالْأَخْذِ والإعطاء وأنواع من التَّصَرُّفَات كَمَا نقُول فِي الْحمار الأهلي والبغل فَإِنَّهُ يحرم علينا أكله وَيحل لنا تصريفه فِي أَنْوَاع من الْمَنَافِع غير الْأكل وَالْحكم بالتنجيس إِنَّمَا يرجع لمنع التَّنَاوُل مُطلقًا أعنى يمْتَنع فِيهِ الْأكل وَالتَّصَرُّف
هَذَا إِذا كَانَ ذَلِك النَّجس مَحْكُومًا بِنَجَاسَتِهِ مُطلقًا فَإِن حكم بِنَجَاسَتِهِ فِي حَال دون حَال كَانَ ذَلِك وَصَحَّ أَن يُقَال عَلَيْهِ أَيْضا نجس مِثَال ذَلِك أَن مُحكم الشَّرَائِع بِأَن الْعذرَة يحرم علينا أَن نصلي بهَا فَلَا يجوز أَن نصلي بهَا وَلَا نحملها فِي تِلْكَ الْحَال وَيجوز لنا أَن نتناولها ونحملها فِي غير حَال الصَّلَاة فقد بَان الْفرق مَا بَين
الحكم بالتنجيس وَالْحكم بِالتَّحْرِيمِ ثمَّ لَو سلمنَا أَنَّهُمَا اسمان للتَّحْرِيم لما كَانَ لتأويلكم السخيف معنى لطيف فلأي معنى تأولتم وقلتم مَا لَا يصلح حمل اللَّفْظ عَلَيْهِ وَلم لم تَقولُوا إِنَّه مَنْسُوخ فَهَذَا خطأ آخر وَجَهل لَا يبوء بِهِ إِلَّا من كَانَ مثلكُمْ فَإِنَّهُ جمع بَين التَّأْوِيل والنسخ وهما متناقضان
فَإِن معنى التَّأْوِيل أَن اللَّفْظ المؤول مَعْمُول بِهِ على وَجه وَمعنى النّسخ أَن الْمَنْسُوخ مَرْفُوع الحكم على كل وَجه غير مَعْمُول بِهِ أصلا
فقد ظهر من الْفَصْلَيْنِ السَّابِقين أَن هَؤُلَاءِ الْقَوْم متحكمون بأهوائهم فِي دين الله تاركون للْعَمَل بِكِتَاب الله وَسنَن رسل الله {وهم يحسبون أَنهم يحسنون صنعا} {فويل لَهُم مِمَّا كتبت أَيْديهم وويل لَهُم مِمَّا يَكْسِبُونَ}
وَقد نجز غرضنا من الصَّدْر فلنشرع فِي الْفَنّ الأول الْمَوْعُود