الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَا يستندون لشَيْء من كتبهمْ وَلَا لشَيْء من كَلَام أَنْبِيَائهمْ وَإِن شِئْت أَن ترى هَذَا عيَانًا فَانْظُر كتب إجتماعاتهم ومحافلهم فَإِنَّهُم ينحشدون لمواضع مَخْصُوصَة فِي أحيان مَخْصُوصَة ويخترعون فِيهَا أحكاما وأمورا لَا مُسْتَند لَهُم وَلَا أصل إِلَّا بِالتَّحْرِيمِ على المآكل والتحكم فِي الْعَامَّة بفارغ الْأَقَاوِيل وسنبين ذَلِك إِذا ذكرنَا جملا من أحكامهم وَإِذا كَانَ هَذَا مبْنى شريعتهم فَكيف يوثق بِشَيْء من ترهاتهم
فَإِذا تقرر ذَلِك فلتعلم أَن أتخاذهم الْمَسِيح إِلَهًا إِنَّمَا سَببه مَا سبق ذكره وَلَا يقدرُونَ على أَن ينسبوا شَيْئا
من ذَلِك
إِلَى عِيسَى عليه السلام بل قد نقلوا عَنهُ فِي إنجيلهم مَا يدل دلَالَة قَاطِعَة من حَيْثُ اللَّفْظ على أَنه إِنَّمَا ادّعى النُّبُوَّة وَعَلَيْهَا اسْتدلَّ بمعجزاته وَفِي دَعْوَاهُ النُّبُوَّة كَذبته الْيَهُود
وَنحن الْآن نسرد بعض مَا وَقع فِي إنجيلهم من دَعْوَاهُ الرسَالَة بحول الله سُبْحَانَهُ
من ذَلِك
مَا جَاءَ فِي الْإِنْجِيل عَنهُ أَنه قَالَ حِين خرج من السامرية وَلحق بجلجال أَنه لم يكرم أحدا من الْأَنْبِيَاء فِي وَطنه
وَفِي إنجيل لوقا أَنه لم يقبل أحد من الْأَنْبِيَاء فِي وَطنه فَكيف تقبلونني وَهَذَا نَص لَا يقبل التَّأْوِيل فِي أَنه إِنَّمَا ادّعى النُّبُوَّة الْمَعْلُومَة
وَفِي إنجيل ماركش أَن رجلا أقبل إِلَى الْمَسِيح وَقَالَ لَهُ أَيهَا الْمعلم الصَّالح أَي خير أعمل لأنال الْحَيَاة الدائمة فَقَالَ لَهُ الْمَسِيح لم قلت لي صَالحا إِنَّمَا الصَّالح الله وَحده وَقد عرفت الشُّرُوط وَذَلِكَ أَلا تسرق وَلَا تزنى وَلَا تشهد بالزور وَلَا تخون وَأكْرم أَبَاك وأمك
وَفِي إنجيل يوحنا أَن الْيَهُود لما أَرَادَت الْقَبْض عَلَيْهِ وَعلم بذلك رفع بَصَره إِلَى السَّمَاء وَقَالَ قد دنا الْوَقْت يَا إلهي فشرفني لديك وإجعل لي سَبِيلا إِلَى أَن أملك كل من ملكتني الْحَيَاة الْبَاقِيَة وَإِنَّمَا الْحَيَاة الْبَاقِيَة أَن يُؤمنُوا بك إِلَهًا وَاحِدًا وبالمسيح الَّذِي بعثت فقد عظمتك على أهل الأَرْض واحتملت مَا أَمرتنِي بِهِ فشرفني لديك
وَفِي إنجيل مَتى أَنه قَالَ لتلاميذه لَا تنسبوا أَبَاكُم على الأَرْض فَإِن أَبَاكُم الَّذِي فِي السَّمَاء وَحده وَلَا تدعوا معلمين فَإِن معلمكم الْمَسِيح وَحده
فَقَوله لَا تنسبوا أَبَاكُم على الأَرْض أَي لَا تَقولُوا أَنه على الأَرْض وَلكنه فِي السَّمَاء ثمَّ أنزل نَفسه حَيْثُ أنزلهُ الله تَعَالَى فَقَالَ وَلَا تدعوا معلمين فَإِن معلمكم الْمَسِيح وَحده فها هُوَ قد سمى نَفسه معلما فِي الأَرْض وَشهد أَن الههم فِي السَّمَاء وَاحِد ونهاهم أَن ينسبوه لإلهية
وَفِي إنجيل لوقا أَنه حِين أَحْيَا الْمَيِّت بِبَاب مَدِينَة نايين حِين أشْفق لأمه لشدَّة حزنها عَلَيْهِ قَالُوا إِن هَذَا النَّبِي لعَظيم وَإِن الله قد تفقد أمته وَلم يَقُولُوا إِن هَذَا إِلَه عَظِيم
وَفِي إنجيل يوحنا أَن عِيسَى قَالَ للْيَهُود لست أقدر أَن أفعل من ذاتي شَيْئا لكني أحكم بِمَا أسمع لِأَنِّي لست أنفذ إرادتي بل إِرَادَة الَّذِي بَعَثَنِي
وَفِي إنجيله أَيْضا أَنه أعلن صَوته فِي الْبَيْت وَقَالَ للْيَهُود قد عرفتموني موضعي فَلم آتٍ من ذاتي وَلَكِن بَعَثَنِي الْحق وَأَنْتُم تجهلونه فَإِن قلت إِنِّي أجهله كنت كَاذِبًا مثلكُمْ وَأَنا أعلم أَنِّي مِنْهُ وَهُوَ بَعَثَنِي
فَانْظُر كَيفَ أخبر عَن نَفسه أَنه مَعْلُوم عِنْد الْيَهُود وَأخْبر عَن الله أَن الْيَهُود لَا تعرفه وَقَالَ إِنَّه لم يَأْتِ من ذَاته وَلَكِن الله بَعثه وَهَكَذَا كَانَت دَعْوَة من قبله من الْأَنْبِيَاء عليهم السلام وحاشاهم أَن ينتسبوا إِلَى مَا ينْفَرد بِهِ ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام
وَفِي الْإِنْجِيل أَيْضا أَنه قَالَ للْيَهُود بعد خطاب طَوِيل مَذْكُور فِي الْإِنْجِيل حِين قَالُوا لَهُ إِنَّمَا أَبونَا إِبْرَاهِيم فَقَالَ إِن كُنْتُم بني إِبْرَاهِيم فاقفوا أَثَره وَلَا تريدوا قَتْلِي
على أَنِّي رجل أدّيت إِلَيْكُم الْحق الَّذِي سَمعه من الله غير أَنكُمْ تقفون أثر آبائكم قَالُوا لسنا أَوْلَاد زنا إِنَّمَا نَحن أَبنَاء الله فَقَالَ لَو كَانَ الله أَبَاكُم لحفظتموني لِأَنِّي رَسُول مِنْهُ خرجت مُقبلا وَلم أقبل من ذاتي وَهُوَ بَعَثَنِي لكنكم لَا تقبلون وصيتي وتعجزون عَن سَماع كَلَامي إِنَّمَا أَنْتُم أَبنَاء الشَّيْطَان وتريدون إتْمَام شهواته إِلَى كَلَام كثير
وَفِيه أَيْضا أَنه كَانَ يمشي يَوْمًا فأحاطت بِهِ الْيَهُود وَقَالُوا إِلَى مَتى تخفى أَمرك إِن كنت الْمَسِيح المنتظر فأعلمنا بذلك
وَلم تقل لَهُ إِن كنت إِلَهًا لِأَنَّهُ لم تعلم من دَعْوَاهُ ذَلِك وَلَا إختلاف عِنْد الْيَهُود أَن الَّذِي ينتظرونه إِنَّمَا هُوَ إِنْسَان نَبِي لَيْسَ بِإِنْسَان إِلَه كَمَا تَزْعُمُونَ
وَفِي الْإِنْجِيل أَيْضا عَنهُ أَن الْيَهُود أَرَادوا الْقَبْض عَلَيْهِ فبعثوا لذَلِك الأعوان وَأَن رجعُوا إِلَى قوادهم فَقَالُوا لَهُم لم لم تأخذوه قَالُوا مَا سمعنَا آدَمِيًّا أنصف مِنْهُ فَقَالَت الْيَهُود وَأَنْتُم أَيْضا مخدوعون أَتَرَوْنَ أَنه آمن بِهِ أحد من القواد أَو من رُؤَسَاء أهل الْكتاب إِنَّمَا آمن بِهِ من الْجَمَاعَة من يجهل الْكتاب فَقَالَ لَهُم نيقوديموس أَتَرَوْنَ أَن كتابكُمْ يحكم على أحد قبل أَن يسمع مِنْهُ فقالو لَهُ اكشف الْكتب ترى أَنه لَا يَجِيء نَبِي من جلجال
فَمَا قَالَت الْيَهُود ذَلِك إِلَّا وَقد أنزل لَهُم نَفسه منزلَة نَبِي فَقَط وَلَو علمت من دَعْوَاهُ الإلهية لقاتلته يَوْمئِذٍ
وَمثل هَذَا كثير فِي إنجيلهم لَو ذهبت أذكرهُ لطال أمره
وَقد تقدم من كَلَام أشعياء أَن الله تَعَالَى قَالَ فِي الْمَسِيح هَذَا غلامي الْمُصْطَفى وحبيبي الَّذِي ارتضت بِهِ نَفسِي
وَمن كَلَام عاموس النَّبِي أَن الله قَالَ على لِسَانه ثَلَاثَة ذنُوب أقيل لبني إِسْرَائِيل وَالرَّابِعَة لَا أقيلها بيعهم الرجل الصَّالح
وَلم يقل بيعهم إيَّايَ وَلَا قَالَ بيعهم إِلَهًا مُتَسَاوِيا معي فَهَذَا الْمَبِيع لَا يَخْلُو أما أَن يكون هُوَ الْمَسِيح كَمَا تَزْعُمُونَ فَقولُوا فِيهِ كَمَا قَالَ الله أَنه رجل صَالح وَلَا تَقولُوا إِنَّه إِلَه معبود وَأما أَن يكون الْمَبِيع غَيره فَهُوَ الَّذِي شبه للْيَهُود فابتاعوه وصلبوه ويلزمكم إِنْكَار صلوبية الْمَسِيح وَهُوَ كفر عنْدكُمْ وَقد كررنا هَذَا الْمَعْنى فِي هَذَا الْكتاب مرَارًا لكَون النَّصَارَى على إختلاف فرقهم يَعْتَقِدُونَ لَهُ الإلهية على إختلاف فِي كَيْفيَّة ذَلِك كَمَا تقدم
وَحَتَّى لقد ذهبت طَائِفَة مِنْهُم إِلَى مقَالَة لم يسمع قطّ فِي أكناف الْعَالم وأطرافه من اجترأ على التفوه بهَا وَنحن نَسْتَغْفِر الله قبل حكايتها ونتبرأ إِلَى الله من مذاهبهم الْفَاسِدَة وَمن الْقَائِل بهَا وَذَلِكَ أَنى وقفت على رِسَالَة بعض الأقسة كَانَ بطليطلة نسبه من القوط قَالَ فِيهَا هَبَط الله بِذَاتِهِ من السَّمَاء والتحم بِبَطن مَرْيَم
ثمَّ قَالَ وَهُوَ الْإِلَه التَّام وَالْإِنْسَان التَّام وَمن تَمام رَحمته على النَّاس أَنه رضى بهرق دَمه عَلَيْهِم فِي خَشَبَة الصَّلِيب فمكن الْيَهُود أعداءه من نَفسه ليتم سخطه عَلَيْهِم فَأَخَذُوهُ وصلبوه وغار دَمه فِي إصبعه لِأَنَّهُ لَو وَقع مِنْهُ شَيْء فِي الأَرْض ليبست إِلَّا شي وَقع فِيهَا فيبست فِي مَوْضِعه النوار
لِأَنَّهُ لم يُمكن فِي الْحِكْمَة الأزلة أَن ينْتَقم الله من عَبده العَاصِي آدم الَّذِي ظلمه واستهان بِقَدرِهِ فَلم يرد الله الإنتقام مِنْهُ لإعتلاء منزلَة السَّيِّد وَسُقُوط منزلَة العَبْد أَرَادَ أَن ينتصف من الْإِنْسَان الَّذِي هُوَ إِلَه مثله فانتصف من خَطِيئَة آدم بصلب عِيسَى الْمَسِيح الَّذِي هُوَ إِلَه مسَاوٍ مَعَه
فَانْظُرْهُ تواقح هَذَا الْقَائِل وإستخفافه بِحَق الله تَعَالَى وجهله وتناقضه وحمقه فوَاللَّه لَو حكى مثل هَذَا القَوْل السخيف عَن مَجْنُون أَو موسوس لما كَانَ يعْذر بقوله ولبودر بضربه وَقَتله حَتَّى لَا يجترئ على مثله وَنحن نربأ بِأَكْثَرَ المجانين والموسوسين أَن يتقولوا بِهَذَا الْمَذْهَب الغث الهجين أَو ينتحلوا ركاكة هَذَا الدّين السقيم إِلَّا أَن يكون مُسْتَغْرقا فِي الوسوسة وَالْجُنُون فالحمق أَنْوَاع وَالْجُنُون فنون
وَعند الْوُقُوف على هَذَا الْمذَاهب القبيحة والأوهام يتَبَيَّن فضل دين الْإِسْلَام ويتحقق معنى قَول النَّبِي عليه السلام إِذا أَرَادَ الله إِنْفَاذ قَضَائِهِ وَقدره سلب ذَوي الْعُقُول عُقُولهمْ حَتَّى ينفذهُ فيهم
وَفِي مثل هَذَا الضَّرْب الْمثل إِذا جَاءَ الْبَين صم الْأذن وعمى الْعين والحمدلله الَّذِي أعاذنا من هَذِه الرذائل وتفضل علينا بدين الحنيفية الَّذِي خص بِكُل الْفَضَائِل الَّتِي يقبلهَا بفطرته الأولى كل عَاقل ويستحسنها كل ذكي فَاضل
فقد تحصل من هَاتين المقدمتين معنى النُّبُوَّة وَبَيَان شُرُوطهَا وَأَن عِيسَى عليه السلام نَبِي وَرَسُول إِذْ قد كملت فِيهِ شُرُوط الرسَالَة وَأَنه لَيْسَ باله وَأَن النَّصَارَى لَيْسُوا عَالمين بِشَيْء من أَحْوَال الْمَسِيح وَلَا من معجزاته على الْيَقِين وَالتَّفْصِيل
وغايتهم أَن يعلمُوا أمورا جملية لكثر ة تكْرَار هَذَا الْمَعْنى عَلَيْهِم
ثمَّ تِلْكَ الْأَخْبَار الَّتِي يتحدثون بهَا عَن الْمَسِيح وتتكرر عَلَيْهِم لَو كلفوا أَن يسندوا شَيْئا مِنْهَا لغير الْإِنْجِيل كَمَا ينْقل متواترا لما اسْتَطَاعُوا شَيْئا من ذَلِك وَلَا وجدوا إِلَيْهِ سَبِيلا
وَمِمَّا يُؤَيّد هَذَا الْمَعْنى ويوضحه أَن الْيَهُود كَانُوا رهطه وكفلته
وَعِنْدهم نَشأ وهم يخالفونكم فِي كثير مِمَّا تنسبون إِلَيْهِ وَلَا يوافقونكم على نقلهَا
وَمن ذَلِك أَن الْيَهُود تزْعم أَنهم حِين أَخَذُوهُ حبسوه فِي السجْن أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَقَالُوا مَا كَانَ يَنْبَغِي لنا أَن نحبسه أَكثر من ثَلَاثَة أَيَّام إِلَّا أَنه كَانَ يعضده أحد قواد الرّوم لِأَنَّهُ كَانَ يداخله بصناعة الطِّبّ
وَفِي إنجيلكم أَنه أَخذ صبح يَوْم الْجُمُعَة وصلب فِي السَّاعَة التَّاسِعَة من الْيَوْم بِعَيْنِه
وَكَذَلِكَ تزْعم الْيَهُود كلهم أَنه لم يظْهر لَهُ معْجزَة وَلَا بَدَت لَهُم مِنْهُ آيَة غير أَنه طَار يَوْمًا وَقد هما بِأَخْذِهِ فطار على أَثَره أحد مِنْهُم فعلاه فِي طيرانه وتوله فَسقط إِلَى الأَرْض بزعمهم
ومواضع كَثِيرَة من إنجيلكم تدل على مَا قالته الْيَهُود من أَنه لم يَأْتِ بِآيَة
فَمن ذَلِك أَن الْيَهُود قَالَت لَهُ مَا آيتك الَّتِي ترينا ونؤمن بك وَأَنت تعلم أَن آبَاءَنَا قد أكلُوا الْمَنّ والسلوى فِي المفاز فَقَالَ إِن كَانَ أطْعمكُم مُوسَى خبْزًا بالمفاز فَأَنا أطْعمكُم خبْزًا سماويا يُرِيد نعيم الْآخِرَة فَلَو عرفت الْيَهُود لَهُ معْجزَة لما قَالَت ذَلِك ثمَّ لم يجبهم على قَوْلهم بمعجزة وَلَا آيَة
وَفِي إنجيلكم أَن الْيَهُود جَاءُوا يسألونه آيَة فقذفهم وَقَالَ إِن الْقَبِيلَة الْفَاجِرَة الخبيثة تطلب آيَة وَلَا تُعْطى ذَلِك
وَفِيه أَيْضا أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ وَهُوَ على الْخَشَبَة بظنكم إِن كنت الْمَسِيح فَأنْزل نَفسك نؤمن بك يطْلبُونَ مِنْهُ بذلك آيَة فَلم يفعل
وَمثل هَذَا كثير فِيهِ
ثمَّ إِن الْيَهُود عِنْدهم من الإختلاف فِي أمره مَا يدل على عدم يقينهم بِشَيْء من أخباره فَمنهمْ من يَقُول إِنَّه كَانَ رجلا مِنْهُم يعْرفُونَ أَبَاهُ وَأمه وينسبونه لزانية وحاشى لله كذبُوا ويسمون أَبَاهُ للزنية البندير الرُّومِي وَأمه مرم الماشطة كذبُوا لعنهم الله ويزعمون أَن زَوجهَا يُوسُف لما رأى البندير عَنْهَا على فراشها وتشعر بذلك فهجرها وَأنكر إبنها وَمِنْهُم من يَقُول أَنه لم يتَوَلَّد من غير أَب وينكره وَيَقُول إِنَّمَا أَبوهُ يُوسُف بن يهوذا الَّذِي كَانَ زوجا لِمَرْيَم
ثمَّ إِن الْيَهُود لعنهم الله أطبقت على إِطْلَاق الذَّم عَلَيْهِ ثمَّ اخْتلفُوا فِي سبه فَمنهمْ من قَالَ مَا تقدم وَمِنْهُم من ذكر سبا آخر وَهُوَ أَنهم زَعَمُوا أَنه كَانَ يَوْمًا مَعَ معلمه يهوشوع بن برخيا وَسَائِر التلاميذ فِي سفر فنزلوا موضعا وَجَاءَت إمرأة من أَهله وَجعلت تبالغ فِي كرامتهم فَقَالَ يهوشوع مَا أحسن هَذِه الْمَرْأَة يُرِيد فعلهَا فَقَالَ عِيسَى بزعمهم لعنهم الله لَوْلَا عمش فِي عينيها فصاح يهوشوع وَقَالَ لَهُ مَا ممزار تَرْجَمته يَا زنيم أتزنى بِالنّظرِ وَغَضب عَلَيْهِ عضبا شَدِيدا وَعَاد إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَحرم باسمه ولعنه فِي أَربع مائَة قرن قَالُوا فَحِينَئِذٍ لحق بزعمهم بِبَعْض قواد الرّوم وداخله بصناعة الطِّبّ فقوى لذَلِك بزعمهم على الْيَهُود وهم يَوْمئِذٍ فِي ذمَّة قَيْصر تباريوش وَجعل يُخَالف حكم التَّوْرَاة ويستدرك عَلَيْهَا ويعرض عَن بَعْضهَا إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا كَانَ
وَمِنْهُم من يَقُول إِن ذَلِك إِنَّمَا أطلق عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمًا يلاعب الصّبيان فِي صغره بالكرة فَوَقَعت لَهُ بَين جمَاعَة من مَشَايِخ الْيَهُود فضعف الصّبيان عَن استخراجها من بَينهم حَيَاء من المشائخ فقوى عِيسَى وتخطى رقابهم وَأَخذهَا فَقَالُوا لَهُ مَا نظنك إِلَّا زنيما فأمضيت عَلَيْهِ هَذِه الشتيمة
وَكَذَلِكَ يخْتَلف فِي صَنْعَة أَبِيه الَّذِي تَقولُونَ أَنْتُم فِيهِ خطيب
أمه فَمنهمْ من يَقُول يُوسُف النجار وَبَعْضهمْ يَقُول إِنَّمَا هُوَ الْحداد وَكَذَلِكَ تختلفون أَنْتُم فِي إسم أَبِيه فبعضكم يَقُول يُوسُف بن يَعْقُوب وبعضكم يَقُول يُوسُف بن هالى وَكَذَلِكَ اختلفتم أَنْتُم فِي آبَائِهِ وَفِي عدده فمنكم من يقلل ومنكم من يكثر على مَا تقدم فَهَذَا الإختلاف الْكثير والإضطراب الْبَين الشهير يدل على أَنكُمْ وَالْيَهُود فِي شكّ مِنْهُ وَأَنه لم يثبت عنْدكُمْ خبر متواتر عَنهُ وَإِنَّمَا هِيَ ظنون كَاذِبَة وأوهام راتبة وسنبين مدَاخِل الشَّك والأوهام عَلَيْهِم فِي قَوْلهم بصلوبيته ونبين أَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي قَوْلهم بصلبه كاذبون وَأَنَّهُمْ {فِي ريبهم يَتَرَدَّدُونَ} فلولا أَن من الله علينا بفضله علينا وَعَلَيْكُم معاشر النَّصَارَى بِأَن بعث إِلَى الْجَمِيع سيد الْمُرْسلين لبقى الْجَمِيع من أَمر عِيسَى حيارى
فنزه الله الْمَسِيح وَأمه على لِسَان نبيه مِمَّا قالته الْيَهُود فيهمَا من الْأَقْوَال الوخيمة ونسبوه لَهَا من الهجاء والشتيمة وكما شهد بِبَرَاءَة الْمَسِيح وَأمه مِمَّا نسبته الْيَهُود إِلَيْهِمَا كَذَلِك شهد ببراءتهما مِمَّا نسبتموهما أَنْتُم إِلَيْهِ وتقولتموه عَلَيْهِمَا
وَذَلِكَ أَن مِنْكُم طَائِفَة يَقُولُونَ إِن مَرْيَم إِلَه وَقد أطبقتم على أَن الْمَسِيح إِلَه وإبن الْإِلَه وَنَبِينَا عليه السلام يَقُول مخبرا عَن الله سبحانه وتعالى {مَا الْمَسِيح ابْن مَرْيَم إِلَّا رَسُول قد خلت من قبله الرُّسُل وَأمه صديقَة}
فَإِذا سمع الْقَائِل قَوْله فيهمَا علم بعقله أَن ذَلِك القَوْل هُوَ الْحق وَإِن كَانَ مِمَّن طالع الزبُور علم أَن دُعَاء دَاوُود مستجاب ومقاله صدق وَذَلِكَ أَن فِي الزبُور أَن الله تَعَالَى قَالَ لداوود سيولد لَك ولد أدعى لَهُ أَبَا ويدعى لي إبنا فَقَالَ
اللَّهُمَّ ابْعَثْ جَاعل السّنة كي يعلم النَّاس أَنه بشر
فَاعْتبر قَول دَاوُود حِين أفزعه ذَلِك وراعه كَيفَ دَعَا إِلَى الله أَن يبْعَث جَاعل السّنة الَّذِي يعلم النَّاس أَن ذَلِك الْوَلَد الْمَدْعُو إِنَّمَا هُوَ بشر
وَكَذَلِكَ قَالَ الْمَسِيح على مَا حَكَاهُ إنجيلكم اللَّهُمَّ ابْعَثْ البارقليط ليعلم النَّاس أَن ابْن الْإِنْسَان بشر
والبارقليط بالرومية هُوَ مُحَمَّد بِالْعَرَبِيَّةِ
فَلَمَّا ضللتم وتفوهتم بذلك وراغمتم أَدِلَّة الْعُقُول وَكَلَام الْأَنْبِيَاء الْمَنْقُول بعث الله جَاعل السّنة وَكَاشف الْغُمَّة مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَأعْلم النَّاس أَنه بشر لَيْسَ بإلاه وَلَا ابْن إِلَه فَقَالَ مبلغا عَن الله {وَقَالَت النَّصَارَى الْمَسِيح ابْن الله ذَلِك قَوْلهم بأفواههم يضاهئون قَول الَّذين كفرُوا من قبل قَاتلهم الله أَنى يؤفكون اتَّخذُوا أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا من دون الله والمسيح ابْن مَرْيَم وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَه إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يشركُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا يَنْبَغِي للرحمن أَن يتَّخذ ولدا إِن كل من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض إِلَّا آتِي الرَّحْمَن عبدا}
وَنَذْكُر الْآن هُنَا خبر النَّجَاشِيّ ليَكُون منبهة للعاقل ومردعة للجاهل
وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى لما بعث مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم اتبعهُ جمَاعَة مِمَّن نور الله قلبه وَشرح لِلْإِسْلَامِ صَدره وَذَلِكَ فِي أول الْأَمر فآمنوا بِهِ والتزموا شَرعه وَأَحْكَامه فَكَانَ كفار قُرَيْش والمخالفون لَهُم فِي أديانهم يؤذونهم ويعذبونهم يرومون بذلك ردهم عَن دينهم كَمَا قد فعل بأتباع الْأَنْبِيَاء قبلهم فَلَمَّا أَشْتَدّ عَلَيْهِم الْأَمر شكوا ذَلِك لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَأَمرهمْ أَن يهاجروا إِلَى أَرض الْحَبَشَة وَوَعدهمْ بِأَن يَجْعَل الله من أَمرهم فرجا وَأخْبرهمْ أَن بهَا ملكا عَظِيما لَا يظلم عِنْده أحد فَفَعَلُوا فقدموا على النَّجَاشِيّ وإسمه أَصْحَمَة وَكَانَ على صميم دين النَّصْرَانِيَّة
فَلَمَّا قدمُوا عَلَيْهِ اسْتَقر بهم الْمنزل ووجدوه خير منزل فأقاموا هُنَالك دينهم واغتبط النَّجَاشِيّ بصحبتهم وهم بجواره فَلَمَّا رأى كفار قُرَيْش أَن قد وجدوا بِأَرْض النَّجَاشِيّ أمنا ودعة وجهوا إثنين مِنْهُم وأصحبوهما هَدَايَا جليلة إِلَى النَّجَاشِيّ وأقسته وطلبوا مِنْهُ وَمن أساقفته أَن يسلمهم لَهما
فَلَمَّا قدما أَرض النَّجَاشِيّ دفعا لأقسته هداياهم وطلبا مِنْهُم أَن يعينوهما على ردهم مَعَهُمَا وإسلامهم لقومهما ثمَّ دفعا للنجاشي هديته وَقَالا لَهُ أَيهَا الْملك قد ضوا إِلَى بلدك منا غلْمَان سُفَهَاء فارقوا دين قَومهمْ وَلم يدخلُوا فِي دينك وَجَاءُوا بدين ابتدعوه لانعرفه نَحن وَلَا أَنْت وَقد بعث 4 نَا إِلَيْك فيهم أَشْرَاف قَومهمْ من آبَائِهِم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إِلَيْهِم
فهم أعل بهم عينا وَأعلم بِمَا عابوا عَلَيْهِم فأسلمهم إِلَيْهِم فَغَضب النَّجَاشِيّ ثمَّ قَالَ لَا وَالله لَا أسلمهم إِلَيْهِمَا أبدا وَلَا يكَاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي لَا أسلمهم حَتَّى أدعوهم فأسألهم عَمَّا يَقُول هَذَانِ فِي أَمرهم
ثمَّ أرسل إِلَى أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَجَاءُوا وَقد دَعَا النَّجَاشِيّ أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله فَقَالَ لَهُم مَا هَذَا الدّين الَّذِي فارقتم بِهِ قومكم وَلم تدْخلُوا فِي ديني وَلَا دين أحد من هَذِه الْملَل كَافَّة
فَكَلمهُ جَعْفَر بن أبي طَالب فَقَالَ أَيهَا الْملك كُنَّا قوما أهل جَاهِلِيَّة نعْبد الْأَصْنَام وَنَأْكُل الْميتَة ونأتي الْفَوَاحِش ونقطع الْأَرْحَام ونسيء الْجوَار وَيَأْكُل الْقوي الضَّعِيف فَكُنَّا على هَذَا حَتَّى بعث الله إِلَيْنَا رَسُولا نعرفه ونعرف نسبه وأمانته وَصدقه وعفافه فَدَعَانَا إِلَى الله لنوحده ونعبده ونخلع مَا كُنَّا نعْبد نَحن وآباؤنا من الْحِجَارَة والأوثان
وأمرنا بِصدق الحَدِيث وَأَدَاء الْأَمَانَة وصلَة الرَّحِم وَحسن الْجوَار والكف عَن الْمَحَارِم والدماء ونهانا عَن الْفَوَاحِش وَأكل مَال الْيَتِيم وَقذف الْمُحْصنَات
وأمرنا أَن نعْبد الله وَلَا نشْرك بِهِ شَيْئا وأمرنا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَالصِّيَام
وَعدد عَلَيْهِ أُمُور الْإِسْلَام فَصَدَّقْنَاهُ وآمنا بِهِ وإتبعناه على مَا جَاءَ بِهِ عَن الله فَعدى علينا قَومنَا وعذبونا وفتنونا عَن ديننَا ليردونا إِلَى عبَادَة الْأَوْثَان وَأَن نستحل مَا كُنَّا نستحل من الْخَبَائِث
فَلَمَّا قهرونا وظلمونا خرجنَا إِلَى بلادك وإخترناك على من سواك ورغبنا فِي جوارك ورجونا أَلا نظلم عنْدك
فَقَالَ النَّجَاشِيّ هَل مَعَك مِمَّا جَاءَ بِهِ عَن الله من شَيْء فَقَالَ لَهُ جَعْفَر نعم فَقَالَ اقرأه
فَقَرَأَ عَلَيْهِ جَعْفَر صَدرا من {كهيعص} فَبكى وَالله النَّجَاشِيّ حَتَّى أخضل لحيته وبكت أساقفته حَتَّى أخضوا لحاهم حِين سمعُوا مَا تَلا عَلَيْهِم ثمَّ قَالَ النَّجَاشِيّ إِن هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى ليخرج من مشكاة وَاحِدَة
انْطَلقَا فَلَا وَالله لَا أسلمهم إلَيْكُمَا وَلَا أكاد
فَلَمَّا خرجا من عِنْده وَقد يئسا من مرادهما قَالَ أَحدهمَا وَهُوَ عَمْرو بن الْعَاصِ لَآتِيَنه عَنْهُم غَدا بِمَا يُهْلِكهُمْ لأَجله ثمَّ غَدا عَلَيْهِ من الْغَد فَقَالَ أَيهَا الْملك إِنَّهُم يَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْن مَرْيَم قولا عَظِيما فَأرْسل إِلَيْهِم ليسألهم قَالُوا وَلم ينزل بِنَا مثلهَا فَاجْتمع الْقَوْم ثمَّ قَالَ بَعضهم لبَعض مَاذَا تَقولُونَ فِي عِيسَى إِذا سألكم قَالُوا نقُول وَالله مَا قَالَ الله وَمَا جَاءَ بِهِ نَبينَا كَائِنا فِي ذَلِك مَا كَانَ
فَلَمَّا دخلُوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُم مَا تَقولُونَ فِي عِيسَى ابْن مَرْيَم فَقَالَ لَهُ جَعْفَر بن أبي طَالب نقُول فِيهِ الَّذِي جَاءَنَا بِهِ نَبينَا هُوَ عبد الله وَرَسُوله وروحه وكلمته أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم الْعَذْرَاء البتول
قَالَ فَضرب النَّجَاشِيّ بِيَدِهِ إِلَى الأَرْض فَأخذ مِنْهَا عودا ثمَّ ثمَّ مَا عدا عِيسَى ابْن مَرْيَم مَا قلت هَذَا الْعود
فتناخرت بطارقته حوله حِين قَالَ مَا قَالَ فَقَالَ وَإِن نخرتم وَالله اذْهَبُوا فَأنْتم شيوم ترجتمه آمنون
فَهَذَا قَول أهل الْعلم من قبلكُمْ العارفين بشريعتكم وَمَا عدا ذَلِك فشجرته عثاء وأوضار {اجتثت من فَوق الأَرْض مَا لَهَا من قَرَار}
وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَول هِرقل اثر هَذَا الْبَاب إِن شَاءَ الله تَعَالَى
كمل الْجُزْء الثَّانِي والحمدلله وَحده
انْتهى الْجُزْء الثَّانِي من كتاب الْإِعْلَام بِمَا فِي دين النَّصَارَى من الْفساد والأوهام وَإِظْهَار محَاسِن دين الْإِسْلَام وَإِثْبَات نبوة نَبينَا مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة السَّلَام ويليله الْجُزْء الثَّالِث بِإِذن الله وأوله أَنْوَاع الْقسم الثَّانِي فِي إِثْبَات نبوة نَبينَا مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام