الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صدر الْكتاب
نذْكر فِي هَذَا الصَّدْر كَلَام هَذَا السَّائِل فِي خطْبَة كِتَابه وَالْجَوَاب عَلَيْهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى
فصل
فِي حِكَايَة كَلَام السَّائِل فِي خطْبَة كِتَابه
قَالَ كتاب تثليث الوحدانية فِي معرفَة الله ثمَّ قَالَ الْحَمد لله بَالغ القوى الَّتِي فطرنا عَلَيْهَا وأمرنا بِحَمْدِهِ فَنحْن نحمده ونشكره ونعظمه بِمثل تعارفنا فِي الْحَمد وَالشُّكْر والتعظيم لملوكنا وَأهل الرهبة من ذَوي السُّلْطَان منا فرضا لَهُ شاكرين حامدين معظمين غير واقفين على ذَاته وَلَا مدركين لشَيْء مِنْهُ وَإِنَّمَا نقع على أَسمَاء أَفعاله فِي خليقته وتدبيره فِي ربوبيته
الْجَواب عَن تَرْجَمته أما قَوْله تثليث الوحدانية فَكَلَام متناقض لفظا وفاسد معنى بَيَان ذَلِك أَن قَوْله تثليث الوحدانية كَلَام مركب من مُضَاف ومضاف إِلَيْهِ وَلَا يفهم الْمُضَاف مَا لم يفهم الْمُضَاف إِلَيْهِ فَأَقُول لفظ الوحدانية مَأْخُوذ من الْوحدَة وَمَعْنَاهَا رَاجع إِلَى نفى التَّعَدُّد وَالْكَثْرَة فَهِيَ إِذن من أَسمَاء السلوب فَإِذا وَصفنَا بهَا مَوْجُودا فقد نَفينَا عَنهُ التَّعَدُّد وَالْكَثْرَة والتثليث مَعْنَاهُ تعدد وَكَثْرَة فَإِذا أضَاف هَذَا الْقَائِل التَّثْلِيث للوحدة فَكَأَنَّهُ قَالَ تَكْثِير مَالا يتكثر وتكثير مَالا يتكثر بَاطِل بِالضَّرُورَةِ فَأول كلمة تكلم بهَا هَذَا السَّائِل متناقضة وباطلة بِالضَّرُورَةِ
وَأما قَوْله فِي معرفَة الله فَقَوْل لم يحط بِمَعْنَاهُ وَلَا فهم مُسَمَّاهُ وَإِلَّا فَمَا حد الْمعرفَة وَكم أقسامها وَهل يَصح أَن تكون مكتسبة لنا وَهل يجوز عقلا أَن يكلفنا بهَا الْأَنْبِيَاء وَإِن جَازَ ذَلِك فَمَا طَرِيق تَحْصِيلهَا
ثمَّ هول بِهَذَا اللَّفْظ وأوهم أَنه حصل مِنْهَا على حَظّ فَإِن كَانَ دليلك يَا هَذَا على معرفَة الله تَعَالَى مَا ضممته كتابك فابك على مصابك واقرع
أسفا على عقل نابك فَإِن الْوَاقِف على مَعْنَاهُ المقتحم لفحواه علم على الْقطع والقط أَنَّك لم تعرف الله تَعَالَى قطّ لِأَنَّك لم تذكر فِيهِ دَلِيلا صَحِيحا نعم وَلَا قولا فصيحا وَإِن كَانَ لَك دَلِيل آخر على معرفَة الله تَعَالَى لم تذكره هُنَا فَهَذِهِ تَرْجَمَة بِلَا معنى وَاسم يهول بِلَا مُسَمّى كلامك ياهذا كفارع حمص خلى من الْمَعْنى وَلَكِن يجمع
…
ثمَّ نظم هَذِه التَّرْجَمَة على مَا أبديناه من التَّنَاقُض أَن يُقَال تَكْثِير مَا لَا يتكثر فِي معرفَة الله وَأي رابط بِهَذَا الْكَلَام وَهل هَذَا إِلَّا مضحكة الْخَاص وَالْعَام وعار لم يصل إِلَيْهِ أحد من عقلاء الْأَنَام
ثمَّ بعد ذَلِك شرع هَذَا الْقَائِل فِي الخطابة وصنعة الْكِتَابَة فسحب على سحبان ثوب النسْيَان وأنسى أبان كل مَا أبان وصير فصيح وَائِل أعيا من بَاقِل فَقَالَ الْحَمد لله بَالغ القوى الَّتِي فطرنا عَلَيْهَا فيا للعجب وَيَا لضيعة الدّين وَالْأَدب
…
دع المكارم لَا ترحل لبغيتها
واقعد فَإنَّك أَنْت الجائع العاري
…
أما قَوْله الْحَمد لله فَكَلَام حق ومقال صدق عِنْد من عرف مَعْنَاهُ وَفهم فحواه وَأما عنْدك فَكَلَام سمعته وَمَا وعيته وَكَيف تعيه أَو تطمع فِي أَنَّك تدريه وَأَنت بمعزل عَن اللِّسَان عرى عَن تَحْصِيل شَرَائِط الْبُرْهَان
دَلِيل ذَلِك أَن الْحَمد لله يتَوَجَّه لأسئلة وَأَنت لَا تهتدي لفهمها فَكيف لحلها مِنْهَا لفظية وَمِنْهَا معنوية فأولها حَده وَإِلَى مَاذَا يرجع وَمَا الْفرق بَينه وَبَين الشُّكْر وَهل هُوَ فِي هَذَا الْموضع عَام أم لَا وَهل يَصح أَن يُطلق على غير الله وَإِن أطلق فَهَل بِالْحَقِيقَةِ أم بالمجاز وعَلى أَي وَجه يُضَاف إِلَى الله تَعَالَى أَعلَى جِهَة الْملك أَو على جِهَة الإستحقاق أَو غَيرهمَا من أَنْوَاع الْإِضَافَة ولأي شَيْء يوضع فِي أَوَائِل الْكتب وَلَا يَكْتَفِي عَنهُ بِالتَّسْمِيَةِ
وَأما قَوْلك بَالغ القوى فَكَلَام مختل صدر عَمَّن لم يحصل تَنْزِيل مَفْهُومه على فَائِدَة لِأَن الْمُتَكَلّم بِهِ عمل بَالغ مَوضِع مبلغ ثمَّ ذهب
بمبلغ إِلَى معنى خَالق وَالْعرب الَّذين تكلم هَذَا السَّائِل بكلامهم وتعاطى مَفْهُوم خطابهم لَا يَتَكَلَّمُونَ بَالغ فِي معنى الْخَالِق لتباين اللَّفْظَيْنِ وإختلاف المفهومين وَمعنى الْخلق الْمَشْهُور عِنْدهم إختراع مَا لم يكن والإبلاغ هُوَ أَيْضا لَهُ كَائِن إِلَى غَايَة مَا فَإِن أنكر هَذَا الْمُتَكَلّم أَن يكون أَرَادَ هَذَا فقد شهد على نَفسه بالغلط واعترف بِأَن كَلَامه من أرذل أرذل السقط
ثمَّ أضَاف بَالغ إِلَى القوى والقوى جمع قُوَّة وَهِي الْقُدْرَة والشدة فَإِن كنت تُرِيدُ هَذَا فَأَي فَائِدَة للفظك وَأي لَطِيفَة لِقَوْلِك الَّتِي فطرنا عَلَيْهَا وَفِي الثيران والأباعير وَالْحمير من هُوَ أَشد مِنْك وَأقوى فقد فَضلهَا عَلَيْك حَيْثُ أبلغهَا من الشدَّة أَكثر مِمَّا أبلغك
وَلَقَد كَانَ يَنْبَغِي لَك يَا هَذَا أَن تذكر من نعم الله عَلَيْك النِّعْمَة الْخَاصَّة بالإنسان وَهُوَ الْمَعْنى الَّذِي بِهِ تميز عَن أَصْنَاف الْحَيَوَان ثمَّ من عَجِيب أَمر هَذَا السَّائِل وأدل دَلِيل على بلادته وجهله أَن هَذِه الْخطْبَة الَّتِي صدر بهَا كِتَابه على مَا هِيَ عَلَيْهِ من تثبيج النّظم وَعدم الفصاحة إِنَّمَا نقلهَا من رِسَالَة عبد الرَّحْمَن بن عصن ختن شبيب الَّتِي كَانَ أساقفة النَّصَارَى كتبُوا بهَا إِلَى الإِمَام الزَّاهِد أبي مَرْوَان بن ميسرَة ونسبوها لعبد الرَّحْمَن وَكَانُوا قد اجْتَمعُوا على كتَابَتهَا بطليطلة أَعَادَهَا الله فَلَمَّا كتبوها بعثوا بهَا إِلَى القَاضِي أبي مَرْوَان بن ميسرَة فَبعد أَن بذلوا جدهم وأجهدوا جهدهمْ كتبُوا لَهُ رِسَالَة مفتتحها هَذِه الْخطْبَة فِي بطاقة صَغِيرَة عدد أسطارها نَحْو ثَلَاثِينَ لحنوا فِيهَا وصحفوا فِي تِسْعَة وَعشْرين موضعا مِنْهَا وَمَعَ ذَلِك فأخلوا بالْكلَام وَلم يتَحَصَّل لَهُم من سُؤَالهمْ مطلب وَلَا مرام فأجابهم الإِمَام القَاضِي رحمه الله وَأحسن فِي الْجَواب وَأظْهر لَهُم جهلهم وتبلدهم فِي ذَلِك الْكتاب
فَلَو كَانَ هَذَا السَّائِل عَارِفًا بمصالحه مُمَيّزا بَين محاسنه ومقابحه لاكتفى بإفحام أساقفته الْمُتَقَدّمَة وعثرته الجاهلة المضممة ولكان يستر ظَاهر خطاياهم وركيك كَلَامهم وَلَكِن أَرَادَ الله تَجْدِيد مَا قدم لَهُم من الفضيحة بمقالة صابية صَحِيحَة ثمَّ ليته إِذْ نقل إِلَى كِتَابه كَلَامهم لم يُفَسر الْمَعْنى وَلم يُغير اللَّفْظ بل غَيره تغييرا يدل على عدم الهجاء وَقلة الْحِفْظ فَقَالَ الحمدلله بَالغ القوى وَهِي فِي كِتَابهمْ الْمُتَقَدّم الذّكر الَّذِي نقل مِنْهُ الحمدلله بألغ القوى وَبَين مَفْهُوم كَلَامه
وَكَلَامهم مَا بَين الْقرن والقدم وَمَا بَين فصاحة الْعَرَب ورطانة الْعَجم
وَأما قَوْلك وأمرنا بِحَمْدِهِ فَقَوْل لَا تعرف حَقِيقَته وَلَا تسلك طَرِيقَته حَتَّى تعرف إِن كَانَ الله آمرا أم لَا وَإِن كَانَ آمرا فَمَا حَقِيقَة أمره وَإِلَى مَاذَا يرجع وَهل هُوَ قديم أَو حَادث إِلَى أسئلة كَثِيرَة لَا تعرف أَنَّك مَأْمُون من جِهَة الله تَعَالَى حَتَّى تعرفها فأعد للمسائل جَوَابا وللسائل خطابا
وَأما قَوْله فَنحْن نحمده ونشكره ونعظمه بِمثل تعارفنا فِي الْحَمد وَالشُّكْر فَكَلَام يَدُور على اللِّسَان وَلم يسْتَقرّ لَك شَيْء مِنْهُ بالجنان وَكَيف يحمد الله من ينتقصه وَكَيف يشكره من يكفره وَهل الْحَمد وَالنُّقْصَان وَالشُّكْر والكفران إِلَّا أَمْرَانِ متناقضان
بَيَان ذَلِك أَنكُمْ تَجْعَلُونَ لله مَا تَكْرَهُونَ لأنفسكم وتنتقصون بِهِ أَبنَاء جنسكم هَا أَنْتُم تَكْرَهُونَ لرهبانكم وأقستكم إتخاذ الزَّوْجَة وَالْولد لِئَلَّا يتلطخ برذيلة مجْرى الْبَوْل وَدم الْحيض أَو تتشبه نِسْبَة الزَّوْجَة وَالْولد ثمَّ إِنَّكُم بجهالتكم تَزْعُمُونَ أَن اللاهوت تدرع بناسوت الْمَسِيح وَسكن فِي ظلمَة الرَّحِم مُدَّة ثمَّ خرج على مجْرى الْبَوْل وَدم الْحيض وتعلقت نِسْبَة الْوَلَد وَالزَّوْجَة وَأَنْتُم تَجْعَلُونَ لله مَا تَكْرَهُونَ وتصف أَلْسِنَتكُم الْكَذِب لَا جرم أَن لكم النَّار وأنكم مفرطون وَكَيف يعظمه من يعبد غَيره ويعظم سواهُ وَيُخَالِفهُ فِي أمره ويرتكب مَا عَصَاهُ وَهَا أَنْتُم قد اتخذتم الْمَسِيح إِلَهًا أَو شطر إِلَه وعبدتم من دون الله غَيره وعظمتم سواهُ وخالفتم فِي ذَلِك قَول الْمَسِيح عليه السلام وعصيتم أَمر خالقه ومرسله ذِي الْجلَال وَالْإِكْرَام وَأَنْتُم تقرأون فِي كتابكُمْ عَن أشعياء عليه السلام أَنه قَالَ عَن الله مبشرا بالمسيح عليه السلام هَذَا غلامي الْمُصْطَفى وحبيبي الَّذِي ارتضت بِهِ نَفسِي وَكَذَلِكَ تقرأون فِي إنجيل ماركش أَن الْمَسِيح قَالَ
للْعَالم الَّذِي سَأَلَهُ عَن أول العهود إِن السَّيِّد إلهك إِلَه وَاحِد وَذكر كلَاما فَقَالَ لَهُ الْعَالم قلت الْحق يَا معلم إِن الله وَحده وَلَا إِلَه غَيره فَالله تَعَالَى يَقُول عَن الْمَسِيح هُوَ غلامي وَأَنْتُم تَقولُونَ هُوَ ولدك والمسيح يَقُول لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنْتُم تَقولُونَ أَنْت إِلَه آخر فتعالى الله عَمَّا تَقولُونَ وسبحانه عَمَّا تصفون وَسَيَأْتِي الْكَلَام على هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فها أَنْتُم قد خالفتم أَمر الله وعظمتم سوى الله وَهَذَا إنجيل متاؤوش يشْهد عَلَيْكُم بِخِلَاف مَا إِلَيْهِ صرتم فَإِن فِيهِ أَن الْمَسِيح قَالَ لإبليس حِين رام خديعته قد صَار مَكْتُوبًا أَن تعبد السَّيِّد إلهك وتخدمه وَحده وَأَنْتُم تَعْبدُونَ غير الله وتسجدون لسواه تتحكمون فِي ذَلِك بأهوائكم وتخالفون قَول أنبيائكم {وَمن أضلّ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله} وَتقول بالعظائم على الله
وَأما قَوْلك بِمثل تعارفنا فِي الْحَمد فَإِن كَانَ وضع تعارف مَوضِع معرفَة فقد أخل بِالْمَعْنَى وَخَالف اللُّغَة وَلَو كَانَ يشم رَائِحَة من كَلَام الفصحاء لوبخ نَفسه على القالة هَذِه الشنعاء وَلَو نزلناه على أَنه أَرَادَ مَا تعارفه مخاطبوه فِيمَا بَينهم فِي معنى حمدالله لَكَانَ كَلَامه أَيْضا متناقضا وفاسدا وَعَن الصَّوَاب حايدا فَإِن حمد الله عِنْدهم ذمّ وشكرهم لَهُ كفر كَمَا تقدم وَمن كَانَ حَمده لله ذما
وشكره لَهُ كفرا وَكَانَ مَعْرفَته مثل شكره وحمده فقد حصل من الْعلم على ضِدّه وَخرج من الشُّكْر عَن حَده
وَأما قَوْلك والتعظيم لملوكنا وَأهل الرهبة من ذَوي السُّلْطَان منا فَقَوْل لَا يدل على زهدك فِي الدُّنْيَا وإقتدائك بورع الْمَسِيح عِيسَى وبخشية المعمد يحيى عظمت الْمُلُوك لملكهم طَمَعا فِي نيل سحت ملكهم وأعرضت عَن القسيسين ونسكهم وَلَو هديت السَّبِيل لَكَانَ الْأَنْبِيَاء والحواريون أَحَق وَأولى بالثناء والتبجيل لَكِن استهواك الطمع وإستفزك الجشع فآثرت الدُّنْيَا عَن الْآخِرَة فصفقتك اذن خاسرة وتجارتك بائرة
وَأما قَوْلك فرضا لَهُ شاكرين حامدين معظمين فَكَلَام غير مُنْتَظم وَلَيْسَ لَهُ مَفْهُوم ملتئم ذهب مَعْنَاهُ لِكَثْرَة لحنه يمجه الْعَاقِل ببديهة ذهنه أتلفت مَعْنَاهُ رضانة الْعَجم فَكَأَنَّهُ تبقى فِي نفس قائلة مكتتم
وَأما قَوْلك غير واقفين على ذَاته وَلَا مدركين لشَيْء مِنْهُ فلعمري لقد صدقت وَبِمَا أَنْت عَلَيْهِ من الْجَهْل بمعبودك نطقت فَأَيْنَ هَذَا من قَوْلك كتاب تثليث الوحدانية فِي معرفَة الله فقد جعلت هَذَا الْكتاب بزعمك موصلا إِلَى معرفَة الله ثمَّ لم ترجع النَّفس حَتَّى شهِدت على نَفسك بِالْجَهْلِ بِاللَّه فَظهر تنَاقض إعتقادك على لسَانك وَفِي تقييدك وَكَذَلِكَ يفعل الله بِكُل جَاهِل مهذار وَكَيف يعرف الله من لم يقف على معرفَة ذَاته وَلَا علم شَيْئا من صِفَاته وَهل ذَاته تَعَالَى إِلَّا عبارَة عَن وجوده فَإِن الموجودات الْمَوْجُود من غير مزِيد على مَا يعرف فِي مَوْضِعه بالبرهان فَمن لم يعرف ذَاته تَعَالَى لم يعرف وجوده وَمن لم يعرف وجوده فإمَّا شَاك وَإِمَّا جَاهِل
وَأما قَوْله وَإِنَّمَا نقع على أَسمَاء أَفعاله فِي خليقته وتدبيره فِي ربوبيته فَكَلَام لم يُورِدهُ فصيحا وَلَا فهمه صَحِيحا دَلِيل أَنه لم يردهُ فصيحا أَنه أَرَادَ بقوله نقع نَعْرِف وَإِلَّا لم يستقم كَلَامه فَكَأَنَّهُ قَالَ وَإِنَّمَا نَعْرِف أَسمَاء أَفعاله وَأَيْنَ نَعْرِف من نقع وَأي جَامع بَينهمَا عِنْد من عقل وَسمع فَإِن مَفْهُوم وَقع وَحَقِيقَته سقط الشَّيْء من أَعلَى إِلَى أَسْفَل وَلَيْسَ لهَذَا الْمَعْنى فِي كَلَامه مدْخل وَأما أَنه لم يفهمهُ صَحِيحا فَيدل عَلَيْهِ أَنه لَا يُجيب إِذا سُئِلَ عَنهُ فأصخ يَا هَذَا
سَمعك واستعن ملاك جمعك فَإِنِّي أَسأَلك وإياهم عَن حد الإسم وَحَقِيقَته وَهل هُوَ الْمُسَمّى أَو غَيره فَإِن كَانَ غَيره فَمَا حد الإسم وَمَا حد الْمُسَمّى وَمَا حد التَّسْمِيَة ثمَّ هَل يَنْقَسِم الإسم بِالْإِضَافَة إِلَى الْمُسَمّى أم لَا يَنْقَسِم فَإِن انقسم فعلى كم قسم وَإِنَّمَا أوردت عَلَيْهِ هَذِه الأسئلة كَيْلا لَهُ بضَاعَة وليكون ذَلِك أبلغ فِي دَفعه وأقطع لنزاعه ثمَّ إِنَّه أضَاف أَسمَاء إِلَى أَفعَال الله وَلَا يشك عَاقل فاهم فِي أَن أَفعَال الله تَعَالَى إِنَّمَا يُرَاد بهَا مخلوقاته ومخلوقاته وخليقته وَاحِد فِي الْمَعْنى فَكَأَنَّهُ قَالَ على مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهر كَلَامه وَإِنَّمَا نقع على أَسمَاء مخلوقاته فِي مخلوقاته فأبدل لفظ مخلوقاته بأفعاله وَهَذَا كَلَام قَلِيل العائدة بل عديم الْفَائِدَة ثمَّ أَسمَاء أَفعاله إِنَّمَا هِيَ عبارَة عَن الْأَلْفَاظ الدَّالَّة على أَفعاله وأفعاله كَمَا قُلْنَا مخلوقاته كَلَفْظِ السَّمَاء وَالْأَرْض وَغير ذَلِك فَمن عرف الْأَلْفَاظ الدَّالَّة على هَذِه الْمَخْلُوقَات أَي شَيْء يحصل لَهُ بِسَبَبِهَا من معرفَة الله تَعَالَى وَأي دلَالَة وَأي نِسْبَة بَين معرفَة اللَّفْظ الَّذِي يدل على السَّمَاء فِي التخاطب مثلا وَبَين معرفَة الله تَعَالَى وَهل قَوْله هَذَا إِلَّا هذيان من القَوْل وارتباك فِي ورطة الْجَهْل
وأا قَوْله وتدبيره فِي ربوبيته فَالظَّاهِر من لفظ التَّدْبِير السَّابِق مِنْهُ إِلَى الْفَهم أَنه عبارَة عَن التفكر النَّفْسِيّ وَالتَّقْدِير الذهْنِي والباري سُبْحَانَهُ متعال عَن التَّدْبِير الَّذِي هُوَ التفكر وَالتَّقْدِير فَإِنَّهُ لَا يتَصَوَّر إِلَّا فِي حق من جهل شَيْئا فَأَرَادَ أَن يسْتَعْمل فكرة فِي تَحْصِيل الْعلم بِهِ وَالْجهل على الله محَال فالتدبير بِمَعْنى الْفِكر عَلَيْهِ محَال فَإِن أَرَادَ السَّائِل بِكَلَامِهِ غير هَذَا فَلَا بُد من بَيَانه وإيضاح برهانه
وَأما الربوبية فَلفظ مُشْتَقّ من لفظ الرب والرب فِي مُسْتَعْمل كَلَام الْعَرَب لَهُ مَعْنيانِ مستعملان أَحدهمَا السَّيِّد وَالثَّانِي الْمَالِك فَإِن أَرَادَ بِهِ الْمَعْنى الأول الَّذِي يرجع إِلَى السؤدد والشرف فَهُوَ خطأ من حَيْثُ أَن سؤدده وَاجِب لَهُ فَلَا يحْتَاج فِي تَحْصِيله إِلَى سَبَب من تَدْبِير وَلَا مُقْتَضى تفكير وَمُقْتَضى كَلَامه وَمَفْهُومه أَنه دبر فِي ربوبيته وأوجدها عَن تَدْبيره لنَفسِهِ وَهَذَا جهل بواح وَكفر صراح وَإِن أَرَادَ بِهِ الْمَعْنى الثَّانِي الَّذِي يرجع مَعْنَاهُ إِلَى الْملك فَلَا يَسْتَقِيم أَيْضا على ظَاهر كَلَامه فَإِنَّهُ يكون معنى كَلَامه أَنه دبر فِي ملكه وأوجده
عَن التَّدْبِير الَّذِي هُوَ روية وتفكير ويتعالى عَن ذَلِك الْخَالِق الْقَدِير المنزه عَن خواطر النَّفس وهواجس الضَّمِير
ثمَّ لما فرغ هَذَا السَّائِل من خطبَته الغراء البديعة الْإِنْشَاء الَّتِي من وقف عَلَيْهَا علم أَنه عَن المعارف مَصْرُوف وَأَنه لَا يفهم الْمعَانِي وَلَا يحسن كِتَابَة الْحُرُوف شرع فِي طَريقَة الْجِدَال وَكَيْفِيَّة الإستدلال فَكَأَنَّهُ فِي نظم مقعولاته الطوسى وَفِي آدَاب جدله البروى ولعمر الله لَو كَانَ هَذَا السَّائِل عَاقِلا لستر عواره وَلم يبد غَارة
وَلكنه جهل فَقَالَ وَحَيْثُ وَجب أَن يسكن جال
وَلَقَد كَانَ يَنْبَغِي لهَذَا السَّائِل أَلا يتَكَلَّم فِي شَيْء من عُلُوم الإعتقاد حَتَّى يحسن شُرُوط النّظر وَيحكم مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الْموَاد والفكر وَلما بَادر إِلَى الْكَلَام فِي ذَلِك من غير تَحْصِيل شَيْء مِمَّا هُنَالك تثبج عَلَيْهِ كَلَامه وصعب عَلَيْهِ مرامه فَرُبمَا كَانَ الْمَعْنى الَّذِي يَقْصِدهُ قَرِيبا فيبعده أَو مجتمعا فيبدده وسيتبين ذَلِك فِي كَلَامه
وَلما كَانَ ذَلِك رَأَيْت أَنى إِن تتبعت كَلَامه كَمَا تتبعت خطبَته خرج الْأَمر الإعتدال وَأدّى ذَلِك إِلَى الكسل والملال وضياع الزَّمن فِي ضروب الهذيان هُوَ غَايَة الخسران فَرَأَيْت أَن أعرض عَن آحَاد كَلِمَاته وأناقشه فِي مَعَانِيهَا ومفهوماتها ثمَّ إِنِّي رُبمَا لَا أَتكَلّم مَعَه حَتَّى أحكى مذْهبه وَأبين لَهُ مَا أَرَادَهُ بِكَلَام حسن وجيز ليَكُون ذَلِك أبلغ فِي الْفَهم وَأمكن فِي التَّمْيِيز وَإِلَى الله عز وجل أَرغب وَعَلِيهِ أتوكل فِي أَن يشْرَح صدورنا وييسر علينا أمورنا ويستعملنا فِيمَا يقربنا مِنْهُ وينفعنا عِنْده أَنه ولى ذَلِك الْقَادِر عَلَيْهِ
تمّ الصَّدْر والآن نشرع فِي الْأَبْوَاب