الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمِنْهَا
أَنه لَا يبعد أَن يكون الله تَعَالَى رفع الْمَسِيح إِلَى السَّمَاء وصور لَهُم شَيْطَانا أَو غَيره بِصُورَة تشبه صورته فاعتقدوا أَنه هُوَ فصلبوه وَإِلَى هَذَا يشيء سُكُوته حَيْثُ سَأَلُوهُ فَسكت وَلم يجاوبهم وَفِي الْوَقْت الَّذِي تكلم لَهُم نزلت تِلْكَ الصُّورَة نَفسهَا مَنْزِلَته وَهَذَا كُله مُمكن لَا يَدْفَعهُ عقل فَإِن الله على كل شَيْء قدير وَلَا يَدْفَعهُ ايضا نقل
فَإِن كل مَا نقلتموه لَيْسَ نصا قَاطعا وَلَا نقل نقلا متواترا فَحصل من هَذَا أَنكُمْ غير عَالمين بصلبه وَلَا موقنين بقتْله
وَأما الْيَهُود فليسوا أَيْضا عَالمين بِشَيْء من ذَلِك إِذْ لَا يصدقون كتابكُمْ وَلَيْسَ عِنْدهم نقل متواتر بذلك على التَّفْصِيل وغايتهم أَن يعتقدوا على الْجُمْلَة أَن رجلا كَانَ فِيمَا مضى غير بعض أَحْكَام التَّوْرَاة فَشهد عَلَيْهِ بذلك فَقتل وَكِتَابكُمْ يدل على أَنهم إِنَّمَا قتلوا رجلا شهد لَهُم فِيهِ يهوذا الأشكريوث أَنه الْمَسِيح الَّذِي ادّعى أَنه ابْن الله فَحصل من هَذَا أَن الْيَهُود فِي شكّ مِنْهُ وأنكم أَنْتُم على غير علم بِهِ وَهَكَذَا قَالَ كتاب الله النَّاطِق على لِسَان رَسُوله الصَّادِق {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صلبوه وَلَكِن شبه لَهُم وَإِن الَّذين اخْتلفُوا فِيهِ لفي شكّ مِنْهُ مَا لَهُم بِهِ من علم إِلَّا اتِّبَاع الظَّن وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينا بل رَفعه الله إِلَيْهِ وَكَانَ الله عَزِيزًا حكيما}
وَحين بَينا أَنهم فِي شكّ من الصلوبية يَنْبَغِي أَن نتتبع بِالنَّقْضِ كَلَامهم الْمُتَقَدّم فَنَقُول
أما قَوْلهم من رَحمته على النَّاس أَنه رضى بهرق دَمه عَنْهُم فِي خشيَة الصلب فتواقح لَا يفوه بِهِ من لَهُ من الْحيَاء أقل نصيب يَا عجبا كَيفَ يجترئ أَن ينْطق بِهَذِهِ القبائح عَاقل أم كَيفَ يرضى لنَفسِهِ بِمثل هَذِه المخازي فَاضل وهلا كَانَ يرحم عباده بِأَن يغْفر لأبيهم وَلَا يحْتَاج إِلَى هَذَا كُله أَو لَيْسَ كَانَ يكون غفران الذَّنب أَهْون عَلَيْهِ ابْتِدَاء وأليق بالحكمة وَالرَّحْمَة والرأفة من أَن يُعَاقب من لم يجن ثمَّ ذَلِك المعاقب الَّذِي لم يجن الذَّنب ابْنه بل وَهُوَ عنْدكُمْ
نَفسه بإعتبار مَا حل فِيهِ مِنْهُ فَلم يرض من عُقُوبَة الذَّنب الَّذِي جناه آدم حَتَّى عاقب نَفسه أَو ابْنه فَأنْتم فِي هَذَا القَوْل الوقاح والإفك الصراح بِمَنْزِلَة رجل أَخطَأ عَلَيْهِ عَبده فبقى بعد مُدَّة غاضبا عَلَيْهِ وعَلى غَيره من عبيده نَاوِيا على معاقبتهم حَتَّى ولد لنَفسِهِ ولد فَعمد إِلَيْهِ فَقتله بذنب العَبْد الَّذِي كَانَ أذْنب ثمَّ لم يقنع بذلك حَتَّى ضرب نَفسه ولامها وأهانها على مَا صنع عَبده مَعَ أَنه قد كَانَ مُتَمَكنًا من أَن يغْفر لعَبْدِهِ وَلَا يفعل هَذَا بولده وَلَا بِنَفسِهِ فَأَي تشف يحصل لَهُ مِمَّا فعل بل يحصل لَهُ كل ألم وَنقص وخلل مثل السَّفِيه الأحمق الْجَاهِل بل يزِيدهُ ذَلِك فِي كربته وَيَدْعُو إِلَى دوَام حزنه وحسرته
ويلزمكم على ذَلِك أَن يكون الله تَعَالَى لم يتب على آدم عليه السلام إِلَّا بعد أَن صلب الْمَسِيح وَبِذَلِك تَكْذِيب كتب الْأَنْبِيَاء فَإِنَّهَا تقتضى أَن آدم بَكَى على خطيته ودعا الله تَعَالَى حَتَّى تَابَ عَلَيْهِ واجتباه ويلزمكم أَيْضا عَلَيْهِ أَن يكون نوح وَإِبْرَاهِيم ومُوسَى وَمَا بَينهم من النَّبِيين عصاة بذنب آدم حَتَّى صلب عِيسَى وَحِينَئِذٍ غفر لَهُم
وَقد صرح بعض أقستكم لَعنه الله أَن آدم وَجَمِيع وَلَده إِلَى زمَان عِيسَى كَانُوا كلهم ثاويين فِي الْجَحِيم بخطيئة أَبِيهِم حَتَّى فداهم عِيسَى بهرق دَمه فِي الْخَشَبَة فَلَمَّا صلب نزل جَهَنَّم وَأخرج مِنْهَا جَمِيعهم إِلَّا يهوذا الأشكريوث
فَانْظُر هَل يستجرئ مَجْنُون موسوس على أَن يَقُول أَن نوحًا وَإِبْرَاهِيم الْخَلِيل ومُوسَى الكليم وَمن بَينهم من النَّبِيين مثل يَعْقُوب وَإِسْحَق وَغَيرهمَا من الْأَبْنَاء صلوَات الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ كلهم فِي نَار الْجَحِيم وَالْعَذَاب الْأَلِيم وَفِي السخط الْعَظِيم حَتَّى صلب الْإِلَه نَفسه وإبنه
فَانْظُر هَل سبّ الْأَنْبِيَاء بأقبح من هَذِه الشتائم أَو هَل تجرأ أحد قطّ أَن يَقُول على الله وعَلى رسله مثل هَذِه العظائم فسبحان الْحَلِيم الَّذِي يمهلكم والكريم الَّذِي يرزقكم وَلَكِن إِنَّمَا يعجل من يخَاف الْفَوْت أَو يجزع من الْمَوْت {وَيَوْم الْقِيَامَة ترى الَّذين كذبُوا على الله وُجُوههم مسودة أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مثوى للمتكبرين}
ثمَّ يلزمكم عَلَيْهِ أَيْضا نِسْبَة الله إِلَى الْجور وَإِلَى أَنه يَأْخُذ بالذنب غير فَاعله ويعاقب على الزُّور غير قَائِله وَهَذَا يهون عَلَيْكُم إِذْ لَيْسَ للإله قدر عنْدكُمْ إِذْ قد صرحتم بِأَن آدم ظلمه وَأَنه لَا يُمكن أَن ينْتَقم مِمَّن ظلمه واستهان بِقَدرِهِ
فياليت شعري لأي شَيْء لم يُمكنهُ أَن ينْتَقم من عَبده الْعَاجِز عَن ذَلِك أم لِأَنَّهُ لَا يقدر على عِقَاب أحد مِمَّن هُنَالك أم بحكمة أَنه يُعَاقب غير الْجَانِي أم لحكمة قتل وَلَده فِي جِنَايَة عَبده
قاتلكم الله مَا أسخف عقولكم وَمَا أرك فروعكم وأصولكم ثمَّ أعجب من ذَلِك أَنهم يَقُولُونَ الْكَلِمَة هِيَ الله وَالله هُوَ الْمَسِيح ثمَّ يَقُولُونَ إِنَّه لم يُمكنهُ أَن ينْتَقم من عَبده العَاصِي الَّذِي ظلمه وَإِنَّمَا انتقم من إِلَه مثله
فَانْظُر إِلَى هَذَا التَّنَاقُض الشنيع كَيفَ يعتقدونه تَارَة أَنه هُوَ فَيلْزم عَلَيْهِ أَنه هُوَ المنتقم والمنتقم مِنْهُ والمعاقب والمعاقب وَتارَة يَعْتَقِدُونَ أَن الإهانة والصلب لم يحل بلاهوته بل حل بناسوته
وناسوته لَيْسَ بإله فَيلْزم على هَذَا القَوْل الآخر أَنه لم ينْتَقم من إِلَه مثله وَكَيف مَا كَانَ فالتناقض لَهُم لَازم والمحال
وَهَكَذَا يفعل الله بالجهال أهل الضلال ثمَّ انْظُر سخف جرأتهم على الْكَذِب وَقَوْلهمْ بالمحال من غير سَبَب حَيْثُ قَالَ فَأَخَذُوهُ وصلبوه فغار دَمه فِي اصبعه وَهَذَا لم يرد مِنْهُ شَيْء فِي كتبهمْ بل هُوَ من كذبهمْ وإختراعهم
وَلَو كَانَ هَذَا حَقًا لَكَانَ أولى بِالنَّقْلِ من نقلهم جعل الصَّلِيب على عُنُقه وَأَنه رفع إِلَيْهِ إِنَاء خل ليشربه وَكتب على خشبته بالرومية والعبرانية والعجمية هَذَا ملك الْيَهُود فَهَذَا ولابد كذب وتواقح فَإِن كابروا فِي ذَلِك على عَادَتهم قُلْنَا لَهُم فَأتوا بالإنجيل فاتلوه إِن كُنْتُم صَادِقين
ثمَّ انْظُر كَيفَ تنَاقض ذَلِك الْمُتَكَلّم على الْفَوْر فِي قَوْله لِأَنَّهُ
لَو وَقع شَيْء من دَمه على الأَرْض ليبست ثمَّ إِنَّه أثر ذَلِك قَالَ أَلا شَيْء وَقع فِيهَا نبت مِنْهُ النوار فَكيف يَصح فِي عقل مَجْنُون فأحرى فِي عقل عَاقل أَن يتَكَلَّم بِمثل هَذَا الهذيان أَو يسْتَحل أَن يَتَحَرَّك لَهُ بذلك لِسَان فَإِنَّهُ كذب فَاسد متناقض فلعمري لَو أَن شَيْطَانا يتقول على ألسنتهم وَهُوَ يُرِيد الإضحاك بهم مَا بلغ مِنْهُم بِأَكْثَرَ مِمَّا بلغُوا من أنفسهم بِهَذَا القَوْل السفساف الَّذِي اتّفق الْعُقَلَاء على فَسَاده وإستحالته من غير خلاف
وَلَقَد أحسن بعض عقلاء الشُّعَرَاء فِي إفحام هَؤُلَاءِ الأغبياء فَقَالَ
…
عجبى للمسيح بَين النَّصَارَى
…
وَإِلَى أَي وَالِد نسبوه
أسلموه إِلَى الْيَهُود وَقَالُوا
…
أَنهم بعد قَتله صلبوه
فَإِذا كَانَ مَا تَقولُونَ حَقًا
…
وصحيحا فَأَيْنَ كَانَ أَبوهُ
حِين حل ابْنه رهين الأعادي
…
أَترَاهُم قد رضوه أم أغضبوه
فلئن كَانَ رَاضِيا بأذاهم
…
فاحمدوهم لأَنهم عذبوه
وَإِذا كَانَ ساخطا فاتركوه
…
واعبدوهم لأَنهم غلبوه
…
فقد جعلتم أَنفسكُم ضحكة الْعُقَلَاء حَيْثُ ارتكبتم كل قبيحة شنعاء وَمَا بالنا نطول الْكَلَام مَعَ من تبين عارهم ومحالهم للخاص وَالْعَام فَقدر هَؤُلَاءِ الْقَوْم عِنْد الْعُقَلَاء أَحْقَر من قلامة فِي قمامة وأخس من بقة فِي حَقه وَلَوْلَا أَن هذيانهم ومحالهم طبق الْوُجُود لما كَانَ يَنْبَغِي أَن يتَكَلَّم مَعَهم من الْعُقَلَاء مَوْجُود فَإِن الْكَلَام مَعَهم مخل بالعقول محوج لحكاية القبائح والفضول
وَقد قدمت فِي صدر الْكتاب مَا يمهد الْعذر ويزيل العتاب وَأَنا اسْتغْفر الله الْعَظِيم الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم وأسأله التَّوْبَة من حِكَايَة قبائحهم وأسأله جزيل الْأجر فِي إبداء فضائحهم