الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثمَّ نقُول لَهُم هَذِه الصَّلَاة الَّتِي يصلب فِيهَا على الْوَجْه أفضل أم الصَّلَاة الَّتِي لَا يصلب فِيهَا فَإِن قَالُوا الصَّلَاة الَّتِي يصلب فِيهَا فيلزمكم على هَذَا أَن تكون صلَاتهم أفضل من صَلَاة الْمَسِيح وَكفى هَذَا شناعة وحماقة وَإِن كَانَت الصَّلَاة الَّتِي لَا يصلب فِيهَا هِيَ الْأَفْضَل فَيَنْبَغِي أَلا تَفعلُوا مَالا فَضِيلَة فِيهِ وَهَذَا كُله يبين أَن هَؤُلَاءِ الْقَوْم لَا يعولون على الْأَنْبِيَاء فِي أحكامهم وَلَا يرجعُونَ إِلَى قوانينهم بل يعولون على أغراضهم وشهواتهم
فَلَقَد تمكن الشَّيْطَان مِنْهُم فأضلهم حَتَّى استدرجهم عَن الشَّرَائِع وأزلهم
فَهَذِهِ الْمسَائِل الَّتِي ذَكرنَاهَا هِيَ من مُعظم قواعدهم وأصولهم وَإِذا كَانَ عَمَلهم فِي هَذِه الْقَوَاعِد مثل مَا رَأَيْت فناهيك بفروعهم ولنقتصر على مَا ذكرنَا إِذْ فِيهِ تَنْبِيه على مَا لم نذْكر ثمَّ إِن أحوجونا إِلَى مزِيد تتبعنا كبار كتبهمْ بِأَن ننقضها حرفا حرفا ونبين فَسَادهَا لفظا لفظا
بقيت علينا مَسْأَلَة وَاحِدَة وَهِي بَيَان إعتقاداتهم فِي الدَّار الْآخِرَة وعذابها وَنَعِيمهَا وَبهَا اختتام هَذَا الْفَنّ إِن شَاءَ الله تَعَالَى
مَسْأَلَة فِي قَوْلهم فِي النَّعيم وَالْعَذَاب الأخراوين
قَالَ صَاحب كتاب الْمسَائِل
لسنا نَنْتَظِر فِي الْمُكَافَأَة الإلهية شَيْئا من الأرضيات الفانيات كَالَّذي ينتظره شيعَة ملسيان وَلَا تَزْوِيج العرائس كَالَّذي يشتهيه جرنش ومركش وَلَا مَا ينتسب إِلَى الْمَأْكُول والمشروب كَالَّذي يسوغه بابيه وَجَمَاعَة وَلَا نَنْتَظِر أَن يكون ملك الْمَسِيح فِي الأَرْض ألف سنة بعد الْقِيَامَة ليمتلك الصالحون مَعَه متنعمين كتعليم قابوش الَّذِي خيل بقيامتين الأولى للصالحين وَالثَّانيَِة للْكَافِرِينَ فَقَالَ إِن مَا بَين هَاتين القيامتين تمسك الأحباس الجاهلة بِاللَّه فِي زَوَايَا الأَرْض فِي أجسامهم ثمَّ يحملهم الشَّيْطَان بعد تملك الصَّالِحين فِي الأَرْض ألف سنة على محاربة الصَّالِحين المتملكين فيدفعهم الله عَنْهُم بأمطار النيرَان مُحَاربًا عَنْهُم فيموتون هَكَذَا
مَعَ سَائِرهمْ الَّذين مَاتُوا فِي الْكفْر ثمَّ يحيون فِي لحم غير متغير للعذابات الدائمة
قد بَين هَذَا الْمُتَكَلّم الحاكي خبط النَّصَارَى وإختلاف فرقها فِي هَذِه الْمَسْأَلَة بِمَا أغْنى عَن الْبَحْث عَن كثير من فرقهم على أَن فرقهم لَا تَنْحَصِر وإختلافهم لَا يَنْضَبِط فَإِن إختلافهم كإختلاف المجانين إِذا اجْتَمعُوا فَكل وَاحِد مِنْهُم يتَكَلَّم بِمَا لَا يعقل وَمَا لَا حجَّة لَهُ عَلَيْهِ وَلَا معول
لَكِن مَذْهَب جماهيرهم ومعظمهم وَمن ينتسب إِلَى التدين مِنْهُم أَن الْخلق لابد أَن يجتمعوا فِي الْقِيَامَة وَأَن عِيسَى محاسبهم فينعم ويعذب لَكِن لَيْسَ عذَابا بنيران وسلاسل وأغلال وَغير ذَلِك مِمَّا نعتقده نَحن وَلَيْسَ نعيما أَيْضا بمأكول ومشروب والتذاذ بِنِكَاح
وَيُشبه وَالله أعلم مَذْهَبهم فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مَذْهَب الفلاسفة حَيْثُ يُنكرُونَ الْعَذَاب المحسوس وَالنَّعِيم ويصرفون ذَلِك إِلَى الإلتذاذ الروحاني لكِنهمْ لَا يصرحون بِهِ كَمَا تصرح بِهِ الفلاسفة إِذْ لَا يقدرُونَ على تَبْيِين أغراضهم لقصورهم وَنحن نتكلم هُنَا مَعَ من يُنكر ذَلِك من المتشرعين فَإِنَّهُم قد اجْتَمعُوا على إعادتنا كَمَا كُنَّا أول مرّة إِذْ قد اجْتمعت على ذَلِك الشَّرَائِع كلهَا من غير اخْتِلَاف بَينهَا فِيهِ
فَنَقُول لمنكر ذَلِك لَا يَخْلُو أَن مَا تنكره أما من جِهَة الْعقل أَو من جِهَة الشَّرْع فَإِن قَالَ من جِهَة الْعقل قُلْنَا لَهُ كذبت وأخطأت فَإِن الْعقل لَا يدل على اسْتِحَالَة ذَلِك بل يدل على جَوَازه إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِك إِلَّا أَن الَّذِي خلقنَا أول مرّة ومكننا أَن نتنعم نعيما محسوسا ونتألم ألما محسوسا قَادر على أَن يعيدنا بعد أَن يفنينا كَمَا بدأنا
فَإِن الْإِعَادَة إِنَّمَا هِيَ خلق ثَان وَمن قدر على الْخلق الأول قدر على الْخلق الثَّانِي وَهَذَا مَعْلُوم بِنَفسِهِ فَهُوَ إِذن فعل مُمكن فِي نَفسه لَيْسَ من قبيل الْمُمْتَنع وَالله تَعَالَى قَادر على كل مُمكن فَيجب وَصفه بِالْقُدْرَةِ على ذَلِك فَإِن قَالُوا إِن كَانَ فِي الْجنَّة أكل
وشراب وَنِكَاح ولباس فَيلْزم عَلَيْهِ أَن يكون فِي الْجنَّة غَائِط وَبَوْل وولادة وتمزيق الثِّيَاب وتخريقها
وكل ذَلِك محَال أَن يكون فِي الْجنَّة قُلْنَا هَذَا جهل وَلَا يلْزم شَيْء مِمَّا ذكرْتُمْ فِيهَا بل نقُول هُنَاكَ أكل وَشرب وَلَيْسَ هُنَالك غَائِط وَلَا بَوْل وَهَذَا غير مُنكر إِذْ لَا يلْزم فِي كل طَعَام أَن يكون لَهُ فضلَة وَلَو سلمنَا أَن تكون لَهُ فضلَة لما لزم أَن يكون فضلَة مستقذرة بل قد تكون فضلات كَثِيرَة طيبا يتطيب بِهِ وَشَرَابًا يشرب مثل الْمسك فَإِنَّهُ دم حَيَوَان أَو رجيعه أَو الْعَسَل فَإِنَّهُ فضل حَيَوَان مَعْرُوف وَلَيْسَ شَيْء من ذَلِك مستقذرا بل هُوَ مستطاب مستلذ وَلَا يبعد أَن تكون فضلات الْجنَّة بل هُوَ هَكَذَا
وَقد جَاءَنَا على لِسَان الصَّادِق أَن أهل الْجنَّة لَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ إِنَّمَا هُوَ عرق يجرى من أَجْسَادهم مثل الْمسك
وَأما الْحمل فَلَا يلْزم شَيْء مِنْهُ إِذْ قد نجد من النِّسَاء العواقر وَهن اللواتي لَا يلدن فَكَذَلِك نسَاء أهل الْجنَّة لَا يلدن وَلَا يحضن
وَأما اللبَاس فَلَا يتمزق وَلَا يفنى وَفِي لِبَاس بني إِسْرَائِيل فِي المفاز دَلِيل على بطلَان مَا يخيل هَذَا السَّائِل فَالَّذِي يبْقى الثِّيَاب إِلَى مُدَّة قَادر على أَن يبقيها أَبَد الآبدين
وَهَذِه أُمُور لَا ينكرها إِلَّا كل غبي جَاهِل لَيْسَ لَهُ مَعْقُول حَاصِل فَإِذا دلّ الْعقل على جَوَازه فَيَنْبَغِي أَن يسْتَدلّ على وُقُوع ذَلِك ووجوده بِكَلَام الصَّادِقين صلوَات الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ فَنَقُول لمنكر ذَلِك شرعا
لَا يَصح لَك أَن تستدل على إنكارك بِشَيْء من كَلَام الْأَنْبِيَاء إِذْ لَا تَجدهُ بل سنريك نُصُوص كَلَامهم على إثْبَاته
مِنْهَا أَن من الْمَعْلُوم أَن آدم عليه السلام كَانَ يَأْكُل فِي الْجنَّة وَيشْرب وينكح فَإِن قَالُوا الْجنَّة الَّتِي كَانَ فِيهَا آدم قبل هُبُوطه إِلَى الأَرْض إِنَّمَا كَانَت فِي الأَرْض وَهِي جنَّة عدن الَّتِي قَالَ فِيهَا فِي التَّوْرَاة وغرس الله فردوسا بعدن من قبل وَأَسْكَنَهُ آدم
وَإِنَّمَا كَانَت تِلْكَ بستانا من بساتين الدُّنْيَا قُلْنَا لَيْسَ فِي التَّوْرَاة نَص قَاطع يدل على أَن الْجنَّة الَّتِي يرجع النَّاس إِلَيْهَا يَوْم الْجَزَاء لَيست هِيَ الَّتِي أسكن الله فِيهَا آدم بل التَّوْرَاة مُحْتَملَة لذَلِك وَأما كتَابنَا فَيدل على أَنَّهَا هِيَ
ثمَّ لَو سلمنَا أَنَّهَا لَيست هِيَ لحصل لنا من ذَلِك دَلِيل جَوَاز الْأكل وَالشرب وَالنِّكَاح فِي الْجنَّة فَإِنَّهُ كَمَا جَازَ أَن آدم أكل وَشرب فِيهَا كَذَلِك يجوز أَن يَأْكُل وَيشْرب وينكح فِي الْجنَّة الَّتِي يرجعُونَ إِلَيْهَا وَهَذَا بَين بِنَفسِهِ عِنْد الْمنصف
وَمِنْهَا أَن فِي الْإِنْجِيل أَن الْمَسِيح قَالَ لتلاميذه لَيْلَة أكل مَعَهم الفصح وَقد سقاهم كأسا من الْخمر وَقَالَ لَهُم إِنِّي لَا أشربها مَعكُمْ أبدا حَتَّى تشربوها معي فِي الملكوت عَن يَمِين الله وَهَذَا نَص لَا يحْتَمل التَّأْوِيل إِلَّا مَعَ ضعف وَفِيه أَيْضا فِي قصَّة العازر الَّذِي كَانَ مطروحا على بَاب الْغنى وَالْكلاب تلحس جراح قروحه وَأَن ذَلِك الْغنى نظر إِلَيْهِ فِي الْجنَّة مُتكئا على حجر إِبْرَاهِيم الْخَلِيل فناداه الْغنى وَهُوَ فِي النَّار يَا أبي إِبْرَاهِيم ابْعَثْ العازر إِلَى بِشَيْء من مَاء أبل بِهِ لساني وَهَذَا نَص آخر أبين من الأول
وَفِيه أَيْضا أَنه قَالَ للْيَهُود يَا ثعابين بني الأفاعي كَيفَ لكم والنجاة من عَذَاب النَّار
وَفِيه أَيْضا أَن الْجَمَاعَة قَالَت للمسيح بِكفْر ناحوم مَتى جِئْت إِلَى هُنَا يَا معلم فَقَالَ لَهُم آمين آمين أَقُول لكم تطلبونني لَيْسَ لأنكم رَأَيْتُمْ عجائب بل لأنكم أكلْتُم من الْخبز فشبعتم فارغبوا فِي طَعَام لَا يفنى فِي الْجنَّة الدائمة
وَفِيه أَيْضا أَنه قَالَ لتلاميذه فِي وَصِيَّة وصاهم بهَا لتطعمن ولتشربن فِي مائدتي فِي ملك الله
وَفِيه أَيْضا أَنه قَالَ للْيَهُود إِن كَانَ مُوسَى أطْعمكُم خبْزًا فِي المفاز فَأَنا أطْعمكُم خبْزًا سماويا يُرِيد الْجنَّة
وَقَالَ أشعياء يَا معشر العطاش توجهوا إِلَى المَاء الْورْد وَمن لَا فضَّة لَهُ فليذهب وليأكل وَيشْرب وَيَأْخُذ من الْخبز وَاللَّبن بِغَيْر فضَّة وَلَا ثمن
وَهَذَا كثير فِي كتب الْأَنْبِيَاء بِلَا شكّ وَلَا إمتراء فَإِن قَالُوا فلأي معنى لم يُصَرح مُوسَى فِي التَّوْرَاة بذلك وبأخبار الْقِيَامَة قُلْنَا الله وَرَسُوله أعلم وعَلى سَبِيل التَّنْبِيه تحْتَمل وُجُوهًا
أَحدهَا لعتو بني إِسْرَائِيل وتمردهم ولكلال أفهامهم
ثَانِيهَا لبعد زمَان ذَلِك
ثَالِثهَا ليعجل لَهُم جَزَاء أَعْمَالهم فَإِنَّمَا كَانُوا يهددون ويخوفون بالعقوبات العاجلة ويوعدون باللذات العاجلة من الْملك وتكثير الرزق وخصب الْبِلَاد إِلَى غير ذَلِك
رَابِعهَا لِأَنَّهُ قد كَانَ سبق فِي علم الله تَعَالَى أَنه يُرْسل رَسُولا فِي آخر الزَّمَان لَيْسَ بعده نَبِي وَلَا رَسُول يبين أُمُور الْآخِرَة بَيَانا شافيا وَهُوَ مُحَمَّد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ لقرب الْقِيَامَة من زَمَانه وليحصل لنبينا صلى الله عليه وسلم من فَضِيلَة الْعلم والأعلام مَا لم يحصل لأحد غَيره ولتختص أمته بِعلم لَيْسَ لأحد غَيرهَا وَهَذَا الْوَجْه هُوَ أقرب الْوُجُوه وَالله أعلم
وَيدل على ذَلِك قَوْله فِي التَّوْرَاة حِين بشر بنبينا عليه السلام وَذكر كثيرا من علاماته وَمَعَهُ كتاب نَارِي وَقد تقدم ذكر ذَلِك وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَيْضا أَنَّك لَا تَجِد عِنْد أمة من الْأُمَم من أَخْبَار الْقِيَامَة أُمُور الْآخِرَة مَا عِنْدهم
فَالْحَمْد لله الَّذِي جعل لنا كل الْفَضَائِل وخصنا بِمُحَمد صلى الله عليه وسلم خير نَبِي وفاضل
فقد ظهر من هَذَا النّظر أَن مَا انتحلوه من إِنْكَار النَّعيم وَالْعَذَاب المحسوسين بَاطِل بِشَهَادَة الْعُقُول وبنصوص كَلَام الْأَنْبِيَاء الْمَنْقُول
وَقد فَرغْنَا فِي الْفَنّ الأول وَالْحَمْد لله كثيرا