الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمُقدمَة الثَّانِيَة
وَأما الْمُقدمَة الثَّانِيَة
فالغرض مِنْهَا أَن تتبين فِيهَا أَن عِيسَى عليه السلام ظَهرت المعجزات على يَدَيْهِ وتحدى بهَا الْخلق ليؤمنوا أَنه رَسُول الله لَا ليؤمنوا بِأَنَّهُ إِلَه وَأَن النَّصَارَى غير عَالمين بمعجزات عِيسَى عليه السلام إِذْ لم تتوافر عِنْدهم فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
إِن النَّصَارَى غايتهم أَن يسندوا معجزات عِيسَى عليه السلام لما فِي أَيْديهم من الْإِنْجِيل وَهُوَ لم يتواتر نَقله وَلَا أَمن التحريف والغلط فِيهِ على مَا تقرر قبل وَإِذا كَانَ هَذَا فَكل مَا فِي أَيْديهم من الْأَخْبَار عَنهُ فِي الْإِنْجِيل لَا تفِيد الْعلم الْقطعِي وَغَايَة ذَلِك أَن تفِيد غَلَبَة ظن
وَالظَّن فِي الإعتقاد بِمَنْزِلَة الشَّك بل هُوَ شكّ فَإِذن هم من معجزات عِيسَى فِي شكّ وهم لَا يَشْعُرُونَ بذلك الْإِفْك
وَمِمَّا يدل على أَنهم من كِتَابهمْ وشرعهم على غير علم
مَا استفاض فِي كتب التواريخ عندنَا وَعِنْدهم وَذَلِكَ أَن عِيسَى عليه السلام لما بَعثه الله تَعَالَى دَعَا بني إِسْرَائِيل للْإيمَان فَأَجَابَهُ من شَاءَ الله مِنْهُم فَلَمَّا رَفعه الله تَعَالَى استحلى النَّاس كَلَامه بعد ذَلِك حَتَّى بلغ عدد بني إِسْرَائِيل سبع مائَة رجل فَكَانُوا يجاهدون فِي بني إِسْرَائِيل وَيدعونَ الى الايمان فَقَامَ بولش الْيَهُودِيّ وَكَانَ هُوَ الْملك فِي بنى اسرائيل فحشد عَلَيْهِم الأجناد وَخرج عَلَيْهِ وَقَاتلهمْ فَهَزَمَهُمْ وأخرجهم من بِلَاد الشَّام حَتَّى انْتهى فَلهم إِلَى الدروب فأعجزوه فَقَالَ بولش الْملك لجنوده إِن كَلَام هَؤُلَاءِ لمستحلى وَقد قدمُوا على عَدوكُمْ وسيرجعونهم فِي ملتهم فيكثرون علينا فيخروجون إِلَيْنَا ويخرجوننا من بِلَاد الشَّام وَلَكِنِّي أرى لكم رَأيا قَالُوا وَمَا هُوَ قَالَ تعاهدوني على كل شَيْء كَانَ خيرا أَو شرا فَفَعَلُوا فَترك ملكه ثمَّ لبس لباسهم وَخرج إِلَيْهِم ليضلهم حَتَّى
انْتهى إِلَى عَسْكَرهمْ فَأَخَذُوهُ وَقَالُوا الحمدلله الَّذِي أخزاك أمكن مِنْك فَقَالَ لَهُم أَجمعُوا رؤوسكم فَإِنَّهُ لم يبلغ مني حمقي أَن آتيكم وَإِلَّا وَمَعِي برهَان فأبلغوه رؤوسهم
فَقَالُوا مَالك فَقَالَ إِنِّي لَقِيَنِي الْمَسِيح منصرفي عَنْكُم فَأخذ سمعى وبصري وعقلي فَلم أسمع وَلم أبْصر وَلم أَعقل ثمَّ كشف عني فَأعْطيت الله عهدا أَن أَدخل فِي أَمركُم فَأتيت لأقيم فِيكُم وَأعْلمكُمْ التورا وأحكامها فصدقوه فَأَمرهمْ أَن يبنوا لَهُ بَيْتا ويفرشوه رَمَادا ليعبد الله فِيهِ بِزَعْمِهِ وَيُعلمهُم التَّوْرَاة
فَفَعَلُوا وعلمهم مَا شَاءَ الله ثمَّ أغلق الْبَاب دونه فأطافوا بِهِ وَقَالُوا نخشى أَن يكون رأى شَيْئا يكرههُ ثمَّ فَتحه بعد يَوْم فَقَالُوا أَرَأَيْت شَيْئا تكرههُ قَالَ لَا وَلَكِنِّي رَأَيْت رَأيا وأعرضه عَلَيْكُم فَإِن كَانَ صَوَابا فَخُذُوهُ وَإِن كَانَ خطأ فردوني عَنهُ قَالُوا هَات قَالَ هَل رَأَيْتُمْ سارحة تسرح إِلَّا من عِنْد رَبهَا وَتخرج إِلَّا من حَيْثُ تُؤمر بِهِ قَالُوا لَا قَالَ فَإِنِّي رَأَيْت الصُّبْح وَاللَّيْل وَالشَّمْس وَالْقَمَر والبروج إِنَّمَا تَجِيء من هَا هُنَا وَمَا أوجب ذَلِك إِلَّا وَهُوَ أَحَق الْوُجُوه أَن يصل إِلَيْهِ قَالُوا صدقت فردهم عَن قبلتهم
ثمَّ أغلق الْبَاب بعد ذَلِك بيومين ففزعوا أشر من الأول وأطافوا بِهِ ففتحه فَقَالُوا أرايت شَيْئا تكرههُ قَالَ لَا وَلَكِنِّي رَأَيْت رَأيا قَالُوا هَات قَالَ ألستم تَزْعُمُونَ أَن الرجل إِذا أهْدى إِلَى الرجل الْهَدِيَّة وأكرمه بالكرامة فَردهَا شقّ ذَلِك عَلَيْهِ وَأَن الله تَعَالَى سخر لكم مَا فِي الأَرْض وَجعل مَا فِي السَّمَاء لكم كَرَامَة فَالله أَحَق أَن لَا ترد عَلَيْهِ كرامته
فَمَا بَال بعض الْأَشْيَاء حَلَال وَبَعضهَا حرَام مَا بَين البقة إِلَى الْفِيل حَلَال قَالُوا صدقت
ثمَّ أغلق بعد ذَلِك ثَلَاثًا ففزعوا أمثل من الثَّانِيَة فَلَمَّا فتح لَهُم قَالَ لَهُم إِنِّي رَأَيْت رَأيا قَالُوا هَات قَالَ لنخرج كل من فِي الْبَيْت إِلَّا يَعْقُوب ونسطور وملكون وَالْمُؤمن
فَفَعَلُوا فَقَالَ هَل علمْتُم أحدا من الْإِنْس خلق من الطين خلقا فَجعله فَصَارَ نفسا قَالُوا لَا قَالَ فَهَل علمْتُم أَن أحدا من الْإِنْس
أَبْرَأ الأكمه والأبرص وَأَحْيَا الْمَوْتَى قَالُوا لَا قَالَ هَل علمْتُم أَن أحدا من الْإِنْس يُنبئ النَّاس بِمَا يَأْكُلُون وَمَا يدخرون فِي بُيُوتهم قَالُوا لَا قَالَ فَإِنِّي أزعم أَن الله تَعَالَى تجلى لنا ثمَّ احتجب
فَقَالَ بَعضهم صدقت وَقَالَ بَعضهم لَا وَلكنه ثَلَاثَة وَالِد وَولد وروح الْقُدس وَقَالَ بَعضهم الله وَولده وَقَالَ بَعضهم هُوَ الله تجسم لنا
فافترقوا على أَربع فرق فَأَما يَعْقُوب فَأخذ بقول بولش إِن الله هُوَ الْمَسِيح وَأَنه كَانَ ثمَّ تجسم وَبِه أخذت شيعته وهم اليعقوبية وَأما نسطور فَقَالَ الْمَسِيح ابْن الله على جِهَة الرحمه وَبِه أخذت شيعته وهم النسطورية إِلَّا أَن شيعته لم تعتقد أَنه سمى إبنا على جِهَة الرَّحْمَة بل على مَا تقدم وَأما ملكون فَقَالَ إِن الله ثَلَاثَة وَبِه أخذت شيعته وهم الملكية الَّذين قَالُوا إِن الله ثَلَاثَة أقانيم فَقَامَ الْمُؤمن وَقَالَ لَهُم عَلَيْكُم لعنة الله وَالله مَا حاول هَذَا إِلَّا إفسادكم وَنحن أَصْحَاب الْمَسِيح قبله وَقد رَأينَا عِيسَى وَسَمعنَا مِنْهُ ونقلنا عَنهُ وَالله مَا حاول هَذَا إِلَّا ضلالتكم وفسادكم
فَقَالَ بولش للَّذين اتَّبعُوهُ قومُوا بِنَا نُقَاتِل هَذَا الْمُؤمن ونقتله هُوَ وَأَصْحَابه وَإِلَّا أفسد عَلَيْكُم دينكُمْ فَخرج الْمُؤمن إِلَى قومه وَقَالَ أَلَيْسَ تعلمُونَ أَن الْمَسِيح عبد الله وَرَسُوله وَكَذَا قَالَ لكم قَالُوا بلَى قَالَ فَإِن هَذَا الملعون قد أضلّ هَؤُلَاءِ الْقَوْم فَرَكبُوا فِي أَثَرهم
فقاتلوهم فَهزمَ الْمُؤمن وَأَصْحَابه وَكَانَ أقلهم تبعا فَخرج مَعَ قومه إِلَى الشَّام فأسرتهم الْيَهُود فَأَخْبرُوهُمْ الْخَبَر وَقَالُوا إِنَّمَا
خرجنَا إِلَيْكُم لنأمن فِي بِلَادكُمْ ومالنا فِي الدُّنْيَا من حَاجَة إِنَّمَا نلزم الكهوف والصوامع ونسيح فِي الأَرْض فَخلوا عَنْهُم
ثمَّ إِن قوما من أُولَئِكَ الَّذين كفرُوا فعلوا مثل مَا فعل قوم الْمُؤمن اتَّخذُوا الصوامع وساحوا وأظهروا الْبِدْعَة فَهُوَ قَول الله عز وجل {ورهبانية ابتدعوها مَا كتبناها عَلَيْهِم إِلَّا ابْتِغَاء رضوَان الله فَمَا رعوها حق رعايتها} يَعْنِي التَّوْحِيد اخْتلفُوا فِيهِ إِلَّا فرقة الْمُؤمن وَفِيهِمْ نزلت {فأيدنا الَّذين آمنُوا على عدوهم فَأَصْبحُوا ظَاهِرين} بالجهة وَظُهُور مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم
وَكَانَ هرب الْمُؤمنِينَ مِنْهُم إِلَى جَزِيرَة الْعَرَب فَأدْرك النَّبِي صلى الله عليه وسلم مِنْهُم ثَلَاثُونَ رَاهِبًا فآمنوا بِهِ وَصَدقُوهُ وتوفاهم الله على الْإِسْلَام
كَانَ هَذَا وَالله أعلم بعد الْمَسِيح بِأَرْبَعِينَ سنة أَو نَحْوهَا ثمَّ لم يزل أَمر الْمُؤمن وَأَصْحَابه خفِيا وَغَيرهم من الْفرق مُخْتَلفُونَ ويتهارجون وَلم يسْتَقرّ لَهُم قدم إِلَى مُدَّة قسطنطين قَيْصر الْملك ابْن هيلانة وَذَلِكَ بعد رفع الْمَسِيح بمائتين وَثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ سنة
وَذَلِكَ انه كثر عدوه وَكَاد ملكه يذهب بإختلاف رعاياه عَلَيْهِ وضعفهم وكسلهم عَن نصرته فرام حملهمْ على شَرِيعَة ينظم بهَا سلكهم ويؤلف بهَا متفرقهم فَاسْتَشَارَ من لَدَيْهِ من أهل النّظر فَوَقع اختيارهم على أَن يتعبد الْقَوْم بِطَلَب دم ليَكُون ذَلِك أقوى لارتباطهم مَعَه وأوكد لجدهم فِي نَصره فوجدوا الْيَهُود يَزْعمُونَ أَن فِي بعض تواريخهم خَبرا عَن رجل مِنْهُم هم أَن ينْسَخ حكم التَّوْرَاة وينفرد بالتأويل فِيهَا فعمدوا إِلَيْهِ وَهُوَ فِي نفر مِمَّن اتبعهُ وظفروا بِوَاحِد
مِنْهُم وَشهد لديهم رجل وَاحِد أَنه ذَلِك الْمَطْلُوب فصلبوه وَمَا عِنْدهم تَحْقِيق لكَونه ذَلِك الْمَطْلُوب بِعَيْنِه إِلَّا فقدهم إِيَّاه من حِينَئِذٍ
فَعِنْدَ ذَلِك عمد قسطنطين إِلَى من ينْسب إِلَى دين الْمَسِيح فَوَجَدَهُمْ قد اخْتلفت آراؤهم ومزجت أديانهم فاستخرج مَا بقى من رسم الشَّرِيعَة المنسوبة للمسيح وَجمع عَلَيْهَا وزراءه فَأثْبت مَا شَاءَ مِنْهَا وتحكم فِيهَا بإختياره حسب مَا رَآهُ مُوَافقا لَهُ بالصلوبية لتعبد قومه بِطَلَب دم وَالْقَوْل بترك الْخِتَان لِأَنَّهُ شَأْن قومه ثمَّ أكد ذَلِك وشده بمنامة إختلقها وَادّعى أَنه أوحى إِلَيْهِ فِيهَا
وَذَلِكَ أول شَيْء أظهره من هَذَا الْأَمر فَجمع أنصاره ورعاياه من الرّوم وَذَلِكَ على رَأس سبع سِنِين من مُدَّة ملكه وَقَالَ لَهُم إِنَّه كَانَ يرى فِي مَنَامه آتِيَا أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ بِهَذَا الرَّسْم تغلب وَعرض عَلَيْهِ هَيْئَة الصَّلِيب فأعظمت ذَلِك الْعَامَّة وإنفعلت لما سَمِعت مِنْهُ ثمَّ بعث إِلَى إمرأة فِي ذَلِك الزَّمَان يُقَال لَهَا الأنه كاهنة وَكَانَت ذَات جأش وَقُوَّة فَشَهِدت لَهُ أَنَّهَا رَأَتْ مثل مَا رأى فقوى تَصْدِيق الْعَامَّة لذَلِك
وَفِي هَذَا كُله لَا يعلمُونَ لذَلِك الرَّسْم تَأْوِيلا وَلَا كَانَ قسطنطين كشف لَهُم شَيْئا من أمره فَخرج بهم إِلَى عدوه وَوعظ قومه وهول عَلَيْهِم أَمر الرَّسْم فَحصل لَهُ كل مَا أَرَادَهُ من جد الْقَوْم وإجتهادهم مَعَه فَلَمَّا عَادوا إِلَى أوطانهم بعد الظفر بعدوهم سَأَلُوهُ عَن تَأْوِيل ذَلِك الرَّسْم وألحوا عَلَيْهِ فِيهِ فَقَالَ لَهُم قد أوحى إِلَى فِي نومي أَنه كَأَن الله تبارك وتعالى هَبَط من السَّمَاء إِلَى الأَرْض فصلبته الْيَهُود فهالهم ذَلِك كثيرا مَعَ مَا حصل عِنْدهم من تَصْدِيقه وَعظم عَلَيْهِم الْخطب فِيهِ فإنقادوا إِلَى قسطنطين إنقيادا حسنا وَصَحَّ لَهُ مِنْهُم مَا أَرَادَهُ وَشرع لَهُم هَذِه الشَّرَائِع الَّتِي بِأَيْدِيهِم الْيَوْم أَو أَكْثَرهَا
وَقد ظهر لجَماعَة من أهل الْعلم بأحوال الْأُمَم وبنوازل الْأَزْمَان أَن هَذَا الشَّخْص الَّذِي تعظمه النَّصَارَى وتصفه بالإلهية لم يكن لَهُ وجود فِي الْعَالم وَلَكِن قسطنطين إبتدع ذَلِك كُله وَاتفقَ مَعَ نفر من الْيَهُود من أَحْبَارهم على أَن يبْذل لَهُم من مَتَاع الدُّنْيَا مَا شَاءُوا وَيشْهدُونَ لَهُ عِنْد قومه بِأَن ذَلِك الشَّخْص كَانَ عِنْد الْيَهُود فصلبته فَفَعَلُوا وَكَتَبُوا من أخباره شَيْئا فتلقت ذَلِك النَّصَارَى وقبلوه ودانوا بِهِ وَلَعَلَّه أَكثر الْإِنْجِيل الَّذِي بِأَيْدِيهِم الْيَوْم
ولتعلم أَن هَذِه الْأَخْبَار الَّتِي ذَكرنَاهَا لَا يُمكنهُم إِنْكَار جُمْلَتهَا وَإِن أَنْكَرُوا بعض تفاصيلها لكَون هَذِه الْقَصَص مَعْرُوفَة على الْجُمْلَة عِنْدهم فَإِنَّهُم لَا يقدرُونَ على جحد محاربة بولش الْيَهُودِيّ وإجلاؤهم من الشَّام وَدخُول بولش فِي دينهم وَكَذَلِكَ ملك قسطنطين مِمَّا لَا يُنكرُونَ أشهاره لكتبهم ثمَّ لَو قَدرنَا أَن هَذِه الوقائع لم تعلم صِحَّتهَا وَلَا كذبهَا فشرعهم قَابل لأمثالها فَإِن مُعظم معتمدهم فِي أُمُور دياناتهم إِنَّمَا هُوَ الْإِنْجِيل وَنَقله غير متواتر لَا سِيمَا والأحداث عِنْدهم فِي أَكثر الأحيان بمنامات يدعونها يجعلونها أصولا يعولون عَلَيْهَا وبمحافل يَجْتَمعُونَ فِيهَا فيتحكمون بآرائهم