الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولدينا من الأخبار مَا يُؤَكِّدُ وُلُوعَ هَمَّامٍ بِالكُتُبِ وَاقْتِنَائِهَا وَإِمْلَائِهَا، فَقَدْ كَانَ «يَشْتَرِي الكُتُبَ لأَخِيهِ وَهْبٌ» (1) وكان يخرج إلى الناس الكتب والكراريس فَيُمْلِي منها الأحاديث (2).
مَوْقِفُ المُسْتَشْرِقِينَ مِنْ تَدْوِينِ الحَدِيثِ:
ليس علينا إذن أنْ ننتظر عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز حتى نسمع للمرة الأولى - كما هو الشائع - بشيء اسمه تدوين الحديث أو محاولة لتدوينه. وليس علينا أنْ ننتظر العصر الحاضر لنعترف بتدوين الحديث في عصر مُبَكِّرٍ جرياً وراء بعض المستشرقين كجولدتسيهر Goldziher وشبرنجر Springer، لأنَّ كتبنا وأخبارنا ووثائقنا التاريخية لا تدع مجالاً للشك في تحقيق تقييد الحديث في عصر النَّبِي نفسه وليس على رأس المائة الثانية للهجرة كما يمنُّ علينا هذان المستشرقان، وهي تنطق - فوق ذلك - بصدق جميع الوقائع والأقوال والسير والتصرفات التي تنطوي عليها الأحاديث الصحاح والحسان في كتب السُنَّة جميعاً لا في بعضها دون بعض كما يظن دوزي Dozy.
إنَّ هؤلاء المستشرقين لم تجشَّمُوا جمع الأدلة والبراهين على إثبات تدوين السُنَّة لإسداء خدماتهم الخاصة إلينا أدبنا وشريعتنا، بل لهم أغراض
= الناس من ناحية ثانية، لأنه التعداد المحفوظ في الكتب الموثوقة. فقد جاء في " تهذيب التهذيب ": 11/ 67 رقم 106: «فجالس - أي همام - أبا هريرة فسمع منه أحاديث وهي نحو من أربعين ومائة حديث بإسناد واحد» .
(1)
" تهذيب التهذيب ": 11/ 67 رقم 106.
(2)
" الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع " للخطيب البغدادي: جـ 8 وقة 112.
إليها يهدفون، ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون.
أما جولدتسيهر فعقد فصلاً خاصاً لكتابة الحديث في أبحاثه Muhammedanische Studien التي ترجم المجلد الثاني منها إلى الفرنسية (1). وفي هذا الفصل ( p. 241 - 250) أتى بأدلة كثيرة على تدوين الحديث في أول االقرن الهجري الثاني، وكان في الفصل الأول من الكتاب نفسه ( p. 10 - 12) قد سرد طائفة من الأخبار تشير إلى بعض الصحف التي دوَّنت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه أحاطها بكثير من التشكك في أمرها، والريبة في صحتها. وقد رمى بهذا إلى غرضين، أحدهما إضعاف الثقة باستظهار السُنَّة وحفظها في الصدور، لتعويل الناس في القرن الهجري الثاني على الكتابة، والآخر وصم السُنَّة كلها بالاختلاق، والوضع على ألسنة المدونين لها الذين لم يجمعوا منها إلَاّ ما يوافق أهواءهم ويعبر عن آرائهم ووجهات نظرهم في الحياة. لذلك أطلنا الحديث عن الصحف المكتوبة في عهده - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ - لنضع بين يدي القارئ الأسانيد التاريخية الموثوقة التي تثبت بدء الشروع في كتابة الأحاديث في حياته عليه السلام، وتؤكِّدَ تسلسل الرواية حفظاً وضبطاً في الوقت نفسه.
وشبرنجر في كتابه " الحديث عند العرب "(2) يحاول تفنيد المعتقد الخاطئ عن وصول السُنَّة بطريق المشافهة وحدها، ويجمع الكثير من الأدلَّة على تدوين الأحاديث والتعويل على هذا التدوين في عصر مبكِّرٍ يبدأ أَيْضًا في مطلع القرن
(1) ترجمها Leon Bercher سنة 1952 م بعنوان:
Etudes sur la Tradition Islamique، Maisonneuve، Paris.
(2)
Springer، das Traditionsvesen beiden Arabern، 1856، 1 - 17 dans Uber das Traditionsvesen beiden Arabern
الهجري الثاني وليس في حياة الرسول عليه السلام. وغايته لا تختلف في شيء عن غاية جولدتسيهر.
وأما دوزي فَلَعَلَّهُ يخدع برأيه المعتدل كَثِيرًا من علمائنا فضلاً عن أوساط المُتعلِّمِينَ فينا، فقد كان هذا المستشرق يعترف بصحة قسم كبير من السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ التي حفظت في الصدور وَدُوِّنَتْ في الكتب بدقة بالغة وعناية لا نظير لها «وما كان يعجب لكثير من الموضوعات والمكذوبات تَتَخَلَّلُ كُتُبَ الحديث - فتلك كما يقول طبيعة الأشياء نفسها - بل للكثير من الروايات الصحيحة الموثوقة التي لا يرقى إليها الشك (ونصف " صحيح البخاري " على الأقل جدير بهذا الوصف عند أشد المُحَدِّثِينَ غُلُوًّا في النقد) مع أنها تشتمل على أمور كثيرة يَوَدُّ المؤمن الصادق لو لم ترد فيها» (1).
فلم يكن غرض هذا المستشرق خَالِصًا للعلم والبحث المُجَرَّدِ حين مال إلى الاعتراف بصحة ذلك النصيب الكبير من السُنَّةِ، وإنما كان يُفكِّرُ أَوَّلاً وَآخِرًا بما اشتملت عليه هذه السُنَّةُ الصَّحِيحَةُ، من نظرات مُسْتَقِلَّةٍ في الكون والحياة والإنسان، وهي نظرات لا يدرأ عنها استقلالها النقد والتجريح لأنها لم تنبثق من العقل الغربي المعجز، ولم تُصَوِّرْ حياة الغرب الطليقة من كل قيد!
لن نكون عالة على هؤلاء المستشرقين في تحقيق شيء يتعلق بماضي ثقافتنا
(1) عِبَارَةُ دُوزِي فِي الأَصْلِ أَوْقَحُ مِنْ أَنْ نُورِدَهَا عَلَى حَالِهَا. وَمَنْ رَغِبَ فِي الاطِّلَاعِ عَلَى آرَاءِ هَؤُلَاءِ النَّاسِ فَعَلَيْهِ بِكِتَابِ:
Dozy، Essai sur L'Histoire de l'Islamisme، traduit par V.Chauvin، p. 124.
وستكون منهم على حذر في كل ما يؤرِّخُونه لحضارتنا - فما انتظرنا اعترافاتهم بتدوين الحديث، وما خفيت علينا الغاية من هذه الاعترافات، وسواء علينا أأقرُّوا أم جحدوا، فإنَّ رب الدار أدرى بالذي فيها، وإنَّ كتبنا الأمينة الموثوقة نطقت بوجود صحف مكتوبة في الحديث على عهده عليه السلام، وما يدرينا لعل جميع هذه الصحف ماثلة في كتب المسانيد في بطون مخطوطات الحديث المبثوثة في مكتبات العالم كما مثلت في " مسند ابن حنبل " صحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص وصحيفة أبي هريرة لهمام!.
ومن الآراء التي تَخَبَّطََ فيها المستشرقون على غير هدى من منطق سليم أو نقل صحيح أنَّ الأحاديث الواردة في شأن تدوين العلم حثاً عليه أو نهياً عنه إنما كانت أثراً من آثار تسابق أهل الحديث في جانب آخر إلى وضع الأقوال المؤيِّدة لنزعتَيْهِم المُتباينتين. فأهل الحديث ينزعون إلى جواز تقييد السُنَّة ليكون مستنداً بين أيديهم لصحتها والاحتجاج بها، وأهل الرأي - على العكس - ينزعون إلى النهي عن الكتابة وإثبات عدم تقييد العلم تمهيداً لإنكار صحته وإنكار الاحتجاج به (1). وقد توَلَّى كِبْرَ هذا الضلال العلمي جولدتسيهر Goldziher بعد اطلاعه على مقال في «نشأة
(1) Goldziher، Etudes sur la Tradition Islamique، p. 245 - 250.
وقارن أَيْضًا بما كتبته الباحثة روث مكنسون متأثرة فيه برأي جولدتسيهر في مقالاتها:
Ruth Mackenson، Arabic books and librairies in the Omayad period (in AJSL، vol. L. II-LIV، 245 - 253; vol. L. III، 239 - 249 ; vol. L IV 41 - 61) .
الكتابة وتطورها» لسلفه المستشرق شبرنجر Springer (1) الذي اكتشف سنة 1855 م كتاب " تقييد العلم " للخطيب البغدادي. غير أنَّ منهج المستشرقين يختلف اختلافاً جوهرياً في هذا الموضوع. أما شبرنجر فقد استنتج من نشأة الكتابة عند العرب ومن خلال النصوص الواردة في الكتاب المذكور أنَّ الحديث لا بُدَّ أنْ يكون دُوِّنَ منه الكثير في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وكان هذا ما يعنيه أولاً وبالذات. وأما جولدتسيهر فقد ارتاب في صحة جميع تلك النصوص، ورأى أنَّ بعضها وضعه أهل الحديث، وبعضها الآخر وضعه أهل الرأي.
وقد قيَّضَ الله لهذا الكتاب أنْ يُنشَرَ في دمشق نشراً علمياً دقيقاً، وإذا بناشره المُحقِّق الدكتور يوسف العش يورد في مقدمته براهين لا تحتمل النقاش على خطأ جولدتسيهر في رأيه، إذ أثبت أنَّ النزاع حول جواز الكتابة أو المنع منها لم يكن ضرباً من التسابق بين أهل الحديث وأهل الرأي «لأنَّ من أهل الرأي من امتنع عن الكتابة كعيسى بن يونس (- 187 هـ) وحماد بن زيد (- 179 هـ) وعبد الله بن إدريس (- 192 هـ) وسفيان الثوري (- 161 هـ) وبينهم من أقرَّها كحماد بن سَلَمَة (- 167 هـ) والليث بن سعد (- 175 هـ) وزائدة بن قدامة (- 161 هـ) ويحيى بن الليمان (- 189 هـ) وغيرهم. ومن المُحَدِّثِينَ من كره الكتابة كابن عُلية (- 200 هـ) وهُشيم بن بشير (- 183 هـ) وعاصم بن
(1) Springer، Origin and progress of writing،in the journal of the Asiatic society of Bengal، xxv، 303 - 329.
ضمرة (- 174 هـ) وغيرهم. ومنهم من أجازها كبقية الكلاعي (- 197 هـ) وعكرمة بن عمار (- 159 هـ) ومالك بن أنس (- 179 هـ) وغيرهم» (1).
ووفق الدكتور العش في تفسيره تطور موقف الصدر الأول من تقييد العلم محبة وبُغضاً، إلَاّ أنه يتفق وتطور الحياة الإسلامية السياسية والاجتماعية، ولسنا نشاطره رأيه في إيجاب هذا التقسيم، لأنه في ذاته مجرَّد اقتراح أو اصطلاح، فقد جعل الأجيال أربعة وحدَّدَ لكل جيل أربعين سنة (2)، وربما كان هذا التحديد «يوافق المدة التي يستطيع أنْ ينقطع فيها العالم في حقل العلم، ويوافق طبقات العلماء ونقل بعضهم عن بعض» (3)، ولكنه - على كل حال - تحديد زمني محصور في نطاق الزمن وحده، فأقل ما يفترض فيه الدقة التامة - وهي غير ميسَّرة - فقد تخالف وفيات بعض الرُواة هذا التحديد الزمني في قليل أو كثير فلا يسلم القول بهذا التقسيم. ويبدو لنا أنه ما يزال في وسعنا الاستفادة من
(1)" تقييد العلم " للخطيب البغدادي. مقدمة الناشر: ص 21 - 22.
(2)
وإليك هذه الأجيال الأربعة كما أوردها الدكتور العش في مقدمة " تقييد العلم ": ص 17.
1 -
عهد الرسول والصحابة الأولين، وينتهي حوالي سنة 40 هـ بوفاة آخر الخلفاء الراشدين.
2 -
عند التابعين المتأخِّرين وينتهي حوالي سنة 80 في أواخر عهد عبد الملك بن مروان.
3 -
عهد التابعين المتأخرين وينتهي حوالي سنة 120 في أواخر خلافة هشام بن عبد الملك.
4 -
عهد الخالفين وينتهي حوالي سنة 160.
(3)
" تقييد العلم ". مقدمة الناشر: ص 17.