الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَنَافِعَ بْنَ عُمَرَ مَكِّيُّ " (1). وقد عَبَّرَ الحاكم عن هذا النوع الثالث بقوله: «أَحَادِيثُ لأَهْلِ المَدِينَةِ تَفَرَّدَ بِهَا عَنْهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ مَثَلاً، وَأَحَادِيثُ لأَهْلِ مَكَّةَ يَنْفَرِدُ بِهَا عَنْهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مَثَلاً، وَأَحَادِيثُ يَنْفَرِدُ بِهَا الخُرَاسَانِيُّونَ، عَنْ أَهْلِ الحَرَمَيْنِ مَثَلاً، وَهَذَا نَوْعٌ يَعِزُّ وُجُودُهُ وَفَهْمُهُ!» (2).
كل هذه الأنواع الثلاثة - كما لاحظنا - تفرد بها شخص واحد، وكان التفرد مقيدًا في كل نوع منها بموضع من السند وقع فيه، لم يكن في أصل السند بل في أثنائه. وهذا التقييد الإضافي في الحديث الغريب هو الذي سَوَّغَ تسميته «فَرْدًا نِسْبِيًّا» ، وأكثر الأمثلة التي استشهدنا بها عليه ذكرها الحاكم في النوع الخامس والعشرين من علم الحديث وهو معرفة الأفراد (3)، كأنه لا يرى بين الفرد والغريب فرقًا إلا في التوجيه والتعليل بين إطلاق وتقييد.
د - 9 و 10 و 11 - العَزِيزُ وَالمَشْهُورُ وَالمُسْتَفِيضُ:
يجمع بين هذه الأنواع الثلاثة توسطها بين مصطلحي التفرد النسبط والتواتر المعنوي، ففيها شيء من الغريب (الذي رأينا أنه هو الفرد النسبي)، لأن الغربب إذا اشترك اثنان أو ثلاثة في روايته عن الشيخ سُمِّيَ عَزِيزًا، فإن رواه عنه جماعةُ سُمِّيَ مَشْهُورًا (4)، وإن روته عنه الجماعة وكان في ابتدائه
(1)" معرفة علوم الحديث ": ص 102.
(2)
نفسه: ص 100.
(3)
نفسه: من ص 96 إلى 102.
(4)
" اختصار علوم الحديث ": ص 187.
وانتهائه سواءًُ سُمِّيَ مُسْتَفِيضًا (1)، وفيها ضرب من التواتر المعنوي لانتشارها بين الناس بعد أن لوحظ في روايتها التعدد، فَعُزِّزَتْ بأكثر من رَاوٍ، واستفاضت وَكُتِبَتْ لها الشهرة بتناقلها على ألسنة الجماعة.
بيد أن هذه الأنواع الثلاثة ألصق بالغريب منها بالمتواتر، لأن مباحثها تتعلق بالإسناد، وليس للمتواتر صلة بالإسناد (2)، ثم إن تعدد الرواة فيها، على نِسَبِهِ المتفاوتة، لا يخرجها عن صفة الَاحادية ولا يبلغ بها درجة الجمع المشروط في التواتر، وهي أولاً وآخراً أسماء للغريب وألقاب حين يرقى عن التفرد بعض الشيء، وهي، لذلك، تحاكي الغريب في انقسامها مثله إلى صحيحة وحسنة وضعيفة.
والناظر العجول في هذه الأنواع الثلاثة يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أنها ينبغي أن تكون خالصة للصحيح، فهو يستبعد أن يكون الحديث الذي عَزَّ وَقَوِيَ بمجيئه من طريق أخرى، أو استفاض واشتهر برواية الجماعة له، بمنزلة الحديث الغريب الذي انفرد بروايته شخص واحد. وقد يبدو هذا الاستنتاج منطقيًا صحيحًا لما ألفه الناس في كل زمان ومكان من العناية بالكم والكثرة، ولكن التحقيق العلمي الدقيق يثبت أن مقياس المحدثين في تصحيح الروايات وتضعيفها ليس كَمِّيًّا فَيُعَوَّلُ على الأرقام والأعداد، ويقارن فى الجموع والأفراد: وإنما هو قيمي يُعْنَى بأوصاف الرجال
المذكورين في الأسانيد، أقلة كانوا أم كثيرين. ومن هنا رأينا نُقَّادَهُمْ لا يبالون في المتواتر نفسه بتعيين عدد الجمع الراوي له،
(1)" شرح النخبة ": ص 5.
(2)
راجع ما فصلناه ص 150.
بل يشترطون أَنْ يُؤْمَنَ تَوَاطُؤُ هذا الجمع على الكذب في العرف والعادة (1).
ويسرف الباحث في الظن الخاطئ أحيانًا حين يستنتج أن بعض نقاد الحديث لم يستبعدوا أن يكون لتعدد الرواة أثر في تصحيح الحديث.
وفي كلام الحاكم أبي عبد الله ما يوهم أخذه بهذا المقياس العددي حين اشترط في «الصَّحِيحِ» أن يكون له راويان. وقد أوضحنا اتجاهه هذا في بحث (الصحيح)(2). على أن من حق الحاكم علينا أن نفسر اتجاهه تفسيرًا سليمًا. فهو إذ يشترط تعزيز الصحيح لا يحكم بتصحيح العزيز، فالصحيح عنده لا بد أن يكون عَزِيزًا ولا يحوز أن يكون فردًا ولا غريبًا، أما العزيز فلا يكون دائمًا صحيحًا، بل المشهور والمستفيض - على تعدد رواتهما واشتراط الجمع فيهما - ليسا دائمًا صحيحين، إذ يكون فيهما الحسن والضعيف، وربما الباطل والموضوع. وعبارة الحاكم في هذا الباب أصرح من أَنْ تُؤَوَّلَ، فهو يقول:«وَالمَشْهُورِ مِنَ الحَدِيثِ غَيْرِ الصَّحِيحِ، فَرُبَّ حَدِيثٍ مَشْهُورٍ لَمْ يُخَرَّجْ فِي الصَّحِيحِ» (3). ويستشهد الحاكم على ذلك بطائفة من الأحاديث منها الحسان ومنها الضعاف، ثم يقول:«فَكُلُّ هَذِهِ الأَحَادِيثِ مَشْهُورَةٌ بِأَسَانِيدِهَا وَطُرُقِهَا وَأَبْوَابٍ يَجْمَعُهَا أَصْحَابُ الحَدِيثِ، وَكُلُّ حَدِيثٍ مِنْهَا تُجْمَعُ طُرُقُهُ فِي جُزْءٍ أَوْ جُزْئَيْنِ، وَلَمْ يُخَرَّجْ فِي الصَّحِيحِ» .
ولقد اطلع السيوطي على هذه الأحاديث التي استشهد بها الحاكم، فدقق النظر فيها وأحسن التمييز بينها، وَسَمَّى كُلاًّ منها باسمه الاصطلاحي اللائق به
(1) قارن بما ذكرناه ص 149.
(2)
راجع ص 152.
(3)
" معرفة علوم الحديث ": ص 92.
وزاد عليها الكثير في كتاب رتبه على حروف المعجم مستدركًا به على الإمام الزركشي ما فاته في " التذكرة في الأحاديث المشتهرة "(1). وفي " التدريب " عدد من هذه الشواهد يمثل بها السيوطي للمشهور في جميع أحواله، صحيحًا وحسنًا وضعيفًا وباطلاً.
فمثال المشهور وهو صحيح حديث: «إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» (2).
ومثال المشهور وهو حسن حديث «طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» . فقد قال المِزِّي (3)«إِنَّ لَهُ طُرُقًا يَرْتَقِي بِهَا إِلَى رُتْبَةِ الحَسَنِ» (4).
ومثال المشهور وهو ضعيف: «جُبِلَتِ القُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا» (5).
وأمثلة المشهور وهو باطل لا تعد ولا تحصى، وهي بين مرفوعات وموقوفات ومقطوعات، وأكثر ما تشيع على ألسنة العامة. ومنها:«مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ» ، «يَوْمُ صَوْمِكُمْ يَوْمُ نَحْرِكُمْ» ، «كُنْتُ كَنْزًا لَا أُعْرَفُ» ،
(1)" التدريب ": ص 188.
(2)
قارن " التدريب ": ص 188 بـ " معرفة علوم الحديث ": ص 92.
(3)
هو يوسف بن عبد الرحمن، وأبو الحجاج، المعروف بِالمِزِّي (بكسر الميم وتشديد الزاي المكسورة) نسبة إلى المزة قرية بدمشق، تُوُفِّيَ سَنَةَ 742 هـ بدار الحديث الأشرفين بدمشق (" الرسالة المستطرفة ": ص 126).
(4)
" التدريب ": ص 189، وقد ذكره الحاكم في " معرفة علوم الحديث " مكتفيًا بقوله:«لَمْ يُخَرَّجْ فِي الصَّحِيحِ» .
(5)
" التدريب ": ص 189.
«البَاذِنْجَانُ لِمَا أُكِلَ لَهُ» (1).
واشتهار الحديث أمر نسبي (2)، فقد يكون مشهورًا بين أهل الحديث خاصة، وقد يكون مشهورًا بينهم وبين غيرهم من العلماء والعامة. ومن هنا قيل: إن حديث «أَبْغَضُ الحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ» مشهور عند الفقهاء، وحديث «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» مشهور عند الأصوليين، وحديث «نِعْمَ العَبْدُ صُهَيْبٌ لَوْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ» مشهور عند النحاة، وحديث «مُدَارَاةُ النَّاسِ صَدَقَةٌ» مشهور عند العامة. أما حديث «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» فمشهور عند أهل الحديث والعلماء والعوام في آن واحد (3).
لكن المشهور الاصطلاحي الذي يعرفه نقاد الحديث لا يراد به ما اشتهر على ألسنة الناس من العلماء والعامة، بل الحديث الذي روته الجماعة ثلاثة أو أكثر (4)، وأمثلته، على كثرتها، لا يقف عليها غير أهل الحديث والمجتهدين في جمعه ومعرفته (5)، ومن أوضحها حديث أنس «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ شَهْرًا بَعْدَ الرُّكُوعِ يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ» أخرجه الشيخان من رواية سلمان التيمي عن أبي مَجْلِزٍ عن أنس (6). قال الحاكم مُوَضِّحًا
(1) وقد صرح السيوطي بوضعها فقال: «وَكُلُّهَا بَاطِلَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا» . " التدريب ": ص 189.
(2)
" اختصار علوم الحديث ": ص 185.
(3)
راجع هذا كله مع تفصيلات أخرى في " التدريب ": ص 189. وقارن بـ " التوضيح ": 2/ 408.
(4)
" التوضيح ": 2/ 409.
(5)
" معرفة علوم الحديث ": ص 94.
(6)
" التدريب ": ص 189.
وأكثر أمثلة المشهور تصلح للمستفيض، فهما مترادفان على رأي جماعة من أئمة الفقهاء، لكن الأصح التفرقة بينهما، بأن المستفيض يكون في ابتدائه وانتهائه سَوَاءٌ، والمشهور أعم من ذلك (2)، ومنهم من غاير بينهما على كيفية أخرى، فلاحظ أن الجماعة التي تروي المشهور ثلاثة أو أكثر، فطرقه محصورة بأكثر من اثنين، بينما يخصص المستفيض بالأكثر من الثلاثة، فلا يمكن أن تقل طرقه عن ثلاثة (3). وقد سُمِّيَ بذلك لانتشاره: من فاض الماء يفيض فيضًا، إذا فاض من جوانب الإناء (4).
ولم يُثِرْ العلماء شبهة حول المشهور ولا المستفيض، فأمثلتهما كثيرة متضافرة، وإنما أثاروا الشبهات حول العزيز، فقد زعم ابْنُ حِبَّانَ البُسْتِيُّ (5) أن لا وجود أصلاً للحديث العزيز، لاعتقاده أن العزيز ما يرويه اثنان عن اثنين إلى أن
(1)" معرفة علوم الحديث ": ص 93، 94.
(2)
" شرح النخبة ": ص 5.
(3)
" التوضيح ": 2/ 402، 403 هامش.
(4)
" التدريب ": ص 188، و" التوضيح ": 2/ 407.
(5)
سبقت ترجمته.
ينتهي إسناده (1)، وكانه يرى أن تسميته بالعزيز لعزة وجوده وتعذره، لا لقلة وجوده وندرته، وقد رَدَّ رأيه شيخ الإسلام ابن حجر قائلاً:«إن أراد أن رواية اثنين فقط عن اثنين لا توجد أصلاً فيمكن أن يسلم، وأما صورة العزيز التي حررناها فموجودة: بألا يرويه أقل من اثنين عن أقل من اثنين، مثاله ما رواه الشيخان من حديث أنس، والبخاري من حديث أبي هريرة، أن " رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ» الحديث، ورواه عن أنس قتادة وعبد العزيز بن صهيب، ورواه عن قتادة شعبة وسعيد، ورواه عن عبد العزيز إسماعيل بن علية وعبد الوارث، ورواه عن كل جماعة» (2).
ومن الصور النادرة في المصطلح أن يجمع الحديث بين وصفي العزة والشهرة، فَيُسَمَّى عَزِيزًا مَشْهُورًا، وذلك إذا اتضح أنه عزيز في بعض طبقاته برواية اثنين، ومشهور في التي قبلها أو بعدها بروايته عن الأكثر، وَمَثَّلَ له الحافظ العلائي (3) بحديث:«نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ» ، وقال: هو عزيز عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه عنه حذيفة بن اليمان وأبو هريرة، ورواه عن أبي هريرة سبعة: أبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو حازم، وطاووس، والأعرج، وهمام، وأبو صالح، وعبد الرحمن مولى أم برثن (4).
(1)" التوضيح ": 2/ 405 هامش.
(2)
" نزهة النظر ": ص 8. ونقلها في " التدريب ": ص 191.
(3)
سبقت ترجمته.
(4)
" التدريب ": ص 193.