الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَيَصِيرُ الحَدِيثُ مَعْلُولاً، وَالحُجَّةُ فِيهِ عِنْدَنَا الحِفْظُ، وَالفَهْمُ، وَالمَعْرِفَةُ» (1).
السَّادِسُ - المُضْطَرِبُ:
(2)
الحديث المضطرب هو الذي تتعدد رواياته، وهي - على تعددها - متساوية متعادلة لايمكن ترجيح إحداها بشيء من وجوه الرجيح، وقد يرويه راو واحد مرتين أو أكثر، أو يرويه اثنان أو رواة متعددون (3).
ومنشأ الضعف فيه ما يقع من الاختلاف حول حفظ رواته وضبطهم (4) لأن انتفاء هذا الاختلاف معناه رجحان إحدى الروايات بما ثبت لراويها من حفظ أو ضبط أو طول سماع لمن أدى عنه. لذلك لا يسمى «مُضْطَرِبًا» إذا ترجحت فيه إحدى الروايتين أو الروايات (5).
والاضطراب يقع في الإسناد غالبًا، وقد يقع في المتن، لكن قل أن يحكم
(1)" معرفة علوم الحديث ": ص 112، 113.
(2)
وهو مأخوذ م اختلال الأمر وفساد نظامه، وأصله اضطراب الموج لكثرة حركته وضرب بعضه بعضًا، ولو كان «المُضْطَرِبُ» مفتوح الراء لكان اسم مكان للاضطراب، ولكان ذلك أظهر لتحقق المعنى الاصطلاحي، لأن الحديث في الحقيقة موضع يظهر فيه اضطراب الراوي أو الرواة. (انظر " ألفية السيوطي ": ص 118 هامش).
(3)
قارن بـ " التدريب ": ص 93.
(4)
" التوضيح ": 2/ 47 وإشعار المضطرب بعدم ضبط رواته واضح، سواء أكان راويه واحدًا أم كثيرين. فلا يتصور الضبط في الشخص الواحد إذا تعددت روايته للشيء نفسه، لأن هذا التعدد ضرب من التناقض. أما إذا كان راوي المضطرب أكثر من واحد فكلهم يشتركون في عدم الضبط، وإنما يزول عن بعضهم بالترجيح.
(5)
" التدريب ": ص 93.
المحدث على الحديث بالاضطراب في المتن وحده دون الإسناد (1).
فمن الاضطراب في الإسناد حديث أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ قَالَ:«يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَاكَ شِبْتَ، قَالَ: " شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا "» .
وقد يتبادر إلى ذهن الباحث - في مثل هذا الإسناد المضطرب - أن الاختلاف فيه على هذه الأوجه المتباينة، العشرة كما أحصاها الدارقطني، لا ينبغي أن يمنع صحة الحديث، ما دام مرددًا بين ثقات متساوين يتعذر بينهم الترجيح. وهذا الفهم المتبادر مقبول إجمالاً، غير أن الحكم على الحديث، عند التعارض مثلاً، لا بد أن يصنف رواياته درجات فيها الصحيح وفيها الأصح، «فحديث لم يختلف فيه عن راويه أصلاً أصح من حديث اختلف فيه في الجملة» (3). ومن هنا كان مجرد الاضطراب في الإسناد أمارة على الضعف، لأن تساوي [الروايات] في الدرجة وعدم تعارضها يمنعان الحكم باْيها صح، فكأن تعادلها في الصحة تعادل في الضعف إذ لا مرجح للأخذ بواحدة منها
(1)" شرح النخبة ": ص 22.
(2)
" التدريب ": ص 94.
(3)
نسبه في " التوضيح ": 2/ 47 إلى الحافظ ابن حجر عن الحافظ العلائي: وهو صلاح الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدي بن عبد الله، الدمشقي ثم المقدسي، الشافعي، المتوفىببيت المقدس سَنَةَ 761 هـ. ومن تآليفه " جامع التحصيل في أحكام المراسيل ". و" اختصار جامع الأصول " لابن الأثير الجزري. ترجمته في " الرسالة المستطرفة ": ص 62، 63.
وإغفال سائرها (1).
ومثال الاضطراب في المتن حديث البسملة الذي أخرجه مسلم في " صحيحه " من رواية الوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ يُخْبِرُهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ قَالَ:" صَلَّيْتُ خَلَفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، لَا يَذْكُرُونَ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا فِي آخِرِهَا ".
فهذه العبارة الأخيرة الي ينص فيها الراوي على نفي قراءة البسملة هي المتن المضطرب في هذا الحديث: لأن مسلمًا والبخاري اتفقا على إخراج رواية أخرى في الموضوع نفسه لا يتعرض فيها لذكر البسملة
بنفي أو إثبات، وإنما يكتفي الراوي بقوله:«فكانوا يستفتحون القراءة بِـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}» يقصد أن الفاتحة هي السورة التي كانوا يستفتحون بها. ولو وقف الأمر عند هذا الحد لأمكن ترجيح الحديث المتفق عليه، فلم نصف الحديث الأول بالاضطراب، ولكن رواية ثالثة عن أنس تفيد أنه سئل عن الافتتاح بالتسمية، فأجاب أنه لا يحفظ في
ذلك شيئًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتردد مثله في هذه المسالة يحسب له حسابه، فأصبح عسيرًا أو متعذرًا ترجيح ما يتعلق بالبسملة إثباتًا أو نفيًا، وتعذر الترجيح كان السبب المباشر في وصفنا لمتن الحديث الأول بالاضطراب.
(1) ومما أخذه الحافظ ابن حجر عن الحافظ العلائي صور الاضطراب في السند، إذ عد منها سِتًّا:
1 -
تعارض الوصل والإرسال، 2 - تعارض الوقف والرفع، 3 - تعارض الاتصال والانقطاع، 4 - أن يروي الحديث قوم عن رجل عن تابعي عن صحابي، ويرويه ذلك الرجل عن تابعي آخر عن صحابي بعينه، 5 - زيادة رجل في أحد الإسنادين، 6 - الاختلاف في اسم الراوي ونسبه إذا كان مترددًا بين ثقة وضعيف. (وتجد هذه الصور الست مع أمثلتها في " التوضيح ": 2/ 38 - 47).
وهذا المثال يصلح شاهدًا لوقوع العلة في متن الحديث، ولذلك يذكره في الحديث المعلل كل من ابن الصلاح في كتاب " علوم الحديث " والحافظ العراقي في " شرحه لكتاب ابن الصلاح "(1) والسيوطي في " التدريب "(2). ولا غرابة في ذلك، فإن الاضطراب نوع من الإعلال، والبحثان متقاربان (3). وقد قال العلائي في المضطرب ما عرفنا عن ابن حجر أنه قاله في المعلل:«وَهَذَا الفَنُّ أَغْمَضُ أَنْوَاعِ الحَدِيثِ وَأَدَقُّهَا مَسْلَكًا، وَلَا يَقُومُ بِهِ إِلَاّ مَنْ مَنَحَهُ اللهُ تَعَالَى فَهْمًا غَامِضًا (*) وَاطِّلَاعًا حَاوِيًا وَإِدْرَاكًا لِمَرَاتِبِ الرُوَاةِ، وَمَعْرِفَةً ثَاقِبَةً» (4).
وهنا ندرك سر اعتماد ابن حجر في تأليف كتابه " المقترب في بيان المضطرب "(5) على كتاب " العلل " للدارقطني (6)، فالموضوع متقارب، والأمثلة متشابهة. ولعل هذا يعطينا فكرة عن رغبة أهل الحديث في تفريع الأقسام، وتنويع أوصاف الروايات ولو أمكن تشابكها أو تداخل بعض أقسامها. ولا يتناقض هذا التداخل، مع ما عرفناه عن أهل الحديث من الدقة، لأنهم لاحظوه أثناء التفريع والتنويع، فما كان صَالِحًا لوصفه بالاضطراب من وجه، يصلح لوصفه بالاعتلال من آخر. وهكذا.
(1) ص 98 - 103.
(2)
ص 89 - 91 غير أن السيوطي يستشهد به - في الوقت نفسه - على مضطرب المتن ويقول: «وَعِنْدِي أَنَّ أَحْسَنَ مِثَالٍ لِذَلِكَ: حَدِيثُ البَسْمَلَةِ السَّابِقِ، فَإِنَّ ابْنَ عَبْدِ البَرِّ أَعَلَّهُ بِالاِضْطِرَابِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالمُضْطَرِبُ يُجَامِعُ المُعَلَّلَ ; لأَنَّهُ قَدْ تَكُونُ عِلَّتُهُ ذَلِكَ» . " التدريب ": ص 95.
(3)
" التوضيح ": 2/ 37.
(4)
ذكره في " التوضيح ": 2/ 36، 37.
(5)
" التدريب ": ص 95.
(6)
نفسه: ص 91.
----------------------
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) ورد في بعض كتب علوم الحديث (غَايِصًا). ويراد بالغامض: المحض.