الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نَظَلُّ دون إيفاء علم الحديث حقة، فما من تيار فكري إسلامي إلا وله من عدوى الحديث حظ معلوم، إن لم يكن فيما حمله تراث النبوة من وصايا وَحِكَمٍ وتعاليم ففي طرق التحمل والأداء، وشروط الرواية والرواة، ومقاييس النقد والتجريح، وأساليب التصنيف والتخريج، ومعايير الموازنة والترجيح، فهذه كلها دخلت شواهد النحو، وسادت أبحاث اللغة، وارتفعت إلى أخبار الأدب، وتركت في الجميع أصداءها الشداد، عن طريق الرواية والإسناد!
عُلُومُ الأَدَبِ وَتَأَثُّرِهَا بِأَسَانِيدِ المُحَدِّثِينَ:
وتفصيل ذلك أن النحو والصرف ومسائل اللغة كلها شعب من علوم الأدب، فلا يستشهد عليها - كما قال الرعيني (1) - إلا بكلام العرب الأصيل، وهل من سبيل غير الرواية الصحيحة والإسناد الثابت المتصل للوقوف على كلام العرب القدامى الفصحاء؟
وأجمع العلماء - ولعلهم في إجماعهم قد أصابوا - «على أنه لا يحتج بكلام المولدين واالمحدثين في اللغة العربية، (2)، وحملوا - عن طريق هذا الإجماع - إلى علوم العربية روايات لا ينالها الإحصاء
(1) هو الرعيني الأندلسي، من علماء المائة الثامنة، ومما قاله في " شرح بديعية زميله ابن جابر ":«علوم الأدب ستة: اللغة والنحو والصرف والمعااني والبيان والبديع، والثلاثة الأولى لا يستشهد عليها إلا بكلام العرب دون الثلاثة الأخيرة فإنه يستشهد عليها بكلام المولدين لأنها راجعة إلى المعاني» . انظر " خزانة الأدب " للبغدادي: 1/ 20 (المطبعة السلفية بالقاهرة، 1348 هـ).
(2)
" الاقتراح " للسيوطي: ص 31.
فيها كثير من شعر الجاهليين الذين لم يدركوا الإسلام، والمخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، وفيها أحيانًا طائفة من الشعر الإسلامي الذي لم يدرك أصحابه من الجاهلية شيئًا (1). فهل تيسر لأحد منهم أن ينقل تلك الشواهد كلها من غير أن يتأثر، قليلاً أو كثيرًا، بطريقة المحدثين في إسناد الروايات؟.
ربما رفع ههنا بعض الباحثين المعاصرين عقيرتهم لينادوا بنا: بل تأثرت رواية الحديث برواية الشعر وأخبار الشعراء الجاهليين، فإن من الصحابة من أشار إلى أخذ الشعر وتلقيه عن بعض الشعراء قبل الاسلام، حتى قال عمر بن الخطاب لفرات بن زيد الليثي، وقد تمثل بشعر لأخيه:«هَذَا شِعْرُ أَخِيكَ قََسَامَةُ بْنَ زَيْدٍ، هُوَ أَنْشَدَنِيهُ وَعَنْهُ أَخَذْتُهُ» (2). ولست أدري لماذا يأبى الباحثون - إزاء مثل هذا الخبر إن صح - إلا أن يعدوه دليلاً على إسناد الجاهليين أخبار الشعراء لمجرد كون الشعر المُتَمَثِّلِ به جاهليًا (3)، لا يرون فيه قط أثرًا مما صنعه الإسلام في مثل عمر من الحرص على عَزْوِ كل قول إلى صاحبه ما دام معروفًا، إيثارًا للصدق والورع والأمانة ومكارم الأخلاق!.
(1) طبقة الشعراء الإسلاميين لم يمل إلى الاحتجاج بها في علوم اللغة والأدب إلا ثلة من العلماء المحققين، كالبغدادي في " خزانة الأدب ": 1/ 20.
(2)
" الإصابة "(لابن حجر): 5/ 216.
(3)
من ذلك أن صديقنا المحقق المفضال الدكتور ناصر الدين الأسد - حين يعرض لهذه الرواية - يعلق عليها بقوله: «والرواية سبيل طبيعية في كل عصر وعند كل أمة، حتى حين تنتشر الكتابة وتذيع. بينما كانت رواية الحديث أمرًا طرأ على العرب بعد الإسلام» . (" مصادر الشعر الجاهلي ": ص 256).
وحتى لو عُدَّتْ الشواهد القليلة المروية من هذا القبيل - بأجمعها -حجة على سراية روح الإسناد بين الجاهليين، ولو فرض فوق ذلك كثرتها التي لا تحصى (وليس فقط هذا النزر القليل الذي لم يبلغنا منها سواه)، فمن ذا الذي قال: إن طريقة رواية تلك الشواهد - حتى بعد نضج علم الحديث واحتراقه - ظلت ساذجة أولية على النحو الذي حكيت به قبيل الإسلام أو في عهد الراشدين المهديين؟.
منذ أن اتسع القول في علوم الحديث، ووضعت الأصول الكبرى لمصطلحات الحديث، وشاعت بين الناس تلك القواعد والمصطلحات، بدأ الرواة يحرصون على رواية ما اتصل من الأسانيد، في كل ما أرادوا تعلمه أو تعليمه من الأخبار والسير والأشعار، وإن كانوا في ذلك كله أحرص على الورع والاحتياط في نقل أحاديث الرسول العربي الكريم.
فقد نستنتج إذن أن الناس - في عصر تصنيف العلوم - التزموا الإسناد المتصل في رواية الحديث، أو كانوا أشد التزامًا لاتصال الحلقات في هذا الضرب من الرواية الدينية (1)، ثم من حقنا - بل يجب علينا أيضًا- أن نستنتج أن أولئك الناس أنفسهم كانوا رواة لشواهد اللغة والنحو من الشعر وما كان من قبيله، فكانوا فيها ربما يَتَخَفَّفُونَ شَيْئًا ما من حَرَجِ الرواية الدينية، ولكنهم ما كانوا يتساهلون في شيء من ذلك تساهلهم في الجاهلية، لأن نقاد الحديث تركوا فيهم من الأثر العميق ما لا يزول حتى بالجهد والمعاناة!.
(1) راجع بوجه خاص ما ذكرناه ص 134 - 136.