الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الثاَّنِي: الحَدِيثُ الصَّحِيحُ حُجَّةٌ فيِ التَّشْرِيعِ:
لَا فَرْقَ بَيْنَ السُنَّةِ وَالكِتَابِ فِي الحَلَالِ وَالحَرَامِ:
لكأني برسول الله صلى الله عليه وسلم استشف حجاب الغيب فرأى في القرون من بعده قومًا يفرقون بين كتاب الله وسنة رسوله، ولا يعملون إلا بما نص عليه القرآن وحده، فإذا هو يُصَوِّرُ لنا هؤلاء تصويرًا ينبئنا عن فداحة خطئهم، وضلالهم عن الصراط المستقيم، فيقول:«أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ القُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا القُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ» (1).
ويفسر الإمام الشافعي اعتناء النبي نفسه بضم سنته إلى كتاب الله في
الحلال والحرام، وفي كل أمر تشريعي ذي بال، بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل إلا ما أحل الله في كتابه، ولم يحرم إلا ما حرم الله في
(1) رواه أبو داود والدارمي وابن ماجه من طريق المقدام بن معد يكرب، وقد عد الشاطبي هذا الحديث دليلاً على أن في السنة ما ليس في الكتاب (" الموافقات ": 4/ 15).
كتابه، ثم يؤكد بلهجة جازمة حاسمة أن «جَمِيعَ مَا تَقُولُهُ الأَئِمَّةُ شَرْحٌ لِلْسُنَّةِ، وَجَمِيعُ السُنَّةِ شَرْحٌ لِلْقُرْآنِ» (1). ويكاد غير الشافعي يغلو في تفسير هذه الظاهرة حين يَعُدُّ السُنَّةَ «وَحْيًا يَنْزِلُ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ كَمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالقُرْآنِ، وَيُعَلِّمُهُ إِيَّاهُ كَمَا يُعَلِّمُهُ القُرْآنَ» (2)، ويصرح أبو البقاء بهذا التفسير حين يقول في " كلياته " (3) دون تَجَوُّزٍ وَلَا اتِّسَاعٍ:«وَالحَاصِلُ أَنَّ القُرْآنَ وَالحَدِيثَ يَتَّحِدَانِ فِي كَوْنِهِمَا وَحْيًا مُنَزَّلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ بِدَلِيلِ: {إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] إِلَاّ أَنَّهُمَا يَتَفَارَقَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ القُرْآنَ هُوَ المُنَزَّلُ لِلإِعْجَازِ وَالتحَِّدي بِهِ بِخِلَاف الحَدِيثِ، وَإِنَّ أَلْفَاظَ القُرْآن مَكْتُوبَةٌ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، وَلَيْسَ لِجِبْرِيلَ عليه السلام وَلَا لِلْرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام أََنْ يَتَصَرَّفَا فِيهَا أَصْلاً. وَأَمَّا الأَحَادِيثُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّازِلُ عَلَى جِبْرِيلَ مَعْنًى صِرْفًا فَكَسَاهُ حلَّةَ العِبَارَةِ» .
ولقد نكون أشد ميلاً - من ناحية الوحي - إلى التفرقة بين نزول القرآن على قلب النبي وإلهامه النطق ببعض الأحاديث، ثم نجنح - بسبب هذه التفرقة - إلى استقلال القرآن وحده بظاهرة الوحي على النحو الذي أوضحناه في كتابنا " مباحث في علوم القرآن "(4)، إذ «كان عليه السلام يُفَرِّقُ بِوُضُوحٍ بَيْنَ الوَحْيِ الذِي يَنْزِلُ عَلَيْهِ وَبَيْنَ أَحَادِيثِهِ
(1) قارن بـ " قواعد التحديث ": ص 33.
(2)
عزا القاسمي هذا إلى حسان بن عطية في رواية بهذا المعنى ذكرها في " قواعد التحديث ": ص 32.
(3)
" كليات " أبي البقاء: ص 288 (المطبعة الأميرية سَنَةَ 1281 هـ، الطبعة الثانية). وقارن بـ " الإحكام " لابن حزم: 1/ 96.
(4)
راجع من كتابنا هذا بعناية خاصة الفصل الثاني من الباب الأول: ص 22 (مبحث ظاهرة الوحي) الطبعة الثالثة، دار العلم للملايين.