الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَلْقَابُ المُحَدِّثِينَ:
وكما أطلق العلماء على الرحالين في طلب الحديث ألقاباً مختلفة، تبعاً لنشاطهم في الرحلة والتجوال، أطلقوا على الدارسين في بلدهم أو في الأقاليم المجاورة له ألقاباً «رسميَّة» كانوا يستحسنون إلحاقها باسمائهم عند ترجمتهم لتعرف طبقاتهم ودرجاتهم وطرق تحمُّلهم للحديث وأدائه.
وأشهر الألقاب التي نَبَّهُوا على التمييز بينها ثلاثة: المُسْنِدُ وَالمُحَدِّثُ وَالحَافِظُ. فَالمُسْنِدُ هو من يروي الحديث بإسناده، سواء أكان عنده علم به أم ليس له إلَاّ مُجَرَّدَ روايته (1).
وَالمُحَدِّثُ أرفع منه بحيث عَرَفَ الأسانيد والعِلَلَ، وأسماء الرجال، والعالي والنازل، وحَفِظَ مع ذلك جملة مستكثرة من المتون، وسمع " الكتب الستة " و " مسند أحمد بن حنبل و " سُنَنَ البيهقي " و " معجم الطبراني "، وَضَمَّ إلى هذا القدر ألف جزء من الأجزاء الحديثية (2).
أما الحافظ فهو أعلاهم درجةً وأرفعهم مقاماً: فمن صفاته أنْ يكون عارفاً
(1)" تدريب الراوي ": ص 4.
(2)
" تدريب الراوي ": ص 6. وعبارة القاسمي في " قواعد التحديث ": ص 53، مقتبسة من هنا بتصرف.
فقد ذكرت فيها المسانيد والمعجم والأجزاء دون تحديد. وليس هنا موضع الحديث في الفَرْقِ بين أنواع هذه الكتب والتصانيف. وسنتحدَّثُ عنها وعن أصحابها في باب خاص.
بسُنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بصيراً بطرقها، مُمَيِّزاً لأسانيدها، يحفظ منها ما أجمع أهل المعرفة على صِحَّتِهِ، وما اختلفوا فيه للاجتهاد في حال نقلته، يعرف فرق ما بين قولهم: فلان حُجَّةٌ، وفلان ثقة، ومقبول، ووسط، ولا بأس به، وصَدُوقٌ، وصالحٌ، وشيخ، وليِّنٌ، وضعيف، ومتروك، وذاهب الحديث، وَيُمَيِّزُ الروايات بتغاير العبارات: نحو عن فلان، وأن فلاناً؛ ويعرف اختلاف الحكم في ذلك بين أنْ يكون المُسَمَّى صحابياً أو تابعياً، والحكم في قول الراوى: قال فلان، وعن فلان، وأنَّ ذلك مقبول من المُدَلِّسِن َدون إثبات
السماع على اليقين، ويعرف اللفظة في الحديث تكون وَهْماً وما عداها صحيحاً، وَيُمَيِّزُ الألفاظ التي أدرجت في المتون فصارت بعضها لاتصالها بها، ويكون قد أنعم النظر في حال الرُواة بمعاناة علم الحديث دون ما سواه، لانه علم لا يعلق إلا بمن وقف نفسه عليه، ولم يَضُمَّ غيره من العلوم إليه» (1). ولعل أهم صفات الحافظ - كما يستنبط من أقوال العلماء وتعاريفهم - أنَّه يتوسَّع في أسماء الرجال حتى يعرف شيوخه وشيوخ شيوخه طبقة بعد طبقة، بحيث يكون ما يعرفه عن كل طبقة أكثر مِمَّا يجهله (2). ويعتقد كثير من نُقَّاِد الحديث أنَّ الذين يجوز تسميتهم «بالحُفَّاظ» ، قليلون في كل زمان ومكان وبما «يتعذَّر وجودهم» (3)، لما يشترط لهم من نادر الصفات وسعة العلم. وحسبك أنَّ الوصف بالحفظ على الاطلاق ينصرف
(1)" الجامع لأخلاق الراوي ": 8/ 150 وجه 2.
(2)
" التدريب ": ص 7 وقارن بـ " قواعد التحديث ": ص 53.
(3)
" الجامع لأخلاق الراوي ": 8/ 159 وجه 1.
إلى أهل الحديث خاصة، فلا يقول قارئ القرآن: لقني فلان الحافظ، ولا يقول النحوي: علمني فلان الحافظ (1).
وذهب الناس يغلون في الحفاظ كل مذهب، فقد عدت كنب الإمام أحمد في اليوم الذى مات فيه، فبلغت اثني عشر حملاً، ما على ظهر كتاب منها «حَدَّثَ فُلَانٌ» ولا في بطنه «أَخْبَرَنَا فُلَانٌ» ، وكل ذلك كان يحفظه من ظهر قلبه (2). قال: يحيى بن معين (3): «كَتَبْتُ بِيَدِي هَذِهِ سِتُّ مِائَةُ أَلْفَ حَدِيثٍ» (4) ولا عجب في ذلك، فقد ترك يحيى أكثر من مائة قمطر وأربعة عشر قمطراً مملوءة كتباً (5) وَأَمْرُ بن عُقدة (6) ليس أقل عجباً، لأنَّ الأخبار تصوره حافظاً أربع مائة ألف حديث أملاها من حفظه على إخوة أربعة، ولا يبعد أنْ يكون حافظاً غيرها. قال عبد الله القادسي - وهو أحد هؤلاء الأربعة -: «أقمتُ مع إخوتي بالكوفة عِدَّةَ سنين فكتب عن ابن عُقْدَةَ، فلما أردنا الانصراف وَدَّعُنَاهُ، فقال ابن عُقْدَةَ: قد اكتفيتم بما سمعتم، أقلُّ شيخ سمعت منه، عندي عنه مائة ألف حديث. (قال): فقلت: أيها الشيخ، نحن إخوة أربعة، قد كتب كل
(1)" الجامع ": 8/ 152 وجه 1.
(2)
" الجامع ": 8/ 151 وجه 1.
(3)
هو سَيِّدُ الحفاظ، وإإمام الجرح والتعديل، أبو زكريا يحيى بن معين بن عون بن زياد الغطفاني مولاهم، البغدادي، توفي بالمدينة سَنَةَ 233 هـ.
(4)
" الجامع ": 8/ 151 وجه 2. وفي " التدريب ": ص 8 «أنَّ ابن معين كتب بيده ألف حديث».
(5)
" الجامع ": 8/ 151 وجه 2. وفي " التدريب ": ص 8 «أنَّ ابن معين كتب بيده ألف حديث».
(6)
هو الحافظ الجامع المصنف أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي، أبو العباس، مولى بني هاشم، المعروف بابن عُقْدَةَ. توفي عام 382 هـ (" الرسالة المستطرفة ": ص 84).
واحد منا عنك مائة ألف حديث!» (1).
وحين ينسب إلى أحد هؤلاء الحفاظ عدد عظيم من الأحاديث كتبه بيده أو أملاه على تلاميذه، فهو يحفظه غالباً من ظهر قلبه. قال أَبُو زُرْعَةَ (2):«مَا فِي بَيْتِي سَوَادٌ عَلَى بَيَاضٍ إِلَاّ وَأَحْفَظُهُ» (3) وقال الشعبي: " ما كتبتُ سواداً في بيضاء إلى يومي هذا، ولا حدثني رجل بحديث قط إلا حفظته» (4)
ومن الحفاظ من كان يستعين على حفظ الحديث بكتابته، فإذا أتقن حفظه محاه أو دعا بمقراض فقرضه خوفاً من أنْ يَتَّكِلَ القلب عليه، منهم سفيان الثوري (5)، وعاصم بن ضمرة (6)، وخالد الحذاء (7) وقد شاع على ألسنة الناس: بئس المستودع العلم القراطيس! (8).
وكان في العلماء من يميل إلى تحديد العدد المحفوظ من الحديث الذى يستحق
(1)" الجامع ": 8/ 152 وجه 1 و 2.
(2)
هو أبو زرعة الرازي، عبد الله بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ القرشي بالولاء، الحافظ الثقة المشهور. تُوُفِّيَ سَنَةَ 264 هـ (" الرسالة المستطرفة ": ص 48). وكان الإمام أحمد يقول: «صَحَّ مِنَ الْحَدِيثِ سَبْعُمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ وَكَسْرٍ وَهَذَا الْفَتَى - يَعْنِي أَبَا زُرْعَةَ - قَدْ حَفِظَ سَبْعَمِائَةِ أَلْفٍ» (" التدريب ": ص 8 ").
(3)
" الجامع ": 8/ 152 وجه 1.
(4)
" تدريب الراوي ": ص 8.
(5)
انظر " سُنن الدارمي ": 1/ 125.
(6)
" المحدث الفاصل " للرامهرمزي: 4/ 5 وجه 1، وتوفي عاصم سَنَةَ 174 هـ.
(7)
" تقييد العلم ": ص 59. والحذاء هو خالد بن مهران، المتوفَّى سَنَةَ 141 هـ. ومن الذين كانوا يكتبون ويمحون ابن شهاب (انظر " جامع بيان العلم ":1/ 66) وابن سيرين (" المحدث الفاصل ": 4/ 5 وجه 2).
(8)
" جامع بيان العلم ": 1/ 69.
جامعه أنْ يُسَمَّى «حَافِظًا» . فقال الحاكم (1) في " المدخل ": «كَانَ الوَاحِدُ مِنَ الحُفَّاظِ يَحْفَظُ خَمْسَ مِائَةَ أَلْفَ حَدِيثٍ» (2). ورأى غيره أنَّ الحَدَّ الأدنى ينبغي أَلَاّ يَقِلَّ عن عشرين ألفًا، وَلَكِنَّ فتح الدين بن سيد الناس (3) يلاحظ أنَّ هذه القضية نِسْبِيَّةٌ، وأنَّ لكل زمن اصطلاحًا وتحديدًا، فيقول:«أَمَّا مَا يُحْكَى عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ قَوْلِهِمْ: كُنَّا لَا نَعُدُّ صَاحِبَ حَدِيثٍ مَنْ لَمْ يَكْتُبْ عِشْرِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ فِي الإِمْلَاءِ، فَذَلِكَ بِحَسَبِ أَزْمِنَتِهِمْ» (4).
وإذا كان العدد المحفوظ يتردد بين مئات الألوف وعشراتها - وهو فرق عظيم جِدًّا - فإن لهذا التردد تعليلاً واضحًا، فحين تذكر المئات يشمل الحفظ المرفوع إلى النَّبِي صلى الله عليه وسلم، والموقوف على الصحابي، والمقطوع على التابعي. نسب الإمام أحمد إلى أَبِي زُرْعَةَ أنه كان يحفظ سبع مائة ألف، ففسر البيهقي (5) ذلك بقوله:«أَرَادَ مَا صَحَّ مِنَ الحَدِيثِ، وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ» (6). وقد يشمل حِينَئِذٍ الصحيح وغير الصحيح. قال الإمام البخاري:
(1) هو أبو عبد الله، محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه، المعروف بالحاكم النيسابوري وَبِابْنِ البَيِّعِ، صاحب التصانيف الشهيرة، وأهمها " المستدرك على الصحيحين " و " المدخل ". تُوُفِّيَ سَنَةَ 405 هـ.
(2)
" تدريب الراوي ": ص 8.
(3)
هو أبو الفتح، محمد بن محمد بن محمد بن أحمد المشهور بِابْنِ سَيِّدِ النَّاسِ، اليعمري الأندلسي الأصل، المصري الشافعي، أحد الأعلام الحُفَّاظِ، تُوُفِّيَ سَنَةَ 734 هـ. له " عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير ".
(4)
" تدريب الراوي ": ص 7.
(5)
سَتَرِدُ ترجمة البيهقي.
(6)
" تدريب الراوي ": ص 8.