الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذى بدأ فيه الإسناد في رواية الحديث لم ينشأ إلا من قلة الرجوع إلى مصادر الحديث، لأن من العسير نفي تلك الآثار المستفيضة المتضافرة على أخذ بعض الصحابة من بعض، وإسناد أحدهم القول إلى أخيه، وتعضيد القول الواحد بما يثبته من أقوال الصحب الغر الميامين.
والقارئ الذي اطلع على فصلنا السابق عن «الاحتجاج بالحديث في التشريع» ، وشهد معنا ما أشهدناه إياه من تناوب الصحابة مجلس النبي عليه السلام لسماع العلم وتحمله وأدائه، ورأى الصور التي انتزعناها له من رواية بعض القوم عن بعض حتى في عصر النبي الكريم، ما نحسبه بحاجة إلى توكيد جديد لممارسة الرواية وما يتصل بها من الأسانيد، وما نحسبه يتردد في الحكم على الصحابة والتابعين بعزوهم الروايات لأصحابها عندما كانوا يحدثون.
تَبْكِيرُ القَوْمِ بِالرِّوَايَةِ المَصْحُوبَةِ بِالإِسْنَادِ:
وحين نقع على أخبار تومئ إلى أن بعض التابعين - كقتادة بن دعامة السدوسي- لم يكن يُسْنِدُ الحديث، تكون هذه الأخبار نفسها شاهدنا في أن معظم التابعين في مختلف الأمصار كانوا للحديث مسندين. ولولا ذلك لما حرص الراوي على استثناء قتادة - أو أي تابعي آخر سواه - من حكم عام لا يجهل أحد أنه - في ذلك العصر- كان يشمل الجميع.
ففي الطبقات الكبرى (1) على سبيل المثال قول حماد بن سلمة:
(1)" الطبقات الكبرى " لابن سعد: 7 / ق 2 - ص 2.
وظاهر هذا الخبر: أن قتادة ما أخبر بالإسناد إلا بعد أن أصابته عدوى حماد بن أبي سليمان لدى مقدمه البصرة، وفحوى هذا الخبر: أن كثيرًا من التابعين غير حماد بن أبي سليمان كانوا في أمصارهم يسندون، وهذا هو الذي نهضت به الحجة وقام عليه الدليل.
والحق أنه لم يكن بد للقوم من مُحَرِّضٍ يغريهم بإسناد الروايات أو السؤال عن إسنادها، وما كان إلى هذا الإغراء من حاجة في زمن الرسول ولا الصحابة الأولين، لأن القوم كانوا يصدق بعضهم بعضًا، ولا يكاد واحد منهم يتهم أحدًا، وإنما «كَانَتْ سَنَةَ أَرْبَعِينَ مِنَ الهِجْرَةِ هِيَ الحَدُّ الفَاصِلُ بَيْنَ صَفَاءِ السُنّةِ وَخُلُوصِهَا مِنَ الكَذِبِ وَالوَضْعِ، وَبَيْنَ التَزَيُّدِ فَيهَا وَاتِّخَاذِهَا وَسِيلَةً لِخِدْمَةِ الأَغْرَاضِ السِّيَاسِيَّةِ وَالاِنْقِسَامَاتِ الدَّاخِلِيَّةِ، بَعْدَ أَنْ اتَّخَذَ الخِلَافُ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ شَكْلاً حَرْبِيًّا سَالَتْ بِهِ دِمَاءٌ وَأُزْهِقَتْ مِنْهُ أَرْوَاحٌ» (1). فبعد أن وقعت هذه الفتنة بدأ الناس يسألون عن الإسناد، «فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أُخِذُوا حَدِيثَهُ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ البِدْعَةِ تُرِكُوا حَدِيثَهُ» (2)، لأن ما تركته الفتنة من
(1) انظر " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للدكتور مصطفى السباعي: ص 89.
(2)
انظر " لسان الميزان "(لابن حجر): 1/ 7. وهذا الخبر منسوب إلى ابن سيرين، وفي أوله يقول: «لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الإِسْنَادِ، [فَلَمَّا] وَقَعَتِ الفِتْنَةُ قَالُوا: [سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ. فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُنّةِ] فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ
…
» الخ.
سَيِّئَ الآثار في النفوس كان مُحَرِّضًا طبيعيًا يغري كُلاًّ من الجانبين بوضع أحاديث في فضائل أحدهما دون الآخر، حتى قال الأديب الشيعي الكبير ابن أبي الحديد: «اعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الكَذِبَ فِي أَحَادِيثِ الفَضَائِلِ جَاءَ مِنْ جِهَةِ الشِّيعَةِ
…
» (1).
والمهم أن الرواية المصحوبة بالإسناد عرفت - أول ما عرفت - في نقل سُنَّةِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، لما كان لها من أثر في توجيه المسائل الفقهية والتشريعية. ومن عُنِيَ إلى ذلك - في صدر الإسلام - بروايات تتعلق بغير الدين أسند ما نقل كما وسعه الإسناد بألفاظ أقرب ما تكون إلى عفوية الورعين، وأبعد ما تكون عن جفاء اللفظيين من أصحاب الاصطلاح.، وعلى هذا، لم يكن الذين سبقوا إلى وضع مسائل في العربية مِمَّنْ عُدُّوا مؤسسي النحو في نشأته الأولى - بِدْعًا من الصحابة والتابعين الآخرين الذين أسهموا في نقل ما تيسر لهم من أخبار وآثار في مختلف الميادين، لأن أحدًا من هؤلاء وأولئك لم يكن يجد فاصلاً حقيقيًا بين رواة الأخبار بوجه عام ورواة الأحاديث النبوية بوجه خاص.
ونقول مع ذلك: إن التأثير العفوى الطبيعي الذي خَلَّفَهُ الحديث في أصول النحو، يوم فكر القوم في وضع أوائلها، إنما رافق نشأة علم الحديث قبل أن ينضج، فليس لنا أن نبالي فيه، ولا أن نغلو في أبعاده ومراميه، ولكنا - بعد نضج هذا العلم في القرن الثاني، ثم بعد احتراقه في القرن الثالث - مهما نَغْلُ في وصف ما كان للحديث من أثر في النحو وأصوله، وفي مختلف العلوم ومناهجها،
(1)" شرح نهج البلاغة ": 2/ 134.