الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والاضطراب يدخل في بعض الصور في قسم الصحيح والحسن (1):
وذلك إذا وقع الاختلاف في نسب راو أو اسمه أو اسم أبيه مع أنه راو ثقة، فالحديث الذي هذا شأنه يسمى " مضطربًا " ولكن تسميته بذلك لا تنفي عنه الحكم بالصحة أو الحسن. إنما يكون الاضطراب الموجب للضعف في مثل ما ذكرناه قبل من صور المضطرب مَتْنًا أَوْ سَنَدًا (2).
السَّابِعُ - المَقْلُوبُ:
المقلوب هو الحديث الذي انقلب فيه على أحد الرواة لفظ في المتن، أو اسم رجل أو نسبه في الإسناد، فقدم ما حقه التأخير، أو أخر ما حقه التقديم، أو وُضِعَ شيء مكان شيء (3). وواضح من التعريف
أن القلب يكون في المتن كما يكون في الإسناد.
فمثال المقلوب في المتن: ما رواه مسلم فِي السَبْعَةٌ الذِينَ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَاّ ظِلُّهُ
…
«وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لَا تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ» فالحديث في " الصحيحين " هكذا لفظه: «حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ» (4).
(1) عبارة السيوطي في، " التدريب ": ص 65، فيما يتعلق بهذه القضية، منقولة من " مختصر " الزركشي الذي يقول:«وَقَدْ يَدْخُلُ القَلْبُ وَالشُّذُوذُ وَالاِضْطِرَابُ فِي قِسْمِ الصَّحِيحِ وَالحَسَنِ» .
(2)
" الباعث الحثيث ": ص 78.
(3)
أخذنا هذا التعريف من مجموع ما قيل في اقسام المقلوب.
(4)
عبارة الحديث هي هذه: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَاّ ظِلُّهُ: الإِِمَامُ العَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ [فِي] المَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: =
ولكن المتن انقلب على أحد الرواة، فقدم اليمين وَأَخَّرَ الشمال، وكان عليه أن يفعل العكس.
ومثال المقلوب في الإسناد التقديم والتأخير في الأسماء، كَمُرَّةَ بْنَ كَعْبٍ وَكَعْبَ بْنَ مُرَّةَ، لأن أحدهما اسم أبي الَاخر (1). وقد عني بهذا القسم عناية خاصة الخطيب في كتابه " رفع الارتياب في المقلوب من الأسماء والأنساب "(2).
والقلب في المثالين وقع سَهْوًا لَا عَمْدًا، وكان مع ذلك مُوجِبًا لضعف الحديث ولو أنه وقع عَمْدًا لَا سَهْوًا، لكان القلب حينئذ ضَرْبًا من الوضع والاختلاق (3).
من ذلك أن يكون الحديث مشهورًا براو أو بإسناد، فيعمد بعض الوضاعن إلى إبدال الراوي بغيره لأن الناس أشد رغبة في حديثه (4)، كأن يكون الحديث معروفًا عن سالم بن عبد الله (5)، فيجعله عن نافع (6)، أو يأتي بإسناد مكان
= إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ عز وجل، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ، أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ». انظر " شرح النخبة ": ص 22 وقارن بـ " التوضيح ": 2/ 106.
(1)
" شرح النخبة ": ص 22.
(2)
" الباعث الحثيث ": ص 97 نقلاً عن " شرح النخبة ": ص 22.
(3)
" شرح النخبة ": ص 22.
(4)
" التوضيح ": 2/ 99.
(5)
هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي. من سادات التابعين وعلمائهم، وأحد فقهاء المدينة السبعة. توفي بالمدينة سَنَةَ 106 هـ. (" تهذيب التهذيب ": 3/ 436).
(6)
هو أحد أئمة التابعين بالمدينة، نافع المدني، أبو عبد الله، أصابه عبد الله بن عمر صغيرًا في بعض مغازيه، وأرسله عمر بن عبد العزيز إلى مصر ليعلم أهلها السنن. ثقة كثير الرواية للحديث. توفي سَنَةَ 117 هـ. (انظر " التهذيب ": 10/ 412)»»
إسناد، كما روي عن حماد بن عمرو النَّصِيبِي الكذاب (1) عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعًا:«إِذَا لَقِيتُمُ المُشْرِكِينَ فِي الطَّرِيقِ، فَلَا تَبْدَؤُوهُمْ بِالسَّلَامِ» : فقد قلب حماد هذا الحديث، فجعله عن الأعمش، وإنما هو معروف عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (2).
وكان كثير من أهل الحديث يمتحنون الرواة بقلب الأحاديث وإدخالها عليهم (3)، ليعرفوا مدى قبولهم للتلقين (4)، غير قاصدين إلى الوضع، ولا معتقدين أن ما قلبوه استقر حديثًا (5). روى الخطيب من طريق أحمد بن منصور الروباذي قال: خرجت مع أحمد ويحيى بن معين إلى عبد الرزاق، فلما عدنا إلى الكوفة قال يحيى بن معين لأحمد بن حنبل:«أُرِيدُ أَنْ أَمْتَحِنَ أَبَا نُعَيْمٍ» ، فنهاه أحمد، فلم ينته، فأخذ ورقة فكتب فيها ثلاثين حديثًا من حديث أبي نعيم، وجعل على كل عشرة أحاديث حَدِيثًا ليس من حديثه، ثم أتينا أبا نعيم، فخرج إلينا فجلس على دكان حذاء بابه وأقعد أحمد عن يمينه ويحيى عن يساره، وجلست أسفل، فقرأ عليه يحيى عشرة أحاديث وهو ساكت، ثم الحادي عشر. فقال أبو نعيم:«لَيْسَ هَذَا مِنْ حَدِيثِي، فَاضْرِبْ» ،
(1) قال فيه البخاري: «مُنْكَرُ الحَدِيثِ» . وقال النسائي: «مَتْرُوكٌ» . وقال الجوزقاني: «كَانَ يَكْذِبُ» . وقال ابن حبان: «كَانَ يَضَعُ الحَدِيثَ وَضْعًا» (ذكره في " الميزان "). وقارن بـ " التوضيح ": 2/ 101.
(2)
وبهذا الإسناد الأخير رواه مسلم في " صحيحه " من رواية شعبة والثوري وجرير بن عبد الحميد وعبد العزيز بن محمد الدراوردي كلهم عن سهيل. وقارن بـ " التوضيح ": 2/ 101.
(3)
" الجامع ": 1/ 17.
(4)
" التوضيح ":2/ 102.
(5)
" التدريب ": ص 107.»»
ثم قرأ العشرة الثانية، وقرأ الحديث الثاني، فقال:«وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ هَذَا مِنْ حَدِيثِي، فَاضْرِبْ عَلَيْهِ» ، ثم قرأ العشرة الثالثة، وقرأ الحديث الثالث، فتغير أبو نعيم ثم قبض على ذراع أحمد، ثم قال: «أَمَّا هَذَا فَوَرَعُهُ يَمْنَعُهُ عَنْ هَذَا، وَأَمَّا هَذَا - وَأَوْمَأَ إِلَيَّ - فَأَصْغَرَ مِنْ أَنْ يَعْمَلَ هَذَا، وَلَكِنْ هَذَا مِنْ عَمَلِكَ يَا فَاعِلُ!
…
» ثم أخرج رجله فرفس يحيى بن معين حتى قلبه عن الدكان، ثم قام فدخل داره فقال له أحمد:«أَلَمْ أَنْهَكَ عَنْ هَذَا وَأَقَُلْ لَكَ إِنَّه ثَبْتٌ؟» فَقَالَ يَحْيَى: «هَذِهِ الرَّفْسَةُ أَحَبُّ إِلَيَِّ مِنْ سَفَرِي!» (1)
ولكن النقاد لا يحبون هذا النوع من الأغلوطات لنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عنها (2). وقد أنكر حرمي على شعبة لما قلب أحاديث عن ابان بن أبي عياش وقال: «يَا بِئْسَ مَا صَنَعَ» (3).
ومعرفة قلب الحديث تحتاج إلى علم واسع، وتمرس وثيق بالروايات والأسانيد. وإنه ليستدل على مهارة المحدث باكتشافه ما يقع في الأحاديث من قلب. فهذا الخطيب يروي في هذا المجال عن البخارى ما يكبره في أعيننا، ويعظمه في نفوسنا. قال: «فَإِنَّهُمْ اجْتَمَعُوا - أي علماء بغداد حين قدم عليهم البخاري -، وَعَمَدُوا إِلَى مِائَةِ حَدِيثٍ، فَقَلَبُوا مُتُونَهَا وَأَسَانِيدَهَا، وَجَعَلُوا مَتْنَ هَذَا الإِسْنَادِ لإِسْنَادٍ آخَرَ، وَإِسْنَادَ هَذَا المَتْنِ لِمَتْنٍ آخَرَ، وَدَفَعُوهَا إِلَى عَشَرَةِ أَنْفُسٍ، إِلَى كُلِّ رَجُلٍ عَشَرَةً، وَأَمَرُوهُمْ إِذَا حَضَرُوا المَجْلِسَ يُلْقُونَ ذَلِكَ عَلَى البُخَارِيِّ. وَأَخَذُوا الوَعْدَ لِلْمَجْلِسِ، فَحَضَرَ المَجْلِسَ جَمَاعَةُ أَصْحَابِ الحَدِيثِ مِنَ الغُرَبَاءِ مِنْ أَهْلِ
(1)" التوضيح ": 2/ 102، 103.
(2)
نفسه: 2/ 102.
(3)
" التدريب ": ص 107.
خُرَاسَانَ وَغَيْرِهِمْ وَمِنَ البَغْدَادِيِّينَ. فَلَمَّا اطْمَأَنَّ المَجْلِسُ بِأَهْلِهِ، انْتُدِبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ العَشَرَةِ، فَسَأَلَهُ عَنْ حَدِيثٍ مِنْ تِلْكَ الأَحَادِيثِ، فَقَالَ الْبُخَارِيُّ:«لَا أَعْرِفُهُ» ، فَسَأَلَهُ عَنْ آخَرَ فَقَالَ:«لَا أَعْرِفُهُ» ، فَمَا زَالَ يُلْقِي عَلَيْهِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ حَتَّى فَرَغَ مِنْ عَشَرَتِهِ، وَالبُخَارِيُّ يَقُولُ:«لَا أَعْرِفُهُ» ، فَكَانَ الفُقَهَاءُ مِمَّنْ حَضَرَ المَجْلِسَ يَلْتَفِتُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَيَقُولُونَ: فَهِمَ الرَّجُلُ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ يَقْضِي عَلَى البُخَارِيِّ بِالعَجْزِ وَالتَّقْصِيرِ، وَقِلَّةِ الْفَهْمِ. ثُمَّ انْتُدِبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ مِنَ الْعَشَرَةِ، فَسَأَلَهُ عَنْ حَدِيثٍ مِنْ تِلْكَ الأَحَادِيثِ المَقْلُوبَةِ، فَقَالَ الْبُخَارِيُّ:«لَا أَعْرِفُهُ» ، فَلَمْ يَزَلْ يُلْقِي إِلَيْهِ، وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ حَتَّى فَرَغَ مِنْ عَشَرَتِهِ، وَالْبُخَارِيُّ يَقُولُ:«لَا أَعْرِفُهُ» ، ثُمَّ انْتُدِبَ إِلَيْهِ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ إِلَى تَمَامِ العَشَرَةِ، حَتَّى فَرَغُوا كُلُّهُمْ مِنَ الأَحَادِيثِ المَقْلُوبَةِ، وَالبُخَارِيُّ لَا يَزِيدُهُمْ عَلَى:«لَا أَعْرِفُهُ» ، فَلَمَّا عَلِمَ البُخَارِيُّ أَنَّهُمْ قَدْ فَرَغُوا، الْتَفَتَ إِلَى الأَوَّلِ مِنْهُمْ، فَقَالَ:«أَمَّا حَدِيثُكَ الأَوَّلُ، فَهُوَ كَذَا، وَحَدِيثُكَ الثَّانِي فَهُوَ كَذَا، وَالثَّالِثُ، وَالرَّابِعُ عَلَى الوَلَاءِ» ، حَتَّى أَتَى عَلَى تَمَامِ العَشَرَةِ، فَرَدَّ كُلَّ مَتْنٍ إِلَى إِسْنَادِهِ، وَكُلَّ إِسْنَادٍ إِلَى مَتْنِهِ، وَفَعَلَ بِالآخَرِينَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَرَدَّ مُتُونَ الأَحَادِيثِ إِلَى أَسَانِيدِهَا، وَأَسَانِيدَهَا إِلَى مُتُونِهَا، فَأَقَرَّ لَهُ النَّاسُ بِالحِفْظِ، وَأَذْعَنُوا لَهُ بِالْفَضْلِ (1).
ومنشأ الضعف في الحديث المقلوب قلة الضبط، لما يقع فيه من تقديم وتأخير واستبدال شيء بشيء. وهو - فوق ذلك - يخل بفهم السامع ويحمله على الخطأ (2).
(1)" التدريب ": ص 106، 107، و" التوضيح ": 2/ 104، و" ألفية السيوطي ": ص 122 هامش.
(2)
" التوضيح ": 2/ 103.