الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخَاصَّةِ التِي كَانَ يُعَبِّرُ عَنْهَا بِإِلْهَامٍ مِنَ اللهِ: فَمَا يَجُولُ فِي نَفْسِهِ مِنْ خَوَاطِرَ وَأَفْكَارٍ كَانَ ذَا صِفَةٍ إِنْسَانِيَّةٍ مَحْضَةٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْتَلِطَ بِالكَلَامِ الرَبَّانِيَّ» (1).
ونؤثر إذًا - لتبيان المعنى «التوفيقي» في الأحاديث النبوية التبليغية - أن نسميها «بالحكمة» كما سماها القرآن في قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (2)، فقد اختار معظم العلماء المحققين أن الحكمة في الآية هي شيء آخر غير القرآن، وهي مجموعة ما أطلع الله عليه رسوله من مقاصد الشرع وتعاليمه وأسراره، التي لا يمكن أن تكون غير سنة الرسول القولية والفعلية، لأن الله أمن على خلقه - كما قال الشافعي - «بِتَعْلِيمِهِمْ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ، فَلَمْ يُجِزْ - وَاللُه أَعْلَمُ - أَنْ يُقَالَ: الحِكْمَةُ هُنَا إِلَاّ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا مَقْرُونَةٌ مَعَ الكِتَابَ، وَأَنَّ اللهَ اِفْتَرَضَ طَاعَةَ رَسُولِهِ، وحَتَّمَ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعَ أَمْرِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِقَوْلٍ: (فُرِضَ) إِلَاّ لِكِتَابَ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، لِمَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ اللهَ جَعَلَ الإِيمَانَ بِرَسُولِهِ مَقْرُونًا بِالإِيمَانِ بِهِ» (3).
تَفَاوُتُ عِلْمِ الصَّحَابَةِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ:
ولو رجعنا إلى العصر النبوي لرأينا رسول الله في البيت والمسجد والسوق وساحة المعركة، وفي الحضر والسفر، مُعَلِّمًا للرعيل الأول من
(1) انظر كتابنا " مباحث في علوم القرآن ": ص 32 وما بعدها.
(2)
[سورة آل عمران، الآية: 164].
(3)
الرسالة ص 78.
الصحابة الكرام، يرشدهم بأقواله وأفعاله إلى فهم القرآن في كل نازلة تقع لهم، ولرأينا من عناية أولئك الصحابة بسنته عليه السلام ما لا تدرك العبارة وصفه، حتى كان بعضهم يتناوبون مجلسه يومًا بعد يوم، ينزل هذا يومًا وينزل ذاك يومًا آخر، ثم يخبر كل منهما صاحبه بما سمعه من أقوال رسول الله وتوجيهاته، مخافة أن يفوت أحدهم منها شيء، بعد أن شَوَّقَهُمْ عليه السلام إلى العلم وأروى ظمأهم إليه بمثل قوله:«رَحِمَ اللَّهُ امْرُءًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا، فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» (1).
لكن الصحابة لم يبلغوا جميعًا مرتبة الاجتهاد، بل تفاوتوا في علمهم بسنة الرسول وأقواله، إذ كان فيهم القروي والبدوي، والصانع والتاجر، وفيهم من صحب النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، ومن سمع منه حديثًا واحدًا.
(1)" جامع بيان العلم ": 1/ 39.
(2)
من أقوال الإمام السندي الحنفي، نقلها علم الدين الفُلَاّنِي في (" إيقاظ الهمم "): ص 90. (مطبعة رياض الهند، سَنَةَ 1298 هـ).3333
ولم يكن بُدٌّ - وقد تفاوت علم الصحابة بسنة الرسول - من أن يختلفوا في تعليل بعض الأحكام، وفي ضبط بعض الألفاظ، وفي مقدار موافقتهم للسنة فما اجتهدوا فيه واستنبطوه، إذ «رَأَى كُلُّ صَحَابِيٍّ مَا يَسَّرَهُ اللهُ لَهُ مِنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ وَفَتَاوَاهُ وَأَقْضِيَتَهُ، فَحَفِظَهَا وَعَقَلَهَا، وَعَرَفَ لِكُلِّ شَيْءٍ وَجْهًا مِنْ قِبَلِ حُفُوفِ القَرَائِنِ بِهِ، فَحَمَلَ بَعْضَهَا عَلَى الإِبَاحَةِ، وَبَعْضَهَا عَلَى النَّسْخِ لأَمَارَاتٍ وَقَرَائِنَ كَانَتْ كَافِيَةً عِنْدَهُ، وَلَمْ يَكُنْ العُمْدَةُ عِنْدَهُمْ إِلَاّ وِجْدَانُ الاِطْمِئْنَانِ وَالثَّلَجِ مِنْ غَيْرِ اِلْتِفَاتٍ إِلَى طُرُقِ الاِسْتِدْلَالِ» (1).
تمر بالنبي وصحابته جنازة، فيقوم لها ويقوم الصحابة معه اقتداءً به، ولكنهم لا يعرفون سر قيامه لها، ولا يكتم أحد الصحابة عجبه، فيقول: يا رسول الله إنها جنازة يهودي، ويجيبه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟!» ثم يردف مُعَلِّمًا مُرْشِدًا: «إِذَا رَأَيْتُمُ الجَنَازَةَ، فَقُومُوا لَهَا» (2). وقد اختلف الصحابة في تعليل القيام للجنازة، وتفسير عموم الأمر به للمؤمن والكافر على السواء، فقيل: تعظيمًا لهول الموت: وقيل: إعظامًا للملائكة الحافين بالميت (3). ولكن مقتضى التعليل بقوله عليه السلام: «أَلَيْسَتْ نَفْسًا» أن القيام يستحب لكل جنازة (4).
ويروي عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ المَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ
(1) قارن بـ " حجة الله البالغة ": ص 113 (لولي الله الدهلوي) طبع بمصر سَنَةَ 1341 هـ.
(2)
الحديث في " الصحيحين " من طريق جابر بن عبد الله مرة، ومن طريق سهل بن حنيف مرة أخرى. وقارن بـ " سنن أبي داود ": 3/ 277 رقم الحديث 3174 (باب القيام للجنازة).
(3)
قارن بـ " حجة الله البالغة ": ص 114.
(4)
إلى هذا التعليل ذهب الشوكاني في " نيل الأوطار ".
أَهْلِهِ عَلَيْهِ» فتقضي عليه عاثشة أم المؤمنين بأنه لم يأخذ الحديث على وجهه، ولم يضبط لفظه، فإنما مَرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكي عليها أهلها، فقال:«إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا» ، فلم يكن العذاب لبكاء أهلها عليها، وليس عذاب كل ميت في قبره معلولاً للبكاء، كما يستنتج من ألفاظ الحديث برواية ابن عمر. بل الحديث - على رواية عائشة - تقرير لمشهد حكاه النبي عليه السلام كما سمعه ورآه، فلا يتضمن حكمًا شرعيًا ولا تعليمًا نبويًا (1).
وقد يقع اجتهاد الصحابي موافقًا للحديث كما في رواية " النسائي " أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه سُئِلَ عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، فَقَالَ:«لَمْ أَرَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْضِي فِي ذَلِكَ» ، فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ شَهْرًا وَأَلَحُّوا، فَاجْتَهَدَ بِرَأْيِهِ وَقَضَى فِي ذَلِكَ، فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ شَهْرًا وَأَلَحُّوا، فَاجْتَهَدَ بِرَأْيِهِ وَقَضَى بِأَنَّ لَهَا مَهْرُ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ، وَعَلَيْهَا العِدَّةُ، وَلَهَا المِيرَاثُ، فَقَامَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ (*) فَشَهِدَ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي امْرَأَةٍ مِنْهُمْ. فَفَرِحَ بِذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَرْحَةً لَمْ يَفْرَحْ بِمِثْلِهَا قَطُّ بَعْدَ الإِسْلَامِ (2).
وهكذا اختلفت مذاهب أصحاب النبي عليه السلام، وأخذ عنهم التابعون، فحفظ كل ما تيسر له، وعرف مذاهب الصحابة، ووثق بين المختلف منها على ما تيسر له، ورجح بعض الأقوال على بعض، وصار لكل عالم من أئمة التابعين مذهب مستقل، وانتصب في كل بلد
(1) انظر " حجة الله البالغة ": ص 113.
(2)
قارن بـ " قواعد التحديث ": ص 314.
---------------------
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) ورد في الكتاب المطبوع (معقل بن يسار) والصواب (مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الأَشْجَعِيُّ)، انظر " سنن النسائي " تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة: 6/ 121، حديث رقم 3355، الطبعة الثانية: 1406 هـ - 1986 م، نشر مكتب المطبوعات الإسلامية - حلب. سوريا.3333