الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الثَّالِثُ: الحَدِيثُ الحَسَنُ:
الحدث الحسن هو ما اتصل سنده بنقل عدل خفيف الضبط، وَسَلِمَ من الشذوذ وَالعِلَّةِ (1). وأهم ما في هذا التعريف، لرفع الالتباس بين الصحيح والحسن، أن العدل في الحسن خفيف الضبط، بينا هو في الصحيح تام الضبط. وَكِلَا التقسيمين سالم من الشذوذ والعلة، وكلاهما يُحْتَجُّ بِهِ ويستشهد بمضمونه.
والحديث الحسن نوعان: حسن لذاته، وحسن لغيره.
وإذا أطلق الحديث الحسن [انصرف] إلى الحسن لذاته، فلا داعي إلى تعريفه مرة أخرى. وإنما سُمِّيَ «حَسَنًا لِذَاتِهِ» لأن حُسْنَهُ ناشئ عن شيء داخل فيه، ذاتي له، لا من شيء خارج عنه (2): فهو قد بلغ - بنفسه - درجة الصحيح في شروطه، وإن كان أخف مه بضبط رجاله.
أما الحسن لغيره فهو ما في إسناده مستور لم تتحقق أهليته ولا عدم أهليته غير أنه ليس مُغَفَّلاً كثير الخطأ ولا مُتَّهَمًا بالكذب، ويكون متنه مُعَضَّدًا بمتابع
(1) قارن " شرح النخبة ": ص 11 بـ " ألفية السيوطي ": ص 42 هامش.
(2)
" شرح النخبة ": ص 11.
أو شاهد (1). ويدور حول تعريف الحسن بقسميه جدل لا نرى ضرورة للخوض فيه، ولا ثمرة ترجى منه (2).
و" جامع الترمذي " أصل في معرفة الحديث الحسن وإن أخذوا عليه تعريفه له. وهو الذي نَوَّهَ بذكره (3). وهو أول من عُرِفَ أنه قَسَّمَ الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف. والضعيف عندهم كان على نوعين: ضعيف ضعفًا لا يمتنع العمل به، وهو يشبه الحسن في اصطلاح الترمذي، وضعيف ضعفًا يوجب تركه، وهو الواهي (4).
في " جامع الترمذي " عبارتان يحسن أن تفهما بوضوح، وإلا أوقعتا القارئ في اللُّبْسِ والإبهام، إحداهما: حديث حسن صحيح، والأخرى حديث حسن صحيح غريب. وأفضل ما يجاب به عن الأول أن الرواية التي وصفت
(1)" توضيح الأفكار ": 1/ 188. وسنتكلم في «القسم المشترك بين الصحيح والحسن والضعيف» عن كل من المتابع والشاهد. وحسبنا الآن أن نفهم من هذين اللفظين مجرد اعتضاد الحسن لغيره برواية أخرى مماثلة تتابع لفظه، أو تشهد لمعناه، ليصبح صالحًا للاعتبار.
(2)
تناول هذا الجدل تعريف الخطابي للحسن، ومأخذ العلماء عليه، ثم تعريف الترمذي ونقدهم له، ثم محاولة التوفيق بين التعريفين (انظر على سبيل المثال " التدريب ": ص 49 - 52). وقد عَلَّلَ المحدثون هذا الاضطراب في تعريف الحسن بتوسط هذا المصطلح بين الصحيح والضعيف عند الناظر، حتى كأنه شيء ينقدح في نفس الحافظ وربما قصرت عبارته عن بيانه. أما نحن ففضلنا أن نختصر الطريق فتركنا الجدل واخترنا ما بدا لنا أبسط التعاريف واضبطها لحدود الحسن.
(3)
" اختصار علوم الحديث " و " شرحه ": ص 43.
(4)
من قول شيخ الإسلام ابن تيمية في إحدى فتاويه. " قواعد التحديث ": ص 83.
«بِالحُسْنِ» ثبتت من طريق أخرى لها شروط «الصِحَّةِ» ، فما يقول فيه الترمذي:«حَسَنٌ صَحِيحٌ» أعلى عنده من الحسن ودون الصحيح (1). وقد أزال الحافظ ابن حجر كل إشكال حول هذا البحث حين قال: «وَشِبْهُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الرَّاوِي: صَدُوقٌ فَقَطْ، وَصَدُوقٌ ضَابِطٌ، فَإِنَّ الأَوَّلَ قَاصِرٌ [عَنْ] دَرَجَةِ رِجَالِ الصَّحِيحِ، وَالثَّانِيَ مِنْهُمْ. فَكَمَا أَنَّ الجَمْعَ بَيْنَهُمَا لَا يَضُرُّ وَلَا يُشْكِلُ، فَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْحُسْنِ» (2).
وأما وصف الحسن الصحيح بالغرابة فقائم على أن الصحيح يروى أحيانًا من وجه واحد فيكون غريبًا، فالحسن الذي هو دون الصحيح أجدر أن يوصف كذلك بأنه غريب. ولابن حجر مذهب آخر في تعليل هذا المصطلح، فهو يرى أن الترمذي «لَمْ يُعَرِّفْ الحسن مطلقًا، وإنما عَرَّفَهُ بنوع خاص منه وقع في كتابه، وهو ما يقول فيه «حَسَنٌ» من غير صفة أخرى، وذلك أن يقول في بعض الأحاديث: حسن، وفي بعضها: صحيح، وفي بعضها: غريب، وفي بعضها: حسن صحيح، وفي بعضها: حسن صحيح غريب. وتعريفه إنما وقع على الأول فقط، وعبارته ترشد إلى ذلك حيث قال في آخر كتابه (*):«وَمَا [ذَكَرْنَا فِي هَذَا الكِتَابِ] (حَدِيثٌ حَسَنٌ) فَإِنَّمَا أَرَدْنَا بِهِ حُسْنَ إِسْنَادِهِ عِنْدَنَا، كُلُّ حَدِيث يُرْوَى [لَا يَكُونُ فِي إِسْنَادِهِ مَنْ يُتَّهَمُ] بِالكَذِبِ وَلَا يُكُونُ [الحَدِيثُ] شَاذًّا [وَيُرْوَى مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ نَحْوَ ذَاكَ] فَهُوَ عِنْدَنَا حَدِيثٌ حَسَنٌ» . فَعُرِفَ بهذا أنه إنما عَرَّفَ الذي يقول
(1)" اختصار علوم الحديث ": ص 47.
(2)
ذكره في " التدريب ": ص 53.
(*)[انظر " كتاب العلل " بآخر " سنن الترمذي ": 5/ 758، تحقيق أحمد شاكر وآخرون (تحقيق إبراهيم عطوة عوض)، دار إحياء التراث العربي].
فيه: حسن فقط. أما ما يقول فيه: حسن صحيح، أو حسن غريب، أو حسن صحيح غريب، فلم يُعَرِّجْ على تعريف ما يقول فيه: صحيح فقط، أو غريب فقط. وكأنه ترك ذلك استغناء لشهرته عن أهل الفن، واقتصر على تعريف ما يقول فيه في كتابه: حَسَنٌ فقط، إما لغموضه وإما لأنه اصطلاح جديد. ولذلك قَيَّدَهُ بقوله «عِنْدَنًا» ، ولم ينسبه إلى أهل الحديث كما فعل الخطابي (1)» (2).
والحسن لذاته إذا رُوِيَ من وجه آخر، تَرَقَّى من الحسن إلى الصحيح لقوته من الجهتين، فيعتضد أحدهما بالآخر، وذلك لأن الراوي في الحسن متأخر عن درجة الحافظ الضابط مع كونه مشهورًا بالصدق والستر، فإذا رُوِيَ حديثه من غير وجه، ولو وجهًا واحدًا، قوي بالمتابعة وزال ما كان يخشى عليه من جهة سوء حفظ راويه ن فارتفع حديثه من درجة الحسن إلى الصحيح. مثاله حديث:«لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» . فإن طريق هذا المتن: محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم. ومحمد بن عمرو مُتَّهَمٌ في الحفظ والضبط والإتقان وإن وَثَّقَهُ كثيرون. فهذا الحديث حَسَنٌ لِذَاتِهِ وَصَحِيحٌ لِغَيْرِهِ، لأنه مروي عن شيخ محمد وعن شيخ شيخه،
(1) الخطابي: هو الحافظ حمد - بفتح الميم بغير همزة - كما رواه عبد الله أنه سئل الخطابي عن اسمه فقال: اسمي حمد، ولكن الناس كتبوا أحمد فتركته عليه. والخطابي فقيه أديب مُحَدِّثٌ له مؤلفات منها:" معالم السنن " على أبي داود، وهو مطبوع. وله " أعلام السنن " في شرح " البخاري "، وغير ذلك، تُوُفِّيَ سَنَةََ 388 بمدينة بُسْتْ وإليها ينسب أحيانًا فيقال:«البُسْتِي» .
(2)
" شرح النخبة ": ص 12.
وقد رواه أيضًا عن أبي هريرة كثيرون منهم الأعرج بن هرمز وسعيد المقبري (1).
وإلى جانب الترمذي الذي كان أول من نَوَّهَ بالحديث الحسن نجد في الطبقة التي سبقته كأحمد والبخاري، وفي متفرقات من كلام مشايخه، أحاديث تغلب عليها صفة الحسن (2)، فهي دون الصحيح، وأعلى من الضعيف. ونحن لا نستغرب وجود الحسن في " صحيح البخاري " - فضلاً عن " مسند أحمد " - بعد أن أوردنا حُجَّةَ الذهبي في أن الحسن نوع من أنواع الصحيح.
ويرى ابن الصلاح أن من مظان الحسن " سنن أبي داود "، لأنه يروي عنه أنه قال:«ذَكَرْتُ الصَّحِيحَ وَمَا يُشْبِهُهُ وَيُقَارِبُهُ، وَمَا كَانَ فِيهِ وَهَنٌ شَدِيدٌ بَيَّنْتُهُ. وَمَا لَمْ أَذْكُرْ فِيهِ شَيْئًا فَهُوَ صَالِحٌ، وَبَعْضُهَا أَصَحُّ مِنْ بَعْضٍ» (3). فَيُعَقِّبُ ابن الصلاح على عبارة أبي داود هذه بقوله: «فَمَا وَجَدْنَاهُ [فِي كِتَابِهِ] مَذْكُورًا (مُطْلَقًا) وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنَ " الصَّحِيحَيْنِ " وَلَا نَصَّ عَلَى صِحَّتِهِ أَحَدٌ، فَهُوَ حَسَنٌ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ» (4). وظاهر أن تعقيب ابن الصلاح مُسْتَمَدٌّ من منهجه الذي سار عليه من ضرورة منع المتأخرين من الحكم على حديث ما بالصحة إذا لم يكن في أحد " الصحيحين " ولم يَنُصَّ أحد من الأئمة على صحته. ولذلك يرى أن ما صححه الحاكم من الأحاديث، ولم نجد لغيره من المعتمدين تصحيحًا ولا
(1)" التدريب ": ص 57.
(2)
" اختصار علوم الحديث " و" شرحه ": ص 43.
(3)
" التدريب ": ص 55 وقارن بـ " توضيح الأفكار ": 1/ 196.
(4)
" اختصار علوم الحديث ": ص 44.