الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يفسر بعض الباحثين المعاصرين هذا الموقف العجيب أدق تفسير وأوفاه حين يقول: «ولكن ذلك - أي الاحتجاج بالحديث - لم يقع كما ينبغي، لانصراف اللغويين والنحويين المتقدمين الى ثقافة ما يزودهم به رواة الأشعار خاصة، انصرافًا استغرق جهودهم، فلم يبق فيهم لرواية الحديث ودرايته بقية، فتعقلوا لعدم احتجاجهم بالحديث بعلل، كلها وارد بصورة أقوى على ما احتجوا به هم أنفسهم من شعر ونثر» (1).
لِمَاذَا مَنَعُوا الاِحْتِجَاجَ بِالحَدِيثِ
؟:
وأقوى ما تَعَلَّلَ به مانعو الاحتجاج بالحديث أنهم لم يثقوا بأن تلك المرويات المتعددة المتكاثرة كلها من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم أفصح العرب قاطبة، و «إنما ترك العلماء ذلك - كما يقول أبو حيان الأندلسي - لعدم وثوقهم أن ذلك لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ لو وثقوا بذلك لجرى مجرى القرآن في إثبات القواعد الكلية» (2). ويفسر أبو حيان موقف المانعين بأمرين: أحدهما تجويز الرواة نقل القصة الواحدة بألفاظ مختلفة مع أن النبي عليه السلام لم ينطق بتلك الألفاظ جميعًا، وإنما أتى أولئك الرواة بالمرادف ولم يأتوا باللفظ النبوى الفصيح (3)، والآخر وقوع كثير من اللحن فيما روي من الحديث «لأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الرُّوَاةِ كَانُوا غَيْر عَرَبٍ
(1)" أصول النحو " للأستاذ سعيد الأفغاني: ص 41.
(2)
ذكره السيوطي في " الاقتراح ": ص 16. وقارن بـ " كشف الظنون ": ص 405 - 407.
(3)
مثل لذلك أبو حيان بحديث «زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ» ، وفي الرابعة:«أَمْلَكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ» .
بِالطَّبْعِ، وَلَا يَعْلَمُونَ لِسَانَ العَرَبِ بِصِنَاعَةِ النَّحْوِ، فَوَقَعَ اللَّحْنُ فِي كَلَامِهِمْ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ» (1).
الرد كل المانعين:
-----------------
والحق أن تجويز الرواية بالمعنى قد أحيط - عِنْدَ المُجَوِّزِينَ - بشروط لم تتوافر إلا في الصحابة والتابعين وكبار أئمة الفقهاء والرواة ممن كانت لغتهم سليقة، وَجِبِلَّتِهِمْ عربية، فلو غَيَّرَ أَحَدُهُمْ - وهو العربي المطبوع - لفظًا بلفظ آخر مرادف له، لكان على النحاة تفضيله على غيره من كلام العرب، لأن تقلب صاحبه في البيئات العربية الفصحى لا يسمح قط بالتردد في قبوله والأخذ به، لذلك قال الإمام أحمد بن حنبل في الشافعي:«إِنَّ كَلَامَهُ فِي اللُّغَةِ حُجَّةٌ» (2).
هذا على فرض رواية أولئك الأسلاف الصالحين على المعنى، وعلى فرض تساهلهم جميعًا في الحديث المرفوع كتساهلهم في غيره، ثم على فرض الإجماع على إباحة الرواية بالمعنى إطلاقًا للجميع في عصر الرواية والتدوين، ولكن الواقع خلاف هذا من كل وجه: فالرعيل الأول من الرواة كانوا يتشددون في الرواية باللفظ والنص، ولا يتساهلون حتى بالواو والفاء، وَكَانَ أَحَبُّ إِلَى أَحَدِهِمْ - كَمَا قَالَ الأَعْمَشُ -:«أَنْ يَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ أَنْ يَزِيدَ فِي الحَدِيثِ وَاوًا، أَوْ أَلِفًا، أَوْ دَالاً» (3)، وما أكثر الأمثلة التي تشير إلى تردد الراوي بين لفظين حرص الراوي
(1) قارن بـ " الاقتراح ": ص 21.
(2)
" الاقتراح " أيضًا: ص 24.
(3)
" الكفاية ": ص 178، وقارن بما أوضحناه ص 80 - 82.
نفسه على التصريح بكل منهما مخافة أن يلفظ بغير لفظ النبي عليه السلام! (1).
ومن الأئمة من تشدد في منع الرواية بالمعنى في الحديث المرفوع إلى النبي، وإنما كانوا يتساهلون في الموقوف على الصحابي، والمقطوع عند التابعي، لأنهم كانوا يعتقدون أن التحفظ الكامل ينبغي أن يكون في حديث رسول الله نفسه، لما له من مكانة في التشريع (2).
وقد رأينا كيف منع بعض المحققين من العلماء غير الصحابة من رواية الحديث بالمعنى، وإن استوفوا مراد الرسول صلى الله عليه وسلم لدى تبديل لفظه بمرادفه، وعقلوا هذا بأن الإباحة لو أطلقت لما كان أحد على ثقة من الأخذ بالحديث (3)، ولا ريب أن فرص الرواية على المعنى - بعد هذا التشدد كله، وهذا التضييق من كل جانب - أمست قليلة بل نادرة الوقوع، وأن هذا الضرب من الرواية - على فرض وقوعه - كان مقصورًا بعد عصر التدوين على العالم بالنحو والصرف العارف بمدلولات الألفاظ ومقاصدها، القادر على أداء الحديث خاليًا من اللحن فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يلحن، فمن روى عنه شيئًا ولحن فيه كذب عليه، وتبوأ مقعده من النار (4).
(1) كما في حديث سعد بن أبي وقاص: وقال عليه الصلاة والسلام: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» - أَوْ كَبِيرٌ -، فالراوي لشكه يثبت اللفظ بالثاء المثلثة والراء الموحدة. (انظر " دليل الفالحين ": 1/ 46). ومثله حديث أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري الذي أوله قوله عليه السلام: «الطَّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ» . فإن فيه بعد ذلك «وَسُبْحَانَ اللهِ وَالحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآنِ - أَوْ تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ» . فقد شك الراوي هل العبارتان كلتاهما تملآن - بالتثنية - أم تعدان عبارة واحدة (تَمْلأُ) بالإفراد، فأثبت الراوي اللفظين ورعًا واحتياطًا (" دليل الفالحين ": 1/ 130).
(2)
كما نقل البيهقي في " مدخله " عن الإمام مالك. وانظر " الباعث الحثيث ": ص 158.
(3)
راجع ص 84.
(4)
قارن بـ " اختصار علوم الحديث "(لابن كثير): ص 192.
وإن طائفة غير يسيرة من الأحاديث التي فيها ما يشبه اللحن لتفسر - في نظرنا أحيانًا كثيرة - بتحرج الرواة واحتياطهم في التحمل والأداء، فكان بعضهم - لشدة أمانته - يلحن كما يلحن الراوي ما دام اللفظ الذي يرويه لا يحيل المعنى ولا يفسده (1)، ومن هاهنا نادى أهل التحقيق بوجوب رد الحديث إلى الصواب، إذا كان راويه قد خالف موجب الإعراب! (2) فمن ذلك أَنَّ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ الحُلْوَانِيِّ قَالَ:«مَا وَجَدْتُمْ فِي كِتَابِي، عَنْ عَفَّانَ لَحْنًا فَأَعْرِبُوهُ، فَإِنَّ عَفَّانَ كَانَ لَا يَلْحَنُ» وَقَالَ عَفَّانُ: «مَا وَجَدْتُمْ فِي كِتَابِي، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ لَحْنًا فَأَعْرِبُوهُ، فَإِنَّ حَمَّادًا كَانَ لَا يَلْحَنُ» وَقَالَ حَمَّادٌ: «مَا وَجَدْتُمْ فِي كِتَابِي عَنْ قَتَادَةَ لَحْنًا فَأَعْرِبُوهُ، فَإِنَّ قَتَادَةَ كَانَ لَا يَلْحَنُ» (3).
خلاصة البحث:
---------------
وإن هذه المقاييس التى أخذ بها المحدثون أنفسهم لدى رواية المتون - إلى جانب ما التزموه من دقة بالغة لدى رواية الأسانيد - لتؤكد تأكيدًا قاطعًا أن مانعي الاحتجاج بالحديث من اللغويين والنحويين المتقدمين ارتكبوا خطأ جسيمًا حين تَعَلَّلُوا بأن مرويات الحديث لا تؤنس الثقة بأنها من لفظ النبي العربي الكريم: فإن هؤلاء المانعين أنفسهم عرفوا - كما عرف المجيزون - «أَنَّ مَا فِي رِوَايَاتِ الحَدِيثِ مِنْ ضَبْطِ
(1)" الكفاية ": ص 186. وقد روي هذا عن الإمام محمد بن سيرين.
(2)
" الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع " للخطيب: 6/ 103 وجه 1.
(3)
انظر كتاب " ألف باء " للبلوي: 1/ 44.
وَدِقَّةٍ وَتَحَرٍّ لَا يَتَحَلَّى بِبَعْضِهِ كُلُّ مَا يَحْتَجُّ بِهِ النُحَّاةُ وَاللُّغَوِيُّونَ مِنْ كَلَامِ العَرَبِ» (1).
على أنا نلتمس بعض العذر للمتقدمين من أولئك اللغويين والنحويين - إن لم نعلل بما تعللوا به من الريبة في الحديث - فنرى «شُحَّ المَوْرِدِ» (2) وندرة الرواية، وقلة التصنيف، من أقوى الأسباب التي حملت القوم على «انْتِجَاعِ الجَدْبِ فِي غَيْرِ الحَدِيثِ وَالخَصْبُ مُحِيطٌ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ» (3). فيما صحت يومئذٍ روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي ضوء هذا التفسر، يمكننا أن نفهم سر الامتناع عن الاحتجاج بالحديث، الذي عَزَوْهُ إلى واضعي النحو الأولين أبي عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر والخليل وسيبويه من الأئمة البصريين، والكسائي والفراء وعلي بن مبارك الأحمر وهشام الضرير من أئمة الكوفيين (4). كما أنا، في ضوء هذا التفسير نفسه، يمكننا أن نفهم سِرَّ احتجاج المتأخربن من اللغويين بأحاديث الرسول في معجماتهم التي اشتملت على أنقى الألفاظ وأفصحها مصحوبة بشروحها وشواهدها، كما في " تهذيب " الأزهري، و" صحاح " الجوهري، و " مقاييس " ابن فارس، و " فائق " الزمخشري، وكما في مسائل كبار النحويين كابن خروف وابن جني وابن بري والسهيلي، حتى قال ابن الطيب من أصحاب هذا المذهب (5):
(1)" أصول النحو ": ص 47.
(2)
هذه عبارة الأستاذ سعيد الأفغاني في " أصول النحو ": ص 45 وهي عبارة دقيقة تصور الواقع النفسي للرعيل الأول من الرواة.
(3)
المصدر السابق: ص 45.
(4)
" الاقتراح ": ص 21.
(5)
بحث (الاستشهاد بالحديث) للسيد محمد الخضر حسين في " مجلة مجمع اللغة العربية ": 3/ 199.
وبهذا المذهب المنطقي السليم لا نملك إلا أن نرد قضية الاحتجاج إلى معيار لا يخطئ أبدًا: وهو معيار الفصاحة والصفاء والسلامة من الفساد، فلا يحتج في الحديث ولا في غيره بمن لابس الضعف لغته، وخالطت العجمة كلامه، وتسربت الركة إلى لفظه مهما يَسْمُ مقامه. وكان هذا المعيار الدقيق كفيلاً - لو عرفه اللغويون المتقدمون في وقت مبكر - بإرساء قواعد اللغة وأصول النحو على دعائم ثابتة قوية، وبقطف ثمار تلك الأصول في نتاج نحوي غني بالشواهد كنتاج ابن مالك وابن هشام، من رجال النحو المتأخرين وأئمته الأعلام.
(1)" أصول النحو ": ص 49.