الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَسَبْعٍ وَمِائَةَ شَيْخٍ» (1) على حين لم نعرف من أسماء شيوخ الإمام البخاري الذين تَلَقَّى عنهم وأخذ من أفواههم - عند جمع " صحيحه " - إِلَاّ أَلْفًا وزيادة قليلة (2). وقالوا في أبي عبد الله بن منده (- 395 هـ): إنه ختام الرَّاحلين (3)، لأنه «لَمَّا رَجَعَ مِنَ الرِّحْلَة الطَّوِيلَةِ كَانَتْ كُتُبُهُ عِدَّةَ أَحْمَالٍ حَتَّى قَِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ حِمْلاً» (4).
وحين صُنِّفَتْ كتب الحديث لم تُغْنِ عن الرحلة في طلب العلم، فلقد كانت الكتب لتيسر التحصيل على المتساهل، أما الذي كان يلتمس شرف العلم وكرامته فلم يكن ليرضى بما يقرؤه في الكتب بل ظلت أشهى أمانيه الرحلة في طلب الحديث.
الرِّحْلَةُ لِلْمُتَاجَرَةِ بِالحَدِيثِ:
ولئن كان هؤلاء الرحَّالون إنما يطلبون الحديث ابتغاء الاتساع في المعرفة، فإنَّ كَثِيرًا غيرهم بدؤوا يطلبونه متاجرةً به: فيعقوب بن إبراهيم بن سعد كان يحفظ الحديث الذي رواه أبو هريرة وفيه ينهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الاغتسال
(1)" تذكرة الحفاظ ": 2/ 544.
(2)
وقد عرفنا ذلك من قول الإمام البخاري نفسه: «كَتَبْتُ عَنْ أَلْفِ نَفَرٍ مِنَ العُلَمَاءِ وَزِيَادَةٍ» ثم يُؤَكِّدُ أنه لم يكتب إلَاّ عمَّنْ قال: «الإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ» . انظر حوادث سَنَةَ 256 في " شذرات الذهب ": 2/ 134 وانظر " تذكرة الحفاظ ": 2/ 555. وسماعات البخاري من البلدان المختلفة.
(3)
" تذكرة الحفاظ ": 3/ 1032. وفيها ترجمته.
(4)
" تذكرة الحفاظ ": 3/ 1032.
في الماء الدائم إذا أصابته نجاسة، «وكان يعقوب لا يُحَدِّثُ بهذا الحديث إلَاّ بدينار» (1). وأمر أبي نعيم الفضل بن دُكين أغرب من هذا فإنه إمام حافظ ثقة (2)، ولكنه ضرب الرقم القياسي في الخبرة بالشؤون المالية، فهذا أحد تلاميذه علي بن جعفر بن خالد يقول:«كُنَّا نَخْتَلِفُ إِلَى أَبِي نُعَيْمٍ الفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ الْقُرَشِيِّ نَكْتُبُ عَنْهُ الحَدِيثَ، فَكَانَ يَأْخُذُ مِنَّا الدَّرَاهِمَ الصِّحَاحَ، فَإِذَا كَانَ مَعَنَا دَرَاهِمُ مَكْسُورَةً يَأْخُذُ عَلَيْهَا صَرْفًا» (3). ولذلك كان شُعبة بن الحجاج (4) ينصح بأخذ الحديث من الغَنِيِّ المُوسِرِ لأنه يستغني عن الكذب فيقول لعليٍّ بن عاصم: «عَلَيْكَ بِعُمَارَةَ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ فَإِنَّهُ غَنِيُّ لَا يَكْذِبُ!» فيرُدُّ عليه عليُّ بن عاصم قائلاً: «كَمْ مِنْ غَنِيٍّ يَكْذِبُ!» (5) ويقول شُعْبَةُ مُؤَكِّداً رَأْيَهُ: «لَا تَكْتُبُوا عَنِ الفُقَرَاءِ شَيْئًا» (6).
ولقد قام العلماء - في مختلف العصور - في وجه هؤلاء المتاجرين بالحديث
(1) انظر " سنن النسائي بشرح السيوطي ": 1/ 49 و" الكفاية ": ص 156.
(2)
راجع ترجمته في " تذكرة الحفاظ ": 1/ 372.
(3)
" الكفاية ": ص 156 وانظر في " الباعث الحثيث ": ص 116 ما يتعلَّق بموقف ابن دُكين من أخذ الأجر على الحديث.
(4)
هو شُعبة بن الحجاج بن الورد العتكي الأزدي الواسطي، ويُكَنَّى أبا بسطام: مُحَدِّثُ البصرة وأمير المؤمنين في الحديث. رأى أنس بن مالك رضي الله عنه، وسمع أربع مائة من التابعين، تُوُفِّيَ سَنَةَ 160 هـ.
(5)
" الكفاية ": ص 155.
(6)
" الكفاية ": ص 156.
يضربون على أيديهم، وينصحون طلبة العلم قائلين:«يَا ابْنَ آدَمَ عِلِّمْ مَجَّانًا كَمَا عُلِّمْتَ مَجَّانًا» (1). ويستندون في هذا إلى أنَّ التعليم مَجَّانًا وارد في الكتب السماوية، فعن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال:«مَكْتُوبٌ فِي الكُتُبِ: يَا ابْنَ آدَمَ عِلِّمْ مَجَّانًا كَمَا عُلِّمْتَ مَجَّانًا» (2). ولهذا القول أصل صحيح معروف في الكتب السماوية، ففي آخر سفر من أسفار الكتاب المقدس « Deutéronome» :« إِنَّمَا عَلَّمْتُكُمْ بِأَمْرِ رَبِّي» (3). ويستندون أَحْيَانًا أخرى إلى الحديث النبوي نفسه ليجزموا بحرمة أخذ الأجر على تعليم العلم، ففي " سُنن أبي داود " أنَّ الصحابي الجليل عُبادة بن الصامت رضي الله عنه علَّمَ ناسًا من أهل الصُفَّة الكتاب والقرآن، فأهدى إليه رجل منهم قوسًا رمزًا للشكر وعرفان الجميل، وَإِذَا عُبَادَةُ يَسْتَفْتِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَمْرِ هَذِهِ الهَدِيَّةِ، فَيُفْْتِيهِ عليه السلام بِلَهْجَةٍ شَدِيدَةٍ جَازِمَةٍ:«إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُطَوَّقَ مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهَا» (4). وكان لأمثال هذا الحديث أثر بليغ في نفوس العلماء وَالرُوَّاةِ، فكانوا يعدُّون الهدية رشوة إنْ أهداها طالب الحديث، ويرفضون أنْ يلقوا إليه شيئاً منه إلَاّ إذا عاهدهم ألَاّ يهديهم شَيْئًا.
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَسْمَعُ مِنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ (- 167 هـ) فَرَكِبَ بَحْرَ الصِّينِ فَقَدِمَ ، فَأَهْدَى إِلَى حَمَّادٍ فَقَالَ لَهُ حَمَّادٌ: " اخْتَرْ ، إِنْ شِئْتَ
(1)" الكفاية ": ص 154.
(2)
انظر " الكفاية ": ص 153.
(3)
وقد أشار جولدتسيهر إلى صحة هذا الأمر في الحاشية الثالثة ص 225 في كتابه " Etudes sur la Tradition Islamique ".
(4)
" سنن أبي داود ": 3/ 360 رقم الحديث 3416. كتاب الإجارة. باب من كسب العلم.
قَبِلْتُهَا وَلَمْ أُحَدِّثْكَ أَبَدًا ، وَإِنْ شِئْتَ حَدَّثْتُكَ وَلَمْ أَقْبَلِ الْهَدِيَّةَ ، فَقَالَ: لَا تَقْبَلِ الهَدِيَّةَ وَحَدِّثْنِي ، فَرَدَّ الْهَدِيَّةَ وَحَدَّثَهُ» (1). وتتَّخذ هذه الفكرة سبيلاً آخر إلى تقبيح المُتَاجِرِينَ بالحديث في مثل قول الإمام أحمد حِينَ سُئِلَ:
يُكْتَبُ عَمَّنْ يَبِيعُ الحَدِيثَ؟ فَقَدْ أَجَابَ: «لَا ، وَلَا كَرَامَةَ» (2)!.
ولعلَّ بائعي الحديث والمتاجرين به - رغم جشعهم الظاهر أَحْيَانًا - لم يكونوا دائمًا من الكَذَّابِينَ أَوْ الوَضَّاعِينَ: ولعلَّ كَثِيرًا منهم كانوا ثقات ضابطين، ولكنه المال يثني أعناق الرجال، وكانت لهؤلاء فلسفتهم الخاصة، فهم قد تَجَشَّمُوا المشاق وركبوا الأهوال ورحلوا في طلب الحديث، «لا يعوقهم فقر، ولا يفت في عزمهم صعوبة الطريق وأخطاره، سواء عليهم الصحراء وَحَرِّهَا، والبحار وأمواجها، إذ تغلغل في نفوسهم اعتقاد أنَّ طلب العلم جهاد، فمن مات في سبيله مات شهيداً» (3)، بينما كان سائر الآخذين عنهم قابعين في دورهم، آمنين في سربهم، فهم لا يريدون أنْ يكونوا سواء مع هؤلاء. ونحن لا نعدم في كتبنا الأمينة أخباراً تشير إلى الأصول المنهجيَّة التي كان يَتَّبِعُهَا هؤلاء الرُواة في استقصاء الحديث النبوي، وهي أصول كانت تُكَبِّدُهُمْ من العناء الشيء الكثير، وهي لو قورنت بشيء في عصرنا الحديث لكانت أشبه بأساليب الناشرين الذين أصبحت أعمالهم وقفاً على البحث عن كنوز المخطوطات لنشرها
(1)" الكفاية ": ص 153 كراهة أخذ الأجر على التحديث ومن قال: «لَا يُسْمَعُ مِنْ فَاعِلِ [ذَلِكَ]» .
(2)
" الكفاية ": ص 54.
(3)
" ضُحى الإسلام ":2/ 72.
ثم بيعها بأغلى الأثمان. والطريقة التي وصل بها العلماء إلى أحاديث علي بن الجعد (- 230 هـ) تُوَضِّحُ لنا الكثير من فلسفة المتاجرين بالحديث في تلك الأيام: «قال أبو الفضل بن طاهر المقدسي: سمعت أبا القاسم هبة الله بن عبد الوارث الشيرازي صاحبنا يقول: دخلت بغداد وسمعتُ ما قدرت عليه من المشايخ، ثم خرجت أريد الموصل، فدخلت صريفين فَبَتَّ في مسجد بها، فدخل أبو محمد الصريفيني وَأَمَّ النَاسَ فتقدَّمتُ إليه وقلتُ له: سمعتَ شيئاً من الحديث؟ فقال: كان أبي يحملني إلى أبي حفص الكتاني وابن حَبَّابَةَ وغيرهما، وعندي أجزاء. قلتُ: أخرجها حتى أنظر فيها، فأخرج إليَّ حزمة منها كتاب عَلِيٍّ بن الجعد بالتمام مع غيره من الأجزاء، فقرأته عليه، ثم كتبت إلى أهل بغداد فرحلوا إليه وأحضره الكبراء من أهل بغداد، فكل من سمعته من الصريفيني فالمِنَّةُ لأبي القاسم الشيرازي فلقد كان من هذا الشأن بمكان» (1).
وتنصرم الأعوام، وتتعاقب الأجيال، وإذا بتلك الرحلات العلمية في طلب الحديث تصبح ضرباً من الرحلات الرياضية يطلب بها بُعْدُ الصِّيتِ، فكان بعض من لا خلاق لهم يرحلون إلى اقصى الأقاليم لا ليحفظوا الأحاديث ويعملوا بما فيها بل لتظهر أسماؤهم في سلسلة الإسناد، ولا سيما فيما لم يكن مشهوراً من الأحاديث. وهذه الرحلات الرياضية - إنْ صحَّ التعبير - كثرت في القرن الهجري الثالث، وانتهى إلى أسوأ النتائج في القرن الهجري الخامس،
(1)" معجم البلدان " لياقوت: 3/ 385.