المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مقاومة المتساهلين بالحديث: - علوم الحديث ومصطلحه - جـ ١

[صبحي الصالح]

فهرس الكتاب

- ‌البَابُ الأَوَّلُ: تَارِيخُ الحَدِيثِ:

- ‌الفَصْلُ الأَوَّلُ:‌‌ الحَدِيثُ وَالسُنَّةِوَاصْطِلَاحَاتٍ أُخْرَى:

- ‌ الحَدِيثُ وَالسُنَّةِ

- ‌الخَبَرُ وَالأَثَرُ:

- ‌الحَدِيثُ القُدْسِيُّ:

- ‌الفَصْلُ الثَّانِي: حَوْلَ تَدْوِينِ الحَدِيثِ:

- ‌مَعْرِفَةُ العَرَبِ لِلْكِتَابَةِ قَبْلَ الإِسْلَامِ:

- ‌أَسْبَابُ قِلَّةِ الكِتَابَةِ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم

- ‌الصُّحُفُ المَكْتُوبَةُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌صَحِيفَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ لِهَمَّامٍ بْنِ مُنَبِّهٍ:

- ‌مَوْقِفُ المُسْتَشْرِقِينَ مِنْ تَدْوِينِ الحَدِيثِ:

- ‌عَصْرُ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ:

- ‌عَصْرُ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ:

- ‌الفَصْلُ الثَّالِثُ: الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الحَدِيثِ:

- ‌الطَّابَعُ الإِقْلِيمِيُّ فِي نَشْأَةِ الحَدِيثِ:

- ‌الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الحَدِيثِ:

- ‌الرِّحْلَةُ لِلْمُتَاجَرَةِ بِالحَدِيثِ:

- ‌مُقَاوَمَةُ المُتَسَاهِلِينَ بِالحَدِيثِ:

- ‌الفَصْلُ الرَّابِعُ: دَوْرُ الحَدِيثِ وَأَلْقَابِ المُحَدِّثِينَ:

- ‌أَلْقَابُ المُحَدِّثِينَ:

- ‌رِوَايَةُ الحَدِيثِ بِالحِفْظِ:

- ‌الفَصْلُ الخَامِسُ: تَحَمُّلُ الحَدِيثِ وَصُوَرُهُ:

- ‌أَوَّلاً - السَّمَاعُ:

- ‌ثَانِيًا: القِرَاءَةُ:

- ‌ثَالِثًا: الإِجَازَةُ:

- ‌رَابِعًا: المُنَاوَلَةُ:

- ‌خَامِسًا: المُكَاتَبَةُ:

- ‌سَادِسًا: الإِعْلَامُ:

- ‌سَابِعًا: الوَصِيَّةُ:

- ‌ثَامِنًا: الوِجَادَةُ:

- ‌البَابُ الثَّانِي: التَّصْنِيفُ فِي عُلُومِ الحَدِيثِ:

- ‌الفَصْلُ الأَوَّلُ: عِلْمُ الحَدِيثِ رِوَايَةً وَدِرَايَةً:

- ‌1 - عِلْمُ الجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ:

- ‌2 - عِلْمُ رِجَالِ الحَدِيثِ:

- ‌3 - عِلْمُ مُخْتَلَفِ الحَدِيثِ:

- ‌4 - عِلْمُ عِلَلِ الحَدِيثِ:

- ‌5 - عِلْمُ غَرِيبِ الحَدِيثِ:

- ‌6 - عِلْمُ نَاسِخِ الحَدِيثِ وَمَنْسُوخُهُ:

- ‌الفَصْلُ الثَّانِي: كِتَابَةُ الحَدِيثِ رِوَايَةً وَمَرَاتِبُهَا:

- ‌[أ]- مَرَاتِبُ هَذِهِ الكُتُبُ:

- ‌[ب]- التَّعْرِيفُ بِأَهَمِّ كُتُبِ الرِّوَايَةِ وَالمَسَانِيدِ:

- ‌الفَصْلُ الثَّالِثُ: شُرُوطُ الرَّاوِي وَمَقَايِيسُ المُحَدِّثِينَ:

- ‌البَابُ الثَّالِثُ: مُصْطَلَحُ الحَدِيثِ:

- ‌الفَصْلُ الأَوَّلُ: أَقْسَامُ الحَدِيثِ:

- ‌الفَصْلُ الثَّانِي: القِسْمُ الأَوَّلُ - الحَدِيثِ الصَّحِيحُ:

- ‌الفَصْلُ الثَّالِثُ: الحَدِيثُ الحَسَنُ:

- ‌أَلْقَابٌ تَشْمَلُ الصَّحِيحَ وَالحَسَنَ:

- ‌الفَصْلُ الرَّابِعُ: الحَدِيثُ الضَّعِيفُ:

- ‌أَنْوَاعٌ تَخْتَصُّ بِالضَّعِيفِ:

- ‌الأَوَّلُ - المُرْسَلُ:

- ‌الثَّانِي - المُنْقَطِعُ:

- ‌الثَّالِثُ - المُعْضَلُ:

- ‌الرَّابِعُ - المُدَلَّسُ:

- ‌الخَامِسُ - المُعَلَّلُ:

- ‌السَّادِسُ - المُضْطَرِبُ:

- ‌السَّابِعُ - المَقْلُوبُ:

- ‌الثَّامِنُ - الشَّاذُّ:

- ‌التَّاسِعُ - المُنْكَرُ:

- ‌العَاشِرُ - المَتْرُوكُ:

- ‌الفَصْلُ الخَامِسُ: القِسْمُ المُشْتَرَكُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالحَسَنِ وَالضَّعِيفِ:

- ‌أ - 1 و 2 و 3 - المَرْفُوعُ وَالمُسْنَدُ وَالمُتَّصِلُ:

- ‌ب - 4 و 5 و 6 - المُعَنْعَنُ وَالمُؤَنَّنُ وَالمُعَلَّقُ:

- ‌جـ - 7 و 8 - الفَرْدُ وَالغَرِيبُ:

- ‌د - 9 و 10 و 11 - العَزِيزُ وَالمَشْهُورُ وَالمُسْتَفِيضُ:

- ‌هـ - 12 و 13 - العَالِي وَالنَّازِلُ:

- ‌و - 14 و 15 - المُتَابِعُ وَالشَّاهِدُ:

- ‌16 - المُدْرَجُ:

- ‌17 - المُسَلْسَلُ:

- ‌18 - المُصَحَّفُ:

- ‌الفَصْلُ السَّادِسُ: المَوْضُوعُ وَأَسْبَابُ الوَضْعِ:

- ‌الفَصْلُ السَّابِعُ: الحَدِيثُ بَيْنَ الشَّكْلِ وَالمَضْمُونِ:

- ‌البَابُ الرَّابِعُ: مَكَانَةُ الحَدِيثِ فِي التَّشْرِيعِ وَاللُّغَةِ وَالأَدَبِ:

- ‌الفَصْلُ الأَوَّلُ: مَكَانَةُ الحَدِيثِ فِي التَّشْرِيعِ:

- ‌إِشَادَةُ القُرْآنِ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ وَالْتِزَامِ سُنَّتِهِ:

- ‌شُمُولُ السُنَّةِ كُلَّ آفَاقِ التَّشْرِيعِ:

- ‌اِسْتِقْلَالُ السُنَّةِ بِالتَّشْرِيعِ وَلَوْ كَانَ أَصْلُهَا فِي الكِتَابِ:

- ‌الفَصْلُ الثاَّنِي: الحَدِيثُ الصَّحِيحُ حُجَّةٌ فيِ التَّشْرِيعِ:

- ‌لَا فَرْقَ بَيْنَ السُنَّةِ وَالكِتَابِ فِي الحَلَالِ وَالحَرَامِ:

- ‌تَفَاوُتُ عِلْمِ الصَّحَابَةِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ:

- ‌نَشْأَةُ المَذَاهِبِ وَاحْتِجَاجُ أَصْحَابِهَا بِالحَدِيثِ:

- ‌الاِحْتِجَاجُ بِخَبَرِ الآحَادِ وَشُرُوطِهِ:

- ‌الاِحْتِجَاجُ بِالخَبَرِ المُحْتَفِّ بِالقَرَائِنِ، وَاِسْتِبْعَادِ الضَّعِيفِ:

- ‌الفَصْلُ الثَّالِثُ: أَثَرُ الحَدِيثِ فِي عُلُومِ الأَدَبِ:

- ‌نَشْأَةُ العُلُومِ الإِسْلَامِيَّةِ فِي ظِلِّ الحَدِيثِ:

- ‌تَأْثِيرُ الحَدِيثِ فِي أُصُولِ النَّحْوِ:

- ‌تَبْكِيرُ القَوْمِ بِالرِّوَايَةِ المَصْحُوبَةِ بِالإِسْنَادِ:

- ‌عُلُومُ الأَدَبِ وَتَأَثُّرِهَا بِأَسَانِيدِ المُحَدِّثِينَ:

- ‌الفَصْلُ الرَّابِعُ: الاِحْتِجَاجُ بِالحَدِيثِ فِي اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ:

- ‌تَحَرُّجُ الأَئِمَّةِ مِنْ رِوَايَةِ الحَدِيثِ:

- ‌الاِحْتِجَاجُ بِالحَدِيثِ فِي اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ:

- ‌لِمَاذَا مَنَعُوا الاِحْتِجَاجَ بِالحَدِيثِ

- ‌البَابُ الخَامِسُ: طَبَقَاتُ الرُّوَاةِ:

- ‌الفَصْلُ الأَوَّلُ: ابْنُ سَعْدٍ وَمَنْهَجُ التَّصْنِيفِ فِي " الطَّبَقَاتِ

- ‌تَمْهِيدٌ:

- ‌ابْنُ سَعْدٍ، حَيَاتُهُ وَأَخْبَارُهُ:

- ‌مَصَادِرُهُ الأَسَاسِيَّةُ:

- ‌كَلِمَةٌ فِي شَيْخِهِ الوَاقِدِي:

- ‌بَيْنَ الشَّيْخِ وَالتِّلْمِيذِ:

- ‌أَهَمُّ مُحْتَوَيَاتِ الكِتَابِ:

- ‌مَنْهَجُهُ فِي " الطَّبَقَاتِ

- ‌عِنَايَتُهُ بِالأَنْسَابِ:

- ‌رَاوِيَةٌ عَلَى طَرِيقَةِ المُحَدِّثِينَ:

- ‌الفَصْلُ الثَّانِي: طَبَقَاتُ الرُوَّاةِ:

- ‌طَبَقَاتُ الرُوَّاةِ وَتَقْسِيمُهَا الاِصْطِلَاحِي:

- ‌طَبَقَاتُ الرُوَّاةِ عَلَى تَقْسِيمِ ابْنِ حَجَرْ:

- ‌ طبقة الصحابة

- ‌طَبَقَةُ التَّابِعِينَ:

- ‌طَبَقَةُ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ:

- ‌الفَصْلُ الثَّالِثُ: مِنْ تَرَاجِمِ الصَّحَابَةِ:

- ‌أَوَّلاً - السَّبْعَةُ المُكْثِرُونَ:

- ‌1 - أبو هريرة:

- ‌2 - عبد الله بن عمر:

- ‌3 - أنس بن مالك:

- ‌4 - السيدة عائشة أم المؤمنين:

- ‌5 - عبد الله بن عباس:

- ‌6 - جابر بن عبد الله:

- ‌7 - أبو سعيد الخُدري:

- ‌ثَانِيًا - بَعْضُ مَشَاهِيرِ الصَّحَابَةِ:

- ‌8 - عبد الله بن مسعود:

- ‌9 - عبد الله بن عمرو بن العاص:

- ‌10 - أبو ذر الغفاري:

- ‌11 - سعد بن أبي وقاص:

- ‌12 - معاذ بن جبل:

- ‌13 - أبو الدرداء:

- ‌الفَصْلُ الرَّابِعُ: تَرَاجِمُ بَعْضِ كِبَارِ التَّابِعِينَ:

- ‌1 - سعيد بن المسيب:

- ‌2 - نافع مولى ابن عمر:

- ‌3 - محمد بن سيرين:

- ‌4 - ابن شهاب الزهري:

- ‌5 - سعيد بن جبير:

- ‌6 - الإمام أبو حنيفة:

- ‌الفَصْلُ الخَامِسُ: تَرَاجِمُ بَعْضِ أَتْبَاعِ التاَّبِعِينَ:

- ‌1 - الإمام مالك بن أنس:

- ‌2 - الإمام الشافعي:

- ‌3 - سفيان الثوري:

- ‌4 - سفيان بن عيينة:

- ‌5 - الليث بن سعد:

- ‌الفَصْلُ السَّادِسُ: تَرَاجِمُ بَعْضِ أَتْبَاعِ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ:

- ‌1 - الإمام أحمد بن حنبل:

- ‌2 - الإمام البخاري:

- ‌3 - الإمام مسلم:

- ‌4 - الإمام الترمذي:

- ‌جَرِيدَةُ المَرَاجِعِ:

- ‌مَسْرَدُ‌‌ الأعَلَامِ:

- ‌ ا

- ‌ ب

- ‌ت

- ‌ ح

- ‌ج

- ‌ ث

- ‌د

- ‌ خ

- ‌ر

- ‌ ذ

- ‌ز

- ‌(س

- ‌ش):

- ‌ ص

- ‌ ع

- ‌ ض

- ‌ ط

- ‌ف

- ‌ غ

- ‌ك

- ‌ل

- ‌م

- ‌ق):

- ‌ن

- ‌و

- ‌ه

- ‌ي:

الفصل: ‌مقاومة المتساهلين بالحديث:

حتى ضَجَّ منها العلماء المخلصون بالأمصار، وراحوا يقاومونها بكل ما أُوتُوا مِنْ قُوَّةٍ.

‌مُقَاوَمَةُ المُتَسَاهِلِينَ بِالحَدِيثِ:

من هؤلاء العلماء أبو بكر أحمد المعروف بالخطيب البغدادي (- 463 هـ) فقد أشار إلى هذه الحال المخزية التي وصل إليها الذين يُسَمُّونَ أنفسهم في عهده رُواة الحديث بُهتاناً وزُوراً، فقال في كتابه " الكفاية في علم الرواية " في المقدمة: «

وَقَدِ اسْتَفْرَغَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ زَمَانِنَا وُسْعَهَا فِي كَتْبِ الأَحَادِيثِ وَالمُثَابَرَةِ عَلَى جَمْعِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْلُكُوا مَسْلَكَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَيَنْظُرُوا نَظَرَ السَّلَفِ الْمَاضِينَ فِي حَالِ الرَّاوِي وَالْمَرْوِيِّ، وَتَمْيِيزِ سَبِيلِ الْمَرْذُولِ وَالرَّضِيِّ، وَاسْتِنْبَاطِ مَا فِي السُّنَنِ مِنْ الأَحْكَامِ، وَإِثَارَةِ الْمُسْتَوْدَعِ فِيهَا مِنَ الْفِقْهِ بِالْحَلالِ وَالْحَرَامِ، بَلْ قَنَعُوا مِنَ الْحَدِيثِ بِاسْمِهِ، وَاقْتَصَرُوا عَلَى كَتْبِهِ فِي الصُّحُفِ وَرَسْمِهِ، فَهُمْ أَغْمَارٌ، وَحَمَلَةُ أَسْفَارٍ، قَدْ تَحَمَّلُوا الْمَشَاقَّ الشَّدِيدَةَ، وَسَافَرُوا إِلَى الْبِلْدَانِ الْبَعِيدَةِ، وَهَانَ عَلَيْهِمُ الدَّأَبُ وَالكَلَالُ، وَاسْتَوطَئُوا مَرَاكِبَ الْحِلِّ وَالاِرْتِحَالِ، وَبَذَلُوا الأَنْفُسَ وَالأَمْوَالَ، وَرَكِبُوا الْمَخَاوِفَ وَالأَهْوَالَ، شُعْثَ الرُّؤُوسِ، شُحْبَ الأَلْوَانِ، خُمْصَ الْبُطُونِ، نَوَاحِلُ الأَبْدَانِ، يَقْطَعُونَ أَوْقَاتَهُمْ بِالسَّيْرِ فِي الْبِلَادِ لِمَا عَلَا مِنَ الإِسْنَادِ، لَا يُرِيدُونَ شَيْئًا سِوَاهُ وَلَا يَبْتَغُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ، يَحْمِلُونَ عَمَّنْ لَا تَثْبُتُ عَدَالَتُهُ، وَيَسْمَعُونَ مِمَّنْ لَا تَجُوزُ أَمَانَتُهُ، وَيَرْوُونَ عَمَّنْ لَا يَعْرِفُونَ صِحَّةَ حَدِيثِهِ، وَلَا يَتَيَقَّنُ ثُبُوتُ مَسْمُوعِهِ، وَيَحْتَجُّونَ بِمَنْ لَا يُحْسِنُ قِرَاءَةَ صَحِيفَتِهِ، وَلَا يَقُومُ بِشَيْءٍ مِنْ شَرَائِطِ الرِّوَايَةِ، وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ السَّمَاعِ

ص: 67

وَالإِجَازَةِ، وَلَا [يُمَيِّزُ] بَيْنَ المُسْنَدِ وَالمُرْسَلِ وَالمَقْطُوعِ وَالمُتَّصِلِ، وَلَا يَحْفَظُ اسْمَ شَيْخِهِ الَّذِي حَدَّثَهُ حَتَّى يَسْتَثْبِتَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَيَكْتُبُونَ عَنِ الْفَاسِقِ فِي فِعْلِهِ، الْمَذْمُومِ فِي مَذْهَبِهِ، وَعَنِ الْمُبْتَدِعِ فِي دِينِهِ، الْمَقْطُوعُ عَلَى فَسَادِ اعْتِقَادِهِ، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ جَائِزًا، وَالْعَمَلُ بِرِوَايَتِهِ وَاجِبًا، إِذَا كَانَ السَّمَاعُ ثَابِتًا، وَالإِسْنَادُ مُتَقَدِّمًا عَالِيًا

» إلخ (1).

ولم يكن التظاهر بالورع مُجدياً، ولا الإكثار من التعبد شافعاً لرواة الغرائب والمناكير، فإنَّ لنقاد الحديث حَدْساً داخلياً يشبه الإلهام كان يبعثهم على الحيطة في روايات هؤلاء المغْربين والاحتراس في قبولها، وقد يبلغ بهم الحذر أشُدَّهُ فيفرُّون منها ويرفضون تحمُّلها وأداءها: لم يردوارواية معلَّى بن هلال لفسقه أو قلَّة ضبطه، فهو الزاهد العابد المشهور بالصلاح، الذي كان يُصَلِّي في يومه مائة ركعة، وإنما رَدُّوها لإكثاره من رواية غريب الحديث (2). ولقد أمسى هؤلاء النُقَّادُ يستحبُّون رواية المشاهير، و «كَانُوا يَكْرَهُونَ - إِذَا اجْتَمَعُوا - أَنْ يُخْرِجَ الرَّجُلُ أَحْسَنَ حَدِيثِهِ أَوْ أَحْسَنَ مَا عِنْدَهُ» (3) وما كان «الأحسن» عندهم إلَاّ «الغريب» لأنَّ الغريب غير المألوف يستحسن أكثر من المشهورالمعروف (4)، ولا سيما في نظر العوامِّ الذين يكبر في عيونهم عادة ما يجهلون.

(1)" الكفاية ": ص 3 و 4.

(2)

" الجامع لأخلاق الراوي ": 7/ 127 وجه أول. وعبارة الخطيب: «مَا أَفْسَدَهُ عِنْدَ النَّاسِ إِلَاّ رِوَايَةُ غَرِيبِ الْحَدِيثِ» .

(3)

" الجامع ": 7/ 127 وجه 2.

(4)

" الجامع ": 7/ 127 وجه 2 أَيْضًا.

ص: 68

قيل لشُعبة بن الحجاج: ما لك لا تروي عن عبد الملك بن أبي سليمان وهو حسن الحديث؟ فقال: «مِنْ حُسْنِهَا فَرَرْتُ» ! (1).

والفرار من التحديث بالغريب كان أصدق تعبير عن تخوف العلماء من التدليس الذي يقع فيه رُواة الغرائب والمناكير ساهين أو مُتَعَمِّدِينَ، فإنَّ أمثال هؤلاء الرواة أكثر تعرضاً لضروب التدليس من سائر المُحَدِّثِينَ: إذ يركبون الأهوال في طلب الحديث ملتمسين غرابته قبل صحته، باحثين عن ندرته قبل اتصال سنده، ليباهوا به الخاصة ويتعالوا به على العامة، من أجل ذلك استخفَّ النقاد بهم ولم يقيموا لهم وزناً، وطعنوا في عدالتهم وَرَمَوْهُمْ بالكذب مصداقاً لقول الإمام أبي حنيفة:«مَنْ طَلَبَ غَرِيبَ الحَدِيثِ كُذِّبَ» (2).

وتجريح النُقَّاد للمدلس في الحديث طلباً للغرائب وحرصاً عليها يبدو أمراً طبيعياً، فما أسرع الفضيحة إلى المدلس يكشف بها الستر عن نفسه (3)! حتى إذا افتضح وعُرِفَ عنه الكذب كان من عقوبته أنْ يردَّ عليه صدقه ولا تذكر محاسنه (4)، ولا يقبل حديثه بعد ذلك أبداً (5).

والمدلِّسون في الحديث تباهياً ورئاء الناس كانوا أَحْيَانًا من أوقح من رأتْ

(1)" الجامع ": 7/ 127 وجه 2.

(2)

" الجامع ": 8/ 146 وجه 1.

(3)

كما قال سُفيان الثوري (- 161 هـ): «مَنْ كَذَبَ فِي الحَدِيثِ افْتَضَحَ» . " الكفاية ": ص 117.

(4)

وقد رَوَوْا عن عبد الله بن المبارك (- 181 هـ) أنه قال: «مِنْ عُقُوبَةِ الكَذَّابِ أَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِ صِدْقُهُ» ، ورأى غيره أنَّ «مِنْ عُقُوبَةِ الفَاسِقِ المُبْتَدِعِ ألَاّ تُذْكَرَ لَهُ مَحَاسِنَهُ». انظر:" الكفاية ": ص 117.

(5)

" الكفاية ": ص 118.

ص: 69

عين أو سمعتْ أذن،، فيحدث أحدهم عن رجل يدَّعي سماعه وهو لم يدركه، ويختلف أسماء أشخاص وأماكن لا يعرف عنها شيئاً، أو يعظَّم المروي عنه بصفات حسان ينسجها له بخياله الحصيب، أو ينسب إليه أعمالاً صالحات ليس لها أصل صحيح، حَدَّثَ عُفَيْرُ بْنُ مَعْدَانَ الْكَلَاعِيُّ ، قَالَ:«قَدِمَ عَلَيْنَا عُمَرُ بْنُ مُوسَى حِمْصَ فَاجْتَمَعْنَا إِلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ ، فَجَعَلَ يَقُولُ: حَدَّثَنَا شَيْخُكُمُ الصَّالِحُ ، حَدَّثَنَا شَيْخُكُمُ الصَّالِحُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ ، قُلْتُ لَهُ: مَنْ شَيْخُنَا هَذَا الصَّالِحُ؟ سَمِّهِ لَنَا نَعْرِفُهُ ، (قَالَ): فَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ ، قُلْتُ لَهُ: فِي أَيِّ سَنَةٍ لَقِيتَهُ؟ قَالَ: لَقِيتُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَمِائَةٍ ، قُلْتُ: فَأَيْنَ لَقِيتَهُ؟ قَالَ: لَقِيتُهُ فِي غَزَاةِ أَرْمِينِيَّةَ ، (قَالَ): فَقُلْتُ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ يَا شَيْخُ، وَلَا تَكْذِبْ، مَاتَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ، وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ لَقِيتَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ، وَأَزِيدُكَ أُخْرَى إَنَّهُ لَمْ يَغْزُ أَرْمِينِيَّةَ قَطُّ، كَانَ يَغْزُو الرُّومَ» (1).

وواضح من هذه القصة أنَّ جهل الرُواة بتاريخ وفاة المروي عنه كان دليلاً قاطعاً على وقوع الكذب والتدليس (2). ولذلك اشترط نُقَّادُ الحديث معرفة

(1)" الكفاية ": ص 119.

(2)

ولا يستغرب هذا الكذب ولا الجهل الذي كان سبباً فيه وعِلَّةُ له. حين وصف بهما رجل مغمور كعمر بن موسى لا يعرف عن ترجمته إلَاّ الشيء اليسير. ولكن العجب العجاب من عالم مشهور كالسمعاني (عبد الكريم، المُتَوَفَّى سَنَةَ 563، صاحب كتاب " الأنساب ") إذا صَحَّ ما يرميه به أبو الفرج بن الجوزي من الكذب الصراح والتدليس الأقبح: يوم أمسك بيد شيخ له في بغداد، ثم عَبَرَ معه إلى الضفة الأخرى من نهر عيسى، ثم راح يُحَدِّثُ عنه قائلاً:«سمعتُ من الشيخ فلان فيما وراء النهر كذا وكذا» ، يوهم بذلك أنه سمع منه في الموضع المسمَّى «ما وراء النهر» .

وحين وجد جولدتسيهر هذه القصة تُحْكَى في (" الكامل " لابن الأثير: 11/ 125) تَشَبَّثَ بها وغدا يُضَخِّمُهَا كدأب المستشرقين ليتَّخذها ذريعة إلى التشكيك بأمانتنا العلمية في رواية =

ص: 70

الرجال وتاريخهم وطبقاتهم والعناية بمواليدهم ووفياتهم، وقال سُفيان الثوري (- 61 هـ) موضِّحاً سبب الاشتغال بهذا كله:«لَمَّا اسْتَعْمَلَ الرُّوَاةُ الْكَذِبَ اسْتَعْمَلْنَا لَهُمُ التَّارِيخَ» (1)، بل استعمل نُقَّادُ الحديث التحديد الجغرافي أَيْضًا لفضح الكذَّابين وكشف أساليبهم في الوضع أو التدليس، فلا يذكر ثقاتهم إسناداً فيه رجال رحلوا وأكثروا الترحل وطوفوا بالأقاليم إلَاّ قيدوا أسماء هؤلاء الرجال باسم البلد الذي حدَّثُوا فيه (2).

ومهما يكن من الرحلة في الحديث متاجرة به وتكسُّباً، أو طلباً للشهرة وافتخاراً، فإنَّ الورعين الذين كانوا يحدِّثُون احتسابا لوجه الله هم الذين ملأوا الأرض علماً بِسُنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كانوا في كل زمان ومكان أكثر من أنْ يخفوا، وأجل آثاراً من أنْ يهملوا، وأقوى نفوساً من أنْ يسدل عليهم التاريخ ستار النسيان. وحسبنا - للاستدلال على دقة المُحَدِّثِينَ في قبول الروايات - أنهم صَرَّحُوا «بِأَنَّ الْكَاذِبَ فِي غَيْرِ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

= الحديث. غير أنه ما لبث أنْ نكص على عقبيه لما رأى ابن الأثير في السياق نفسه يَرُدُّ فرية ابن الجوزي عن السمعاني ويرى أنَّ صاحب " الأنساب " أسمى من أنْ يكذب. وأنه رحل حقاً إلى «ما وراء النهر» ، وأنَّ له في ذلك الموضع شيوخا معروفين. وإنما رماه ابن الجوزي بذلك لاختلافهما في المذهب، فالسمعاني كان شافعياً، وابن الجوزي كان حنبلياً. وقارن بـ Goldziher، Etudes sur la Tradition Islamique، p. 229 - 230. ومن المعروف أنَّ ابن الجوزي كان يتسرَّعُ في الحُكم بالوضع حتى قيل:«لَا عِبْرَةَ بِمَوْضُوعَاتِهِ» .

(1)

" الكفاية ": ص 119.

(2)

من الأمثلة على هذا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الِعيَاضِيِّ، وَالحَسَنُ بْنِ حَفْصٍ الْنَّهْرَوَانِيُّ بِسَمَرْقَنْدَ (" تاريخ بغداد " 13/ 436). أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْهَرَوِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحَرِيرِيُّ ، بِبَغْدَادَ (" الكفاية ": ص 123). أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَحْبُوبِيُّ بِمَرْوَ (" الجامع ": 8/ 157 وجه 2) وسمع الإمام البخاري ببغداد من طائفة منهم أحمد بن حنبل (" شذرات الذهب " 2/ 57 - 60) وسمع بمكة من الحميدي (" طبقات الشافعية ": ص 5). ولذلك كان المحدثون يمتحنون الراوي بالسؤال عن الموضع الذي سمع فيه (" الجامع ": 1/ 17 وجه 1 و 2).

ص: 71

تُرَدُّ رِوَايَتُهُ» (1)، وأنَّ «السَّفَهَ يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ وَيُوجِبُ رَدَّ الرِّوَايَةِ» (2). فكل من يجري على لسانه شيء من الكلام البذيء أو العبارات المبتذلة ينفر منه المحدثون ويتركون الرواية عنه. رَوَوْا عن الإمام البخاري أنه رَدَّ حديث النضر بن مطرف، لأنَّ يحيى بن سعيد القطان (- 113 هـ) ترك الرواية عنه. أما يحيى فقد بيَّن سبب إهماله حديث النضر بقوله: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إِنْ لَمْ أُحَدِّثْكُمْ فَأُمِّي زَانِيَةٌ» (*)، قَالَ يَحْيَى:«تَرَكْتُ حَدِيثَهُ لِهَذَا» (3).

ويشبه هذا ما رَوَوْا عن شعبة بن الحجاج أنه قال: «لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَرَى رَجُلاً يَقْدَمُ مِنْ مَكَّةَ فَأَسْأَلُهُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، حَتَّى قَدِمْتُ مَكَّةَ فَسَمِعْتُ مِنْهُ ، فَبَيْنَا أَنَا عِنْدَهُ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَافْتَرَى عَلَيْهِ ، فَقُلْتُ: تَفْتَرِي عَلَى رَجُلٍ مُسْلِمٍ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ غَاظَنِي ، (قَالَ): قُلْتُ: يَغِيظُكَ فَتَفْتَرِي عَلَيْهِ؟! فَآلَيْتُ أَلَاّ أُحَدِّثَ عَنْهُ» . فَكَانَ شُعْبَةُ يَقُولُ: «فِي صَدْرِي عَنْهُ أَرْبَعُمِائَةٍ ، لَا وَاللَّهِ لَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْهُ بِشَيْءٍ أَبَدًا» (4).

فالافتراء على إنسان ولو غاظ الراوي سفه يسقط العدالة، لأنَّ هؤلاء الرُواة كانوا يتميَّزون بمكارم الأخلاق، ولهم آداب خاصة ومناهج في التربية والتعليم ينفردون بها من بين سائر العلماء من قُدَامَى وَمُحْدَثِينَ، في الشرق والغرب (5).

(1)" الكفاية ": ص 117.

(2)

" الكفاية ": ص 115.

(3)

" الكفاية ": ص 115.

(4)

" الكفاية ": ص 115.

(5)

ولعل خير كتاب يعالج مناهج المُحَدِّثِينَ في التربية والتعليم هو " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع " للخطيب البغدادي المُتَوَفَّى سَنَةَ 463 هـ. وهو في مكتبة البلدية بالإسكندرية (برقم 711. 3 مج) مخطوط يقع في عشرة أجزاء صغيرة. وقد تفضَّل الزميل الدكتور يوسف العش بإعارتنا نسخته المُصَوَّرة عن هذا الكتاب، فله جزيل الشكر وجزاه الله خيراً. والقارئ الكريم لاحظ بلا ريب أننا أكثرنا الاستشهاد من هذا المخطوط القيِّم الذي ضبطنا عبارته وحققناه وسننشره إنْ شاء الله.

ص: 72