الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الأَوَّلُ: مَكَانَةُ الحَدِيثِ فِي التَّشْرِيعِ:
إِشَادَةُ القُرْآنِ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ وَالْتِزَامِ سُنَّتِهِ:
انتهى العلماء المحققون إلى أن الحديث الصحيح حجة على جميع الأمة، وأيدوا رأيهم هذا بالَايات القرآنية التي تفرض على المؤمنين اتباع الرسول، والتسليم لحكمه، ورأوا من يحكي خلاف هذا المذهب غير خليق بالانتساب إلى العلم وأهله، وإن نسب نفسه أو نسبته العامة إلى سعة المعرفة والتفقه في الدين (1).
وكان طَبِيعِيًّا أن ينتهي التحقيق العلمي الدقيق إلى هذا الحكم السديد، لأن الآيات التي فرضت على المؤمنين طاعة النبي- صلى الله عليه وسلم صريحة لا تحتمل التأويل، وإنما تكون طاعته بالتزام سنته، والعمل بحديثه، والأخذ بمضمونه الصحيح في مسائل الدين، واعتباره الأصل الثاني من أصول التشريع بعد القرآن المجيد.
ومع أن تقرير هذا الأمر على هذه الصورة الواضحة يبدو بديهيًا،
(1) قارن بـ " قواعد التحديث ": ص 263.
نؤثر أن نجلو بعض الجوانب الشائكة التي تَحُفُّ بِحُجِّيَّةِ الحديث. فهل النصوص القرآنية الحَاثَّةِ على طاعة النبي تُقِرُّ لحديثه بالاستقلال في التشريع، فيؤخذ بما فيه من الأحكام كما يؤخذ بما في الكتاب، أم لا تقر له بالاستقلال التشريعي، كما هو إلا بيان للقرآن، وراجع إليه؟
وإن يكن الحديث مُبَيِّنًا للقرآن أو مُفَصِّلاً لإجماله، فكيف يعد مع الكتاب أصلاً من أصول التشريع مع أن أحكام الدين إنما تستقى من أحدهما فقط وهو كتاب الله المجيد؟ وحين يؤخذ بالحديث أصلاً تشريعيًا أو على غير استقلال، هل يقبل فيه خبر الآحاد، أم لا بد لتصحيحه من التقوية والتعزيز؟
وإن الإجابة الدقيقة عن هذه الأسئلة لتفرض علينا في البداية سرد أهم النصوص القرآنية الدالة على وجوب العمل بالسنة النبوية، مشفوعة بتطبيقها العملي في واقع السيرة المطهرة، ومقرونة بفهم الرعيل الأول من الصحابة لمدلولها المتبادر من غير تكلف ولا اعتساف.
يرى عبد الرحمن بن يزيد رجلاً مُحْرِمًا في موسم الحج قد ارتدى ثوبًا مخيطًا، فرشده إلى نزع ثيابه والأخذ بسنة النبي عليه السلام في لباس الإحرام، فيقول الرجل لعبد الرحمن:«اِئْتِنِي بِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَنْزِعُ ثِيَابِي» ، فلا يرى عبد الرحمن خيرًا من أن يقرأ عليه قول الله:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1). فَنَزْعُ الثوب المخيط لم يرد صريحًا في كتاب الله، وإنما ورد في الحديث فقط.
وهكذا انفردت السُنَّةُ بهذا الحكم الشرعي، وكانت أصلاً مستقلاً من أصول التشريع، لأن الله أمر المؤمنين بالانتهاء عما نهى عنه نبي
(1)[سورة الحشر، الآية: 7]. وقارن بـ " جامع بيان العلم " لابن عبد البر: 2/ 188.
الهدى عليه السلام.
ويصلي الإمام الكبير طاووس (1) بعد العصر ركعتين، فيقول له الصحابي الجليل ابن عباس: اتركهما، فيجيبه طاووس بأن الرسول عليه السلام إنما نهى عنهما مخافة أَنْ تُتَّخَذَا سُنَّةً، ولا ضير في هاتين الركعتين إن صُلِّيَّتَا بغير نية الاستمرار، ولكن ابن عباس يُصِرُّ على نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة مطلقًا بعد العصر، ويؤكد لطاووس أن ليس له الخيار، فما جاء به رسول الله، مستندًا إلى الآية الكريمة: " {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (2)[الأحزاب: 36].
ولئن تكن للمؤمن خِيَرَة فيما مضت به سنة الرسول، فما عليه إلا أَنْ يُحَكِّمَ هذه السنة في كل خلاف يَشْجُرُ، وفي كل دعوى ترفع، مع التسليم التام لكل ما تصدره من أحكام، مصداقًا لقوله تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3). وجملة الروايات الواردة في سبب نزول هذه الآية تتلخص في أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى للزبير بن العوام بالشرب من شِرَاجِ الحَرَّةِ قبل رجل شهد بدرًا من الأنصار (4). ولا ريب أن حديث النبي هنا قد انفرد بالتشريع في هذه
(1) هو طاووس بن كيسان الخولاني الهمداني بالولاء. كان من أكابر التابعين، ومن أشهر رواة الحديث المتفقهين فيه. توفي حَاجًّا بالمزدلفة سنة 106 هـ (" تهذيب التهذيب ": 5/ 28).
(2)
" الموافقات ": 4/ 25.
(3)
[سورة النساء، الآية: 65].
(4)
انظر تفصيل هذه الرواية - مع تخريج الأسانيد والمفاضلة بينها، في " تفسير ابن كثير: 1/ 520. ومغزى تفسير الآية - على جميع الآراء - أن الأنصاري الذي اعترض على سقي الزبير قبله كان جديرًا به قبول الحكم النبوي دون أن يجد في نفسه منه حرجًا.