الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إمام، واستفتاهم المستفتون، ودارت بينهم المسائل، ورفعت إليهم الأقضية والأحكام (1).
نَشْأَةُ المَذَاهِبِ وَاحْتِجَاجُ أَصْحَابِهَا بِالحَدِيثِ:
وسمع أتباع التابعين فتاوى المفتين، وسألوا عن قضاياهم ومسائلهم في الأمصار، ولم يألوا جُهْدًا في الاجتهاد والاستنباط، وفي القضاء والفتوى، ثم كانت المذاهب، وكثر أتباعها، واستند كل - تأييدًا لرأيه - إلى السُنَّةِ يستنطقها الحكم الصحيح في إيضاح المشكلات، والفصل في النازعات، وَصَرَّحَ أصحاب تلك المذاهب كلها بتعيين العمل بالسنة، ووجوب الاحتجاج بها، وأمسوا - عند اختلاف أحاديث الرسول في مسألة ما - يرجعون إلى أقوال الصحابة لأنهم أقرب إلى نبع الإسلام الأصيل، وأقرب الناس عَهْدًا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
على ان أصحاب المذاهب المشهورة - مهما يزعم الباحثون من تفاوتهم في حفظ الحديث والعلم به - قد أجمعوا كلهم على أن الحديث إذا صح يقدم على القياس والنظر، فما فيهم إمام إلا قال:«إذَا صَحَّ الحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي» أو عبارة تشبه هذه. حتى أبو حنيفة الذي «أَفْرَطَ أَصْحَابُ الحَدِيثِ فِي ذَمِّهِ، وَتَجَاوَزُوا الحَدَّ فِي ذَلِكَ» (2)، لم يوجه وجهه إلا للعمل بالسنة متى ظفر بها وصحت لديه. وقد فسر الشعراني وجهة نظر أبي حنيفة أدق التفسير حين قال: «وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الذِي أَضَافَ إِلَى الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقَدِّمُ القِيَاسَ عَلَى النَصِّ، ظَفَرَ بِذَلِكَ فِي كَلَامِ
(1)" حجة الله البالغة ": ص 114 بشيء من التصرف.
(2)
هذه عبارة ابن عبد البر في " جامع بيان العلم ": 2/ 148.
مُقَلِّدِيهِ الذِينَ يُلْزِمُونَ العَمَلَ بِمَا وَجَدُوهُ عَنْ إِمَامِهِمْ مِنَ القِيَاسِ، وَيَتْرُكُونَ الحَدِيثَ الذِي صَحَّ بَعْدَ مَوْتِ الإِمَامِ، فَالإِمَامُ مَعْذُورٌ، وَأَتْبَاعُهُ غَيْرَ مَعْذُورِينَ، وَقَوْلُهُمْ:(إِنَّ إِمَامَنَا لَمْ يَأْخُذْ بِهَذَا الحَدِيثِ) لَا يَنْهَضُ حُجَّةً، لاِحْتِمَالِ أَنَّهُ لَمْ يَظْفَرْ بِهِ أَوْ ظَفَرَ بِهِ لَكِنْ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ» (1).
وربما عذرنا أبا حنيفة في إدخاله الرأي والقياس على الآثار واعتبارهما وَرَدِّهِ كَثِيرًا من أخبار الآحاد، إذا عرفنا أن الكذب على سول الله فشا في عهده فُشُوًّا مُخِيفًا، فكان لزامًا على إمام الرأي أن يتشدد في قبول الأحاديث، ويشترط للعمل بأخبار الآحاد شروطًا غَلَا في بعضها، فحمل الأئمة على انتقاد بعض [مواقفه]، وعلى ذم مذهبه أحيانًا.
وأهم شروطه في هذا الباب ألا يعارض خبرُ الآحاد الأصول المجتمعة بعد استقراء موارد الشرع، وألا يعارض عمومات القرآن وألا يخالف السُنَّةَ المَشْهُورَةَ، سواء أكانت قولية أم فعلية، وألا يخالف العمل المتوارث بين الصحابة والتابعين دون تخصيص بلد، وألا يعول الراوي على خطه ما لم يذكر مرويه، وألا يعمل الراوي بخلاف حديثه، وألا يترك أحد المختلفين في الحكم من الصحابة الاحتجاج بالخبر الذي رواه أحدهم، وألا يكون الخبر منفردًا بزيادة، سواء أكانت في المتن أم في السند، وألا يكون مما تعم به البلوى (2).
أما الشافعي فإجلاله للحديث أشهر من أَنْ يُعّرَّفُ بِهِ، فهو القائل:«وَهَلْ لأَحَدٍ مَعَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم -حُجَّةٌ؟ بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي» (3).
(1)" الميزان " للشعراني: ص 71.
(2)
قارن بـ " أصول السرخسي ": 1/ 364.
(3)
" الميزان " للشعراني: ص 65.