الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَنَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَتَدَعُنَا وَتُقْبِلُ عَلَى الأَشْعَارِ! " لَكِنَّ شُعْبَةَ يُجِيبُهُمْ فِي غَضَبٍ شَدِيدٍ: " يَا هَؤُلَاءِ، أَنَا أَعْلَمُ الأَصْلَحَ لِي، أَنَا، وَالذِي لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ، فِي هَذَا أَسْلَمُ مِنِّي فِي ذَاكَ "» (1).
وإنما كان الرواة في إقبالهم على الأشعار أسلم منهم في انكبابهم علي الأحاديث، لأنهم - عند رواية السُنَّةِ - تغلب عليهم صفة «التحديث» التي تستدعي التحقيق والتدقيق، فيعنون بألفاظ المتون (2) عنايتهم بسلسلة الأسانيد، وهم في رواية الأشعار أيضًا يفضلون الدقة البالغة والحذر الشديد، ويتأثرون من غير أن يشعروا بصفة «التحديث» إلا أنهم لا يستسلمون أمامها استسلامًا مطلقًا، فإن لهم في الأعاريض لمندوحة عن الكذب، كما قال الصحابي عمران بن حصين عندما قدم البصرة وأكثر فيها من رواية الأشعار بدلاً من الأحاديث، مع أنه كان يقسم: إنه لو شاء لحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومين متتابعين (3)!.
الاِحْتِجَاجُ بِالحَدِيثِ فِي اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ:
أفلا تعجب - بعد هذا كله - كيف احتج معظم النحاة المتقدمين برواية الأشعار، ورفضوا الاحتجاج بالحديث؟ ألا تأخذك الدهشة وأنت تراهم يقبلون على الروافد الصغيرة ويتركون النبع مهجورًا؟.
لا نقول: إن رواة الأخبار الأولين كانوا كذابين أو وضاعين، بل لا نقول: إنهم جميعًا في رواية الأشعار كانوا متساهلين، وما نظن
(1) قارن " الطبقات الكبرى ": 7 / ق 2 - 38 بـ " نزهة الألباء ": ص 89، 90.
(2)
راجع ما أوضحناه عن رواية الحديث باللفظ ص 80 وما بعدها.
(3)
" الطبقات الكبرى ": 4 / ق 2 - 26.
إلا أنهم حاولوا ما وسعهم الأمر أن يكونوا في كل ما يَرْوُونَ صادقين حذرين محتاطين، ولكن حزم أهل الحديث لم يكن يدركهم إِذَا أَرْسَلُوا مُسْنَدًا، أَوْ أَسْنَدُوا مُرْسَلاً، أو قطعوا موصولاً، أو وصلوا مقطوعًا، أو أدخلوا رواية في رواية، فإن لهم عذرهم على كل حال، وإنما يتمثل هذا العذر في أخذ معظمهم أخبار الأدب وشواهد النحو واللغة من رجال لم يشهدوا العصر الجاهلي، فلا عليهم إذا سقطت بعض حلقات الإسناد، ولا ضير - حين تسقط هذه الحلقات - في سد الفجوات، وملء الفراغات، وتدليس التسوية (1) تعويضًا لشخص بآخر يعاصره، وترميمًا لسلسلة الإسناد حتى تخلو من الانقطاع!.
ولا نقول مع ذلك: كان رواة الأشعار وضاعين، ولا متساهلين، ولا متعمدين للتمويه والتدليس، فقد أَخَذَهُمْ من عدوى أهل الحديث ما أَخَذَهُمْ، وقد كان في تهربهم نفسه من رواية الحديث أوضح دليل على تأثرهم بمصطلحات المحدثين، وخوفهم من عصا المؤدب الذي لا يرحم، ومن شبحه الغالي في الرصانة، المبالي في الحذر، الذى يريد ليكون تلامذته كلهم في كل ما يَرْوُونَ من شؤون الدنيا أو أصول الدين أصدق الناس لهجة، وأصرحهم وجهًا، وأخلصهم حديثًا.
لكنا نعجب مرة أخرى للنحاة الأولين: كيف طَوَّعَتْ لهم أنفسهم أن يهجروا حديث الرسول وهم يحتجون، ويلتمسون الشواهد لما يُبَوِّبُونَ وَيُفَصِّلُونَ، مع أنهم كانوا يعلمون علم اليقين أن شروط المحدثين في المشافهة والإسناد تضمن لهم أصدق الأخبار وأقومها قِيلاً!
(1) ارجع إلى بحث المدلس، واقرأ منه بوجه خاص ما يتعلق بتدليس التسوية: ص 172.