الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وما دامت الأمثلة التي ذكرناها تجعل السُنَّةَ بين أمرين: فهي إما مستقلة في التشريع بما ليس في القرآن، إما مفسرة لمجملات القرآن، فلا مناص من الاعتراف - كما قال الشاطبي - بأن «[أَدِلَّةُ] القُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَكُلَّ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى، فَهُوَ لَاحِقٌ فِي الحُكْمِ بِمَا جَاءَ فِي القُرْآنِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ زَائِدًا عَلَيْهِ» (1).
وإن هذه الزيادة الملحوظة في التفصيلات النبوية هي التي تجعل للحديث، على جميع الأقوال، المرتبة الثانية بعد القرآن، وهي التي تؤكد أن الشرع الإسلامي يتكون من الأصلين مَعًا: القرآن والحديث، مصداقًا لقول النبي الكريم نفسه:«تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ، لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ ، وَسُنَّتِي» (2).
اِسْتِقْلَالُ السُنَّةِ بِالتَّشْرِيعِ وَلَوْ كَانَ أَصْلُهَا فِي الكِتَابِ:
فإن قيل بعد هذا: بل القرآن دَالٌّ على كل ما في الحديث إجمالاً وتفصيلاً، وما سن الرسول سُنَّةً قَطُّ إلا كان في الكتاب أصلها، لأن الله أنزل القرآن {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (3)، وتمم به الدين كله فقال:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (4)، وقال:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (5)، فليس للسنة، بأي صورة، أن تزيد
(1)" الموافقات ": 4/ 14.
(2)
قارن بـ " جامع بيان العلم ": 2/ 180.
(3)
[سورة النحل، الآية: 89].
(4)
[سورة المائدة، الآية: 3].
(5)
[سورة الأنعام، الآية: 38].
في التشريع شيئًا فضلاً على استقلالها بالتشريع، أحلنا أصحاب هذه الشبهة على القرآن نفسه الذي يشيد بطاعة الرسول، ويحذر- من مخالفته، ولا يفرق في ذلك بين ما فَسَّرَهُ النبي من القرآن وما أمر به في سنته أمرًا مستقلاً، فهو الذي يقول بلهجة الإنذار:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} (1)، وبهذه يخصه بشيء يطاع فيه ولايعصى، وهو سنته التي جاء بها ولم تكن من القرآن ولا أتت في القرآن. ويشبه هذا ما أمر الله به المؤمنين من رد النزاع إلى الله ورسوله في قوله:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ} (2) وإنما يكون الرد إلى الله رجرعا إلى الكتاب، ولا يكون الرد إلى الرسول إلا رجوعًا إلى سنته بعد وفاته عليه السلام.
وَلْتَرْجَعْ السُنَّةُ بعد هذا إلى القرآن بمدلولاتها التفصيلية كلها، فان أحدًا من أهل العلم لا يخالف في أن العمل بما جاءت به السنة هو عمل بالقرآن، لأن القرآن هو الذي دل على وجوب العمل بالسنة، ولأن القرآن أعم والحديث أخص ولا بد أن يشتمل الأعم بكلياته على الأخص بجزئياته، وما بين القرآن والحديث من اتفاق في الأصول لا ينفي ما تفرد الحديث بتشريعه أو توضيحه حتى من تلك الأصول، فإنما جعل الله رسوله إمامًا، وسنته قدوة، وهديه النبوي أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا.
(1)[سورة النور، الآية: 63].
(2)
[سورة النساء، الآية: 59].
ولقد تحدث الإمام الشافعي في " رسالته "(1) عما سَنَّهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس فيه نص قرآني، فأداره على أربعة وجوه ترتد كلها إلى الإقرار بوجود زيادة في السنة على ما في الكتاب، وَأَوْشَكَ - وهو يعلل مصدر هذه الزيادة ومدى حجيتها في التشريع - أَنْ يُرَجِّحَ الوجه الثاني الذاهب إلى أن النَّبِيَّ عليه السلام «لَمْ يَسُنَّ سُنَّةً قَطُّ إِلَاّ وَلَهَا أَصْلٌ فِي الكِتَابِ كَمَا كَانَتْ سُنَّتُهُ لِتَبْيِينِ عَدَدَ الصَّلَاةِ، وَعَمَلِهَا عَلَى أَصْلِ جُمْلَةِ فَرْضِ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ ما سَنَّ مِنَ البُيُوعِ وَغَيْرِهَا مِنَ الشَّرَائِعِ، لأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (2) وَقَالَ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (3) فَمَا أَحَلَّ وَحَرَّمَ فَإِنَّمَا بَيَّنَ فِيهِ عَنْ اللهِ كَمَا بَيَّنَ الصَّلَاةَ» (4).
ويخيل إلينا أن المذهب الأخير هو أصوب المذاهب لدى توضيح مكانة الحديث في التشريع، فإنه يوفق بغير تكلف ولاتعسف بين اشتمال القرآن على كل شيء، وتبيانه كل شيء، وأن الله لَمْ يُفَرِّطْ فيه من شيء، وَبَيَّنَ إثبات السنة أحكامًا لم يثبتها القرآن ولم ينفها مع أن أصولها الأولى واردة في القرآن، وإن هذا المذهب المعتدل ليأذن لنا دون تردد، بتسمية الحديث «الأصل الثاني من أصول التشريع في الإسلام» ، ولا علينا بَعْدُ أَنْ يُعَدَّ هذا الأصل عند بعضهم مستقلاً
(1)" الرسالة ":ص 91.
(2)
[سورة البقرة، الآية: 188] و [سورة النساء، الآية: 29].
(3)
[سورة البقرة، الآية: 275].
(4)
قارن هذا بقول الطبري في " التفسير ": 1/ 25: «إِنَّ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ القُرْآنِ، عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، مَا لَا يُوصَلُ إِلَى عِلْمِ تَأْوِيلِهِ، إِلَاّ بِبَيَانِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ تَأْوِيلُ جَمِيعِ مَا فِيهِ، مِنْ وجُوهِ أَمْرِهِ: وَوَاجِبِهِ، وَنَدْبِهِ، وَإِرْشَادِهِ
…
إِلَى آخرِِهِ».
فيما شرعه من أحكام، وعند بعضهم الآخر غَيْرَ ذِي استقلال. وقديمًا قال العلماء وصدقوا:«تَرَكَ الكِتَابُ مَوْضِعًا لِلسُّنَّةِ، وَتَرَكَتِ السُّنَّةُ مَوْضِعًا لِلْقُرْآنِ» (1). ولا غرابة في هذا بعد قول الله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (2).
(1)" الموافقات ": 4/ 16، 17.
(2)
[سورة النساء، الآية: 80].