الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو الذي أفرد في " رسالته " فصلاً برمته لتبيان «الحُجَّةِ فِي تَثْبِيتِ خَبَرَ الوَاحِدِ» (1).
وأما مالك بن أنس فحسبك أنه إمام أهل المدينة، دار السنة المشرفة، وأن كتابه " الموطأ " نمط من الفقه على طريقة أهل الحديث. وقد جاء احتجاجه بالحديث عَمَلِيًّا تَطْبِيقِيًّا، فلن تزيده الأقوال المروية عنه في هذا الصدد إيضاحًا ولا تفصيلاً. وكان مالك - على كل حال - يرى أن خبر الآحاد قطعي يوجب العلم والعمل مَعًا (2).
وأما أحمد بن حنبل فـ " مسنده " العظيم في الحديث ينبئ عن مكانة السُنَّةِ العُظْمَى لديه في التشريع، وما من ريب في أنه من أكبر حفاظ الحديث، بل كان الحديث أغلب عليه من الفقه، «فَإِذَا وَجَدَ النَّصَّ أَفْتَى بِمُوجَبِهِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى مَا خَالَفَهُ وَلَا مَنْ خَالَفَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ» (3).
وإن هذا كله ليؤكد أن كبار الأئمة كانوا يعرفون للحديث مكانته، ويعدونه الأصل الثاني للتشريع، وإنما يختلفون في مدى اطمئنانهم إلى أخبار الآحاد.
الاِحْتِجَاجُ بِخَبَرِ الآحَادِ وَشُرُوطِهِ:
ومن لَمْ يَحْتَجَّ بِخَبَرِ الآحَادِ إلا بشروط - كما صنع أبو حنيفة - كان يلتمس العذر لنفسه فيما ورد من آثار عن الصحابة ربما استؤنس
(1) انظر " الرسالة ": ص 401.
(2)
" الإحكام " للآمدي: 1/ 108.
(3)
" إعلام الموقعين " لابن القيم: 1/ 32، مطبعة النيل، سَنَةَ 1325 هـ.
بها على أن بعضهم لم يكن يعمل بهذا الضرب من الخبر الآحادى: فقد رَدَّ أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة حتى انضم إليه خبر محمد بن مسلمة، وَرَدَّ عمر خبر أبي موسى في الاستئذان حتى انضم إليه أبو سعيد، وَرَدَّ أبو بكر وعمر خبر عثمان في إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رد الحكم بن العاص، وَرَدِّ علي خبر أبي سنان الأشجعي في المفوضة، وكان علي لا يقبل خبر أحد حَتَّى يُحَلِّفَهُ سوى أبي بكر، وردت عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله (1).
والحق أن الصحابة احتجوا بخبر الآحاد، وعملوا بمضمونه، وإنما توقفوا في قبول بعضه دَفْعًا للريبة، أو رغبة في اليقن، أو تَوَاصِيًا بالحيطة البالغة في رواية الحديث. ويفسر هذا قول عمر لأبي موسى:«أَمَا إِنِّي لَمْ أتَّهِمْكَ وَلَكِنَّهُ الحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» !. ويزيل اللَّبْسَ في هذا مرة واحدة علمنا بحقيقة الخبر الآحادى، فليس المراد منه ما رواه واحد فقط، بل ما يقابل المتواتر كما أوضحنا في بحث الصحيح (2)، فانضمام صحابي آخر إلى الصحابي الأول في الروايات المذكورة ليس كافيًا لإخراجها من صفة «الآحادية» ، بل لو انضم إلى الصحابي الأول اثنان أو ثلاثة أو حتى جمع كثير لا يؤمن تواطؤهم على الكذب لم تخرج تلك الأخبار عن حَيِّزِ الآحاد. ولهذا قال الآمدي:«وَمَا رَدُّوهُ مِنَ الأَخْبَارِ أَوْ تَوَقَّفُوا فِيهِ إِنَّمَا كَانَ لأُمُورٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ مِنْ وُجُودِ مُعَارِضٍ أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ، لَا لِعَدَمِ الاِحْتِجَاجِ بِهَا فِي جِنْسِهَا، مَعَ كَوْنِهِمْ مُتَّفِقِينَ عَلَى العَمَلِ بِهَا» (3)، وعلى هذا متى
(1)" الإحكام " للآمدي: 1/ 94.
(2)
ارجع إلى صفحة 150 وقارن بـ " شرح النخبة ": ص 6.
(3)
" الإحكام " للآمدي: 1/ 97. وقارن بـ " إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان " لابن القيم ": ص 160.
صح الخبر صار أصلاً من الأصول. فلم يكن الباحث بحاجة إلى عرضه على أصل آخر، لأن الأصل الثاني إن وافقه عضده وقواه، وإن خالفه لَمْ يَجُزْ رَدُّ أحدهما لأن هذا من قبيل رد الخبر بالقياس، وهو مرفوض بالاتفاق، فان السُنَّةَ مقدمة على القياس (1). «وَلَوْ أَنَّ امْرُءًا قَالَ: لَا نَأْخُذُ إِلَاّ مَا وَجَدْنَا فِي القُرْآنِ لَكَانَ كَافِرًا بِإِجْمَاعِ الأُمَّةِ، وَلَكَانَ لَا يَلْزَمُهُ إِلَاّ رَكْعَةً وَاحِدَةً مَا بَيْنَ دُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ (2)، وَأُخْرَى عِنْدَ الفَجْرِ، لأَنَّ ذَلِكَ هُوَ أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ صَلَاةٍ، وَلَا حَدَّ لِلأَكْثَرِ فِي ذَلِكَ» (3).
لكن صحة العمل بخبر الواحد شيء، والقطع به شيء آخر، فالجمهور على أن خبر الواحد الثقة حجة يلزم به العمل (4)، ويظل هذا النوع من الخبر ظني الدلالة لا يفيد القطع عند أكثرهم (5)، وذهب قوم، منهم الإمام أحمد، والحارث بن أسد المحاسبي، الحسين بن علي الكرابيسي، وأبو سليمان - وروي عن مالك - إلى أنه قطعي موجب للعلم اليقيني (6)، حتى قال ابن حزم:«إِنَّ خَبَرَ الوَاحِدِ العَدْلِ عَنْ مِثْلِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُوجِبُ العِلْمَ وَالعَمَلَ مَعًا» (7). ومن هنا
(1) ذكر نحو هذا ابن السمعاني في كتابه " الاصطلام "، نقله القاسمي في " قواعد التحديث ": ص 77.
(2)
أخذًا من قوله تعالى في سورة الإسراء {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78].
(3)
" ألإحكام في أصول الأحكام " لابن حزم: 2/ 80.
(4)
" شرح مقدمة مسلم "(للنووي): 1/ 63.
(5)
عَلَّلَ النووي في (" التقريب ": ص 41) عدم قطعية الآحادي ولو كان صحيحًا بقوله: «لِجَوَازِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ عَلَى الثِّقَةِ» وعزا هذا الرأي للأكثرين والمحققين.
(6)
" الإحكام "(للآمدي): 1/ 108.
(7)
" الإحكام في أصول الأحكام " لابن حزم: 1/ 119 - 137.
تصدى الخطيب البغدادي لنقد هذا الرأي فعقد في " الكفاية " فصلاً للرد على من قال: يجب القطع على خبر الواحد (1). وآخر لذكر شبهة من زعم أن خبر الواحد يوجب العلم، وإبطال تلك الشبهة (2)، ولم ير في الوقت نفسه مَانِعًا من الإفاضة في التزام العمل بأخبار الآحاد، والاحتجاج على ذلك بما صَحَّ من الروايات، إذ تكلم على ذلك كله في بحث مستقل بعنوان:«ذِكْر بَعْضِ الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ العَمَلِ بِخَبَرِ الوَاحِدِ وَوُجُوبِهِ» (3)، ثم فصل ما يقبل فيه خبر الواحد وما لا يقبل فيه، وانتهى إلى أن هذا الضرب من الخبر لا يقبل في «مُنَافَاةِ حُكْمِ العَقْلِ وَحُكْمِ القُرْآنِ الثَّابِتِ المُحْكَمِ ، وَالسُّنَّةِ المَعْلُومَةِ ، وَالفِعْلِ الجَارِي مَجْرَى السُّنَّةِ ، وَكُلِّ دَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ» (4).
ولئن دَلَّ هذا على شيء فإنما يدل على مكانة الحديث الصحيح في التشريع ولو رُوِيَ آحاديا، فإنه ليبدو عَسِيرًا، بل شبه مستحيل، أن تروى أخبار العلوم الوضعية، فضلاً على الدينية السماوية، بطرق أدق إسنادًا، وأصدق وَرَعًا، وأكمل أمانة. وأشد حَذَرًا، وأبلغ احتياطًا، وأوسع شهرة واستفاضة وانتشارًا، من أحاديث هذا الرسول العربي العظيم، ولو لم يبلغ معظمها درجة التواتر، ولم نورث أجيال الأمة كلها شعورًا واحدًا - أو متماثلاً - في العلم القطعي اليقيني.
ولذلك لا يضر الخبر الصحيح عَمَلُ أكثر الأمة بخلافه، لأن قول
(1)" الكفاية في علم الرواية ": ص 18 - 20.
(2)
المصدر نفسه: 25، 26.
(3)
نفسه: ص 26.
(4)
نفسه: ص 432.