الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من الحديث، حتى استقل علمًا قائمًا بذاته له مناهجه وأصوله، ولكنه - على استقلاله - ما انفك شديد الارتباط بحديث الرسول، ولو في جانب منه على الأقل: وهو جانب التفسير بالمأثور (1).
وهكذا احتج المفسرون بالعلم الذي نضج واحترق - وهو الحديث - تأييدًا للذي لم ينضج ولم يحترق وهو التفسير (2)، كما احتجوا أيضًا على الفقه بالحديث، فَدَأَبَ الفقهاء المفسرون يحتذون مناهج المحدثين، وطبعت ألوان كثيرة من الفقه والتفسير بطابع الحديث.
تَأْثِيرُ الحَدِيثِ فِي أُصُولِ النَّحْوِ:
بقيت أصول النحو التي نضجت ولم تحترق، فَأَنَّى يكون تأثرها بالحديث؟ وما حاجة النحو - وهو العلم الدنيوي الإنساني - إلى أصل من أصول الدين، ودعامة من دعائم التشريع؟!.
ومن عَجَبٍ أَنَّا، في إجابتنا، نكاد نرى رأي العين تأثير الحديث في النحو وأصوله بنسبة من القوة لا تقل عن تأثير الحديث في الفقه والتفسير، ولكن الزاوية التي ننظر من خلالها الى التأثر والتأثير في هذا المضمار أصيلة مبتكرة ليس فيها شيء من التقليد.
وقبل أن نمضي في توضيح رأينا نود أن نلتزم - تَخَفُّفًا من ثقل
(1) اقرأ في كتابنا " مباحث في علوم القرآن " فصل (التفسير) ص 289، واقرأ منه بإمعان ما يتعلق بالتفسير بالمأثور.
(2)
ولا يمكن أن ينضج ولا أن يحترق، لأنه - لتعلقه بكلام الله - سيظل محتملاً لألوان من التأويل لا تحصى عددًا، مع تصريح أصحابها في كل زمان ومكان بأنهم لم يصيبوا حقيقة المراد بكلام الله العليم الحكيم.
التعبير - أن مرادنا من «النحو» كلما ذكرناه في هذا الفصل أصوله الكبرى التي تشتمل على مسائل لغوية محضة اشتمالها على جزئيات نحوية صرفة: فأصول النحو هذه - على هذا الاصطلاح العام الشامل - هي التي تلقت تأثير الحديث، وأخذت من «منهجيته» الشيء الكثير.
على أن تأثير الحديث في أصول النحو - على اتساعه وعمقه وبعد مداه - كان على وجهين: أحدهما رافق نشأة علم الحديث قبل أن ينضج، والآخر شهد احتراق هذا العلم بعد أن نضج وآتى أكله اليانع الشهي!.
وليس لنا في الوجه الأول أن نغلو في هذا الثأثير ولا أن نطيل، فإنا لنتصور الآن نشأة التفكير بإسناد الحديث سَاذَجًا أَوَّلِيًّا في عصر الخلفاء الراشدين، ثم نتصور نشأة التفكير - سَاذَجًا أَوَّلِيًّا أيضًا - بوضع مسائل في النحو والعربية في عهد عَلِيٍّ آخر هؤلاء الراشدين، ونبصر القوم في هذا المضمار أو ذاك يُعْنَوْنَ بضبط روايتهم التي يستمدون منها مسألة نحوية عنايتهم بضبط التي يستنبطون منها حُكْمًا شَرْعيًّا: فأبو الأسود الدؤلي الذي اشتهر بأنه سبق إلى وضع مسائل في العربية (1) إنما عزا إلى عَلِيٍّ التفكير الأول في ذلك الأمر، وفي عزوه هذا ضرب من الإسناد يؤكد التبكير في إيضاح طريق التحمل والأداء ولو لم يتعلق المروي بموضوع ديني تشريعي. وأبو الأسود، كما نقل عن عَلِيٍّ هذه الرواية وأسندها، أخذ عنه الكثير من فتواه في الدين عَازِيًا إليه ما أخذ أوضح ما يكون العزو والإسناد. فما يُظَنُّ من صعوبة تحديد الوقت
(1)" البرهان في علوم القرآن " للزركشي: 1/ 378.