الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الأَوَّلُ:
الحَدِيثُ وَالسُنَّةِ
وَاصْطِلَاحَاتٍ أُخْرَى:
الحَدِيثُ وَالسُنَّةِ:
لو أخذنا بالرأي السائد بين المُحَدِّثِينَ، ولا سيما المتأخرين منهم، لرأينا الحَدِيثَ وَالسُنَّةَ مُتَرَادِفَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ، يوضع أحدهما مكان الآخر: ففي كل منهما إضافة قول أو فعل أو تقرير أو صفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بَيْدَ أنَّ رَدَّ هذين اللفظين إلى أصولهما التاريخية يُؤَكِّدُ وجود بعض الفروق الدقيقة بين الاستعمالين لغة واصطلاحًا.
فالحديث - كما لاحظ أبو البقاء (1) - «هُوَ اسْمٌ مِنَ التَّحْدِيثِ، وَهُوَ الإِخْبَارُ، ثُمَّ سُمِّيَ بِهِ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ أَوْ تَقْرِيرٌ نُسِبَ إِلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَلَاةُ
(1) أبو البقاء هو أيوب بن موسى الحسيني القريمي الكفوي، كان من قضاة الأحناف وَتُوُفِّيَ سَنَةَ 1092 هـ وهو قاض بالقدس (انظر " هدية العارفين ": 1/ 229 و" إيضاح المكنون ": 1/ 251 / 280).
وَالسَّلَامُ -» (1). ومعنى «الإِخْبَارِ» في وصف الحديث كان معروفًا للعرب في الجاهلية منذ كانوا يطلقون على «أيامهم المشهورة» اسم «الأحاديث» (2).
ولعل الفَرَّاءَ (3) قد تَنَبَّهَ إلى هذا المعنى حين رأى أَنَّ «وَاحِدَ الأَحَادِيثِ أُحْدُوثَةٌ، ثُمَّ جَعَلُوهُ جَمْعًا لِلْحَدِيثِ» (4). ومن هنا شاع على الألسنة: «صَارَ أُحْدُوثَةً» (5) أو «صَارَ حَدِيثًا» (6) إذا ضُرِبَ به المثل. واستعمل الشاعر أبو كلدة في بيت واحد المثل والأحدوثة في بيت واحد المثل والأحدوثة كأنما ليشير إلى ترادفهما فقال:
وَلَا تُصْبِحُوا أُحْدُوثَةً مِثْلَ قَائِلٍ
…
بِهِ يَضْرِبُ الأَمْثَالَ مَنْ يَتَمَثَّلُ (7)
وكيفما تُقَلِّبُ مادة «الحَدِيثِ» تجد معنى «الإِخْبَارِ» وَاضِحًا فيها حتى في قوله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} (8)، وقوله:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} (9).
وقد استشعر بعض العلماء في مادة «الحَدِيثِ» معنى «الجِدَّةِ» ، فأطلقوه
(1)" كليات أبي البقاء ": ص 152 (ط. الأميرية سنة 1280 هـ).
(2)
" فتوح البلدان " للبلاذري: ص 29.
(3)
هو يحيى بن زياد الديلمي، أحد نُحاة الكوفة وأئمتها المشهورين في اللغة، له كتاب في معاني القرآن. تُوُفِّيَ سَنَةَ 207 (انظر " طبقات الزبيدي ": 146).
(4)
انظر: " قواعد التحديث ": ص 25.
(5)
" الأغاني ": 21/ 150.
(6)
" الأغاني ": 14/ 47.
(7)
" الأغاني ": 10/ 120.
(8)
[سورة الطور، الآية: 34].
(9)
[سورة الزمر، الآية: 23].
على ما يقابل القديم، وهم يريدون بالقديم كتاب الله، وبالجديد ما أضيف إلى رسول الله. قال شيخ الإسلام ابن حجر في " شرح البخاري ":«المُرَادُ بِالْحَدِيثِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ: مَا يُضَافُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مُقَابَلَةُ الْقُرْآنِ لأَنَّهُ قَدِيمٌ» (1) وهذا يُفَسِّرُ لنا - إلى حد كبير - تَوَرُّعَ كثير من العلماء من إطلاق اسم الحديث على كتاب الله واستبدالهم «كَلَامَ اللهِ» بحديث الله. وفي " سنن ابن ماجه " رواية لحديث نبوي تكاد تقطع بضرورة هذا الورع وهذا الأدب في التعبير: عن عبد الله بن مسعود أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّمَا هُمَا اثْنَتَانِ: الْكَلَامُ وَالْهَدْيُ. فَأَحْسَنُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَأَحْسَنُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ» (2).
وإذا وجدنا في جُلِّ كتب السُنَنِ «إِنَّ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ» ثم لا حظنا تَفَرُّدَ ابن ماجه برواية «أَحْسَنُ الْكَلَامِ» أدركنا أنه ليس بمستبعد أَنْ يكون الورع حمله على إيثار هذا التعبير، وكان أقل ما نستنبطه من ذلك أَنَّ في العلماء مَنْ تَحَرَّجَ من إطلاق اسم الحديث على كتاب الله القديم.
والنبي صلى الله عليه وسلم سَمَّى بنفسه قوله «حَدِيثًا» وكاد بهذه التسمية يُمَيِّزُ ما أضيف إليه عما عداه، حتى كأنه وضع الأصول لما اصطلحوا فيما بعد على تسميته «بِالحَدِيثِ» . جاءه أبو هريرة يسأله عن أسعد الناس بشفاعته يوم القيامة، فكان جوابه عليه السلام:«أَنَّهُ عَلِمَ أَنْ لَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ قَبْلَ أَبِي هُرَيْرَةَ لِحَرْصِهِ عَلَىَ طَلَبِ الحَدِيثِ» (3).
(1)" التدريب ": 4.
(2)
" سنن ابن ماجه ": 1/ 18، رقم الحديث 46 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
(3)
" صحيح البخاري ". كتاب الرقاق. رقم 51.
وَالسُنَّةُ - في الأصل - ليست مساوية للحديث، فإنها - تبعاً لمعناها اللغوي - كانت تطلق على الطريقة الدينية التي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم في سيرته المُطَهَّرَة، لأَنَّ معنى السُنَّةِ لغة الطريقة. فإذا كان الحديث عَامًّا يشمل قول النبي وفعله، فَالسُنَّةُ خَاصَّةٌ بأعمال النبي عليه السلام. وفي ضوء هذا التباين بين المفهومين ندرك قول المُحَدِّثِينَ أَحْيَانًا:«هَذَا الحَدِيثُ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ وَالسُنَّةِ وَالإِجْمَاعِ» ، أو قولهم:«إِمَامٌ فِي الحَدِيثِ، وَإِمَامٌ فِي السُنَّةِ، وَإِمَامٌ فِيهِمَا مَعًا» (1) وأغرب من هذا كله أَنَّ أحد المفهومين يدعم بالآخر، كأنهما متغايران من كل وجه، حتى صَحَّ أنْ يذكر ابن النديم كِتَابًا بعنوان " كتاب السُنن بشواهد الحديث "(2).
وحين عَبَّرَ الإسلام عن الطريقة بِالسُنَّةِ لم يفاجئ العرب، فلقد عرفوها بهذا المعنى كما عرفوا نقيضها وهي البدعة (3). وكان في وسعهم أَنْ يفهموا منها هذا المعنى حتى عند إضافتها إلى اسم الجلالة في مثل قوله تعالى:{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} (4). أما الذين سمعوا لفظها من النبي صلى الله عليه وسلم في مثل قوله: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي» (5)، فما كان لهم حِينَئِذٍ أَنْ يَتَرَدَّدُوا في انصرافها إلى أسلوبه عليه السلام وطريقته في حياته الخاصة والعامة.
(1) من ذلك ما يراه عبد الرحمن بن مهدي (- 198)«مِنْ أَنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ إِمَامٌ فِي الحَدِيثِ، وَالأَوْزَاعِيَّ إِمَامٌ فِي السُنَّةِ وَلَيْسَ بإِمَامٍ فِي الحَدِيثِ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ إِمَامٌ فِيهِمَا جَمِيعاً» . انظر " الزرقاني على الموطأ ": 1/ 4 وقابله بـ « Trad Islam.12 ، 14» .
(2)
" الفهرست " لابن النديم: ص 220.
(3)
انظر " الأغاني ": 7/ 119 وفيما يتعلق بالبدعة: 7/ 114.
(4)
[سورة الأحزاب، الآيتان: 38 و 62].
(5)
سنن ابن ماجه 1/ 16 رقم الحديث 42.
وَالمَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ كانت - كما سنرى - أحرص البلاد على السُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ حتى سميت «دَارَ السُنَّةِ» (1). وفي جنباتها المشرفة بدأ مفهوم «السُنَّةِ» يأخذ شَكْلاً سِيَاسِيًّا وَاجْتِمَاعِيًّا إلى جانب الشكل الديني الأساسي: فالرسول صلى الله عليه وسلم يُصَرِّحُ بأنَّ «مَنْ أَحْدَثَ فِي المَدِينَةِ حَدَثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (2). وَكَأَنَّ في هذا الحديث إيماء إلى براءة الله ورسوله من كل مُنْشَقٍّ على الجماعة، خالع يد الطاعة، مُؤْثِرٌ البِدْعَةَ عَلَى السُنَّةِ. فلينصح الأب ابنه:«يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ وَالحَدَثَ» ، وليستجب الابن لأبيه مُكْبِراً تَقيُّدَهُ بِالسُنَّةِ المُطَهَّرَةِ:«وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَبْغَضَ إِلَيْهِ الحَدَثُ فِي الإِسْلَامِ» (3)، وليقل المتهم في دينه مُدَافِعًا عن نفسه:«مَا أَحْدَثْتُ فِي الإِسْلَامِ حَدَثاً وَلَا أَخْرَجْتُ مِنْ طَاعَةٍ يَدًا» (4).
ما أسرع ما انتقل المسلمون إذن من المعنى الإقليمي الضيق إلى المعنى الشامل الواسع! إنهم لا يخشون إحداث الحَدَثِ في المدينة وحدها «دَارَ السُنَّةِ» ، بل يخشون الحدث في الإسلام كله، في كل بلد بلغته الدعوة المباركة، فالمبدأ عام شامل، وقد وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه مُذْ قال:«شَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا» (5) وقال: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» (6).
(1) راجع فصل - الرحلة في طلب الحديث - من هذا الكتاب.
(2)
" صحيح البخاري ". الاعتصام. رقم 6.
(3)
" سنن الترمذي ": 1/ 51.
(4)
" الأغاني ": 21/ 144.
(5)
" سنن ابن ماجه ": 1/ 17 رقم 45.
(6)
" سنن أبي داود ": 4/ 280 رقم 4606.
ولم يكن لهذا المبدأ النبوي الصريح إلَاّ نتيجة واحدة حاسمة: فعلى قدر الخوف من إحداث الحدث في الإسلام كانت الرغبة في المحافظة على سُنَّةِ رسول الله. وَإِنَّ كل مؤمن لا يظل قلبه ونظره معلقين بشخص الرسول، ولا يصوغ نفسه وعمله وفق الخلق النبوي، ووفق ما جرت به السُنَّةُ (1) أو مضت عليه (2) ليس صادق الإيمان ولا هو من المُقرَّبِينَ.
وإذا كان هذا الرجل من المشتغلين بالحديث النبوي زادت تبعته، فما يفعل شَيْئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يَتَرَدَّدُ في كثير من الأمور قبل الإقدام عليها ليعرف أقربها إلى السُنَّةِ، من تشميره ثيابه (3)، وطرقه الباب للاستئذان على المحدث (4)، وإفشائه السلام غير مجاوز القدر المُسْتَحَبَّ من رفع الصوت به (5)، وجلوسه حيث ينتهي به المجلس (6) وامتناعه من الجلوس في صدر الحَلَقَةِ أو وسطها (7) أو بين اثنين بغير إذنهما (8) وما شابه هذه الخصال النَّبَوِيَّةِ التي اشتمل عليها كتاب الأدب في جميع كتب «السُنَنِ» .
وحين بَعُدَ العهد بالوحي وبرسول الله صلى الله عليه وسلم أضحى التشبه بالسلف الصالح
(1)" البخاري ". الاعتصام. رقم 4.
(2)
" سنن أبي داود ": 2/ 368 رقم 2250.
(3)
" الجامع لأخلاق الراوي ": 2/ 22.
(4)
" الجامع ": 2/ 24.
(5)
" الجامع ": 2/ 26.
(6)
" الجامع ": 2/ 28.
(7)
" الجامع ": 2/ 28 أَيْضًا.
(8)
" الجامع ": 2/ 29.
ضَرْبًا من التأسي بِالسُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ. وصار هؤلاء المُتشبِّهُونَ بالسلف ينسبون إليه فَيُسَمَّوْنَ «السَّلَفِيِّينَ» (1)، وباتت حياتهم وَقْفًا على إحياء السُنَّةِ وإماتة البدعة (2)، وكان المُتدَيِّنُونَ الصادقون ينظرون إليهم نظرة إجلال وإكبار في مختلف العصور، غير أنهم لم يسلموا من أذى المبتدعة وأهل الأهواء، ولا من غُلَاةِ المُتَصَوِّفِينَ، ولا من الأدباء المُتَطَرِّفِينَ. ومضى السَّلَفِيُّونَ لا يبالون بشيء من أذى العامة، فحسبهم شَرَفًا أنهم حفظوا سُنَنَ الهُدَى حِينَ ضَيَّعَهَا النَّاسُ!
ولئن أطلقت السُنَّةُ في كثير من المواطن على غير ما أطلق الحديث، فَإِنَّ الشعور بتساويهما في الدلالة أو تقاربهما على - الأقل - كان دائمًا يساور نُقَّادَ الحديث، فهل السُنَّة العملية إلَاّ الطريقة النَّبَوِيَّةَ التي كان الرسول - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ - يُؤَيِّدُهَا بأقواله الحكيمة وأحاديثه الرشيدة المُوَجَّهَةِ؟ وهل موضوع الحديث يغاير موضوع السُنَّة؟ ألا يدوران كلاهما حول محور واحد؟ ألا ينتهيان أَخِيرًا إلى النَّبِيِّ الكَرِيمِ في أقواله المُؤيِّدَةِ لأعماله، وفي أعماله المُؤيِّدَةِ لأقواله؟
حين جالت هذه الأسئلة في أذهان النُقَّادِ لم يجدوا بَأْسًا فِي أنْ يُصَرِّحُوا
(1)" المشتبه في أسماء الرجال " للذهبي، نشر جنغ Jong، ص 269.
(2)
وعلى طريقة المستشرقين في إحصاء الجزئيات واستقراء التفصيلات، قام جولدتسيهر بجمع طائفة حسنة من المعلومات عن إحياء السُنَّةِ في مختلف العصور الإسلامية، وليس لنا اعتراض على النتيجة التي خرج بها من دراسته لهذه الناحية بالذات، فقد أثبت أنَّ إحياء السُنَّةِ كان يرادف غالباً العمل على نشرها وتثبيتها في نفوس الأفراد. وانظر:
Muhammedanisches Recht، in Theorie und Wirklich Keit (Zeitschrift f. vergleich) .Rechtswissenschatt، VIII، 409 sq.