الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة التي لم يعرض لها القرآن بحكم صريح.
وعندما خاطب الله نَبِيَّهُ بقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (1)، نَبَّهَ المؤمنين إِلى مكانة السنة في التشريع، فإن أقوال الرسول وأعماله تبين المراد من القرآن، إذ تفصل ما أجمله، وتقيد ما أطلقه، وتخصص فيه ألفاظ العموم، وتعين ما لم يعينه من المقادير والحدود والجزئيات. فللسنة أن تنفرد في التشريع حين يسكت القرآن عن التصريح، ولها أن تقوم بوظيفة التبيان حين يترك لها التفصيل والتوضيح. وذلك ما استنتجه عمران بن حصين لما رمى رجلاً بالغفلة الشديدة والفهم السقيم، وقال له مُؤَنِّبًا مقرعا:«إِنَّكَ امْرُؤٌ أَحْمَقُ! أَتَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ [الظُّهْرَ أَرْبَعًا]، لَا يُجْهَرُ فِيهَا بِالقِرَاءَةِ؟» ثم سرد له بعض أحكام الصلاة ومقادير الزكاة وما أشبه ذلك من أركان الإسلام وفرائضه، ثم قال للرجل:«" أَتَجِدُ هَذَا فِي كِتَابِ اللهِ مُفَسَّرًا؟ إِنَّ كِتَابَ اللَّهِ أَبْهَمَ هَذَا وَأَجْمَلَهُ"، وَإِنَّمَا فَسَّرَتْهُ السُنَّةَ تَوْضِيحًا وَبَيَانًا» (2).
شُمُولُ السُنَّةِ كُلَّ آفَاقِ التَّشْرِيعِ:
وتكاد الأمثلة الواردة في تفصيل السنة مجملاتِ القرآن تشمل كل آفاق التشريع الإسلامي في العبادات والمعاملات والحلال والحرام.
وينتهي النبي صلى الله عليه وسلم في كل منها، على حدة، إلى التبيان الدقيق عن
(1)[سورة النحل، الآية: 44].
(2)
قارن بـ " جامع بيان العلم ": 2/ 191 و" الموافقات ": 4/ 26.
طريق القياس تارة، والمقارنة بين نظيرين تارة أخرى، والموازنة بين متقابلين تارة ثالثة.
فاذا قال الله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) أدرك رسول اللَه صلى الله عليه وسلم أن الزيادة من غير مقابل ولا عوض هي السر في تحريم الربا، فألحق قياسًا بالربا كل تعامل يشمل على زيادة من هذا النوع، وحكم بأن «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالفِضَّةُ بِالفِضَّةِ، وَالبُرُّ بِالبُرِّ، [وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ]، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالمِلْحُ بِالمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ، أَوِ ازْدَادَ، فَقَدْ أَرْبَى» (2)، ثَم ينحي عن مدلول الربا ما اختلفت فيه تلك الأصناف ولم تتماثل، فخلا من كل زيادة لا عوض فيها، فيقول عليه السلام:«فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» .
وإذا حَرَّمَ القرآن الزنى وأباح النكاح في آيات معروفة، وسكت عن حكم النكاح المخالف للشرع، كزواج المرأة بغير إذن وليها مثلاً، عقد النبي صلى الله عليه وسلم مقارنة بين السفاح المحض وهذا اللون من النكاح المخالف للشرع، وقضى ببطلان ما لم تراع فيه أصول العقد الزوجي، فقال:«أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» (3).
وإذا عَدَّ القرآن صيد البحر حلالاً طيبًا فقال: {أُحِلَّ لَكُمْ
(1)[سورة البقرة، الآية: 275].
(2)
الحديث من رواية مسلم في " صحيحه " وأحم في " مسنده " وأبي داود في " سننه ". وهو حديث مشهور.
(3)
قارن بـ " سنن أبي داود ": 2/ 308 رقم الحديث 2083 (باب في الولي) والحديث من رواية السيدة عائشة رضي الله عنها.
صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} (1)، وَحَرَّمَ الميتة تحريمًا قاطعًا في مواطن متعددة (2)، وَازَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حِلِّ الصيد البحري المطلق وحرمة الميتة في صيغتها العامة المطلقة، فخص ميتة البحر بالحل واستثناها من الحكم العام، وقال عن البحر:«هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ» (3)، وأكد هذا التخصيص بقوله في الحديث الَاخر:«أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ، وَدَمَانِ، فَأَمَّا المَيْتَتَانِ: فَالحُوتُ وَالجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ: فَالكَبِدُ وَالطِّحَالُ» (4).
ولعل شعور العلماء الأولين بأثر السُنَّةِ العظيم في توضيح الأصول القرآنية، بأي طريق تم ذلك التوضيح، هو الذي حمل بعضهم على الحكم بأن السُنَّةَ قاضية على الكتاب، حتى قال الأوزاعي:«الكِتَابُ أَحْوَجُ إِلَى السُنَّةِ مِنَ السُنَّةِ إِلَى الكِتَابِ» . (5). وما أراد الأوزاعي ولا غيره بهذا إلا التنبيه على أن أعلم الخلق بمعاني القرآن هو رسول الله الأمين الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. وَمِنْ هُنَا قِيلَ لِمُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ (6): لَا تُحَدِّثُونَا إِلَاّ بِالقُرْآنِ، فَقَالَ لِلْسَّائِلِينَ:«وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ بِالقُرْآنِ بَدَلاً، وَلَكِنْ نُرِيدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِالقُرْآنِ مِنَّا» (7).
(1)[سورة المائدة، الآية: 96].
(2)
كما ورد في سورة البقرة 182 والمائدة 3 والأنعام 145.
(3)
قارن بـ " سنن أبي داود ": 1/ 54 رقم الحديث 83.
(4)
قارن بـ " سبل السلام " لمحمد بن إسماعيل الصنعاني: 4/ 76 (" شرح بلوغ المرام " لابن حجر).
(5)
" جامع بيان العلم ": 2/ 191.
(6)
مطرف بن عبد الله بن الشيخر، زاهد من كبار التابعين، ثقة فيما رواه من الأحاديث. توفي بالبصرة سنة 87 هـ (" وفيات الأعيان ": 2/ 67).
(7)
" الموافقات ": 4/ 26.