الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنَّ الصحابة «إِنَّمَا كَرِهُوَا الكِتَابَةَ، لأَنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اتَّخَذُوا الكُتُبَ فَأُعْجِبُوا بِهَا فَكَانُوا يَكْرَهُوَنَ أَنْ يَشْتَغِلُوا بِهَا عَنِ الْقُرْآنِ» (1) وكما قال الخطيب البغدادي: «إِنَّ كَرَاهَةَ مَنْ كَرِهَ الكِتَابَ مِنَ الصَّدْرِ الأَوَّلِ، إِنَّمَا هِيَ لِئَلَاّ يُضَاهِي بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى غَيْرَهُ، أَوْ يُشْتَغَلَ عَنْ القُرْآنِ بِسِوَاهُ» (2).
عَصْرُ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ:
وإذا انتقلنا إلى عصر التابعين هالتنا تلك الروايات المتضافرة على كراهة كبار التابعين وأوساطهم وأواخرهم للكتابة، ثم لا نلبث أنْ نجد كَثِيرًا منهم يتساهلون في أمرها، أو يرخِّصُون بها، أو يحُضُّون عليها، ونجدها أصبحت أمراً «رَسْمِيًّا» في عصر أوساطهم، فيُخَيَّلُ إلينا أنَّ التضارب قائم في هذه الروايات، وأنه لا يمكن أنْ يستنتج منها حكم تاريخي موثوق. ولكن الموضوع أهون من هذا، فإنَّ الأسباب التي حملت الخلفاء الراشدين على الكراهة هي التي حملت التابعين عليها، فإذا بطلت أسباب هذه الكراهة قال الحميع قولاً واحداً، وأخذوا به وأجمعوا عليه: وهو جواز كتابة العلم، بل إيثار تقييده والتشجيع عليه.
ففي عصر كبار التابعين حتى آخر المائة الأولى امتنع كثيرون عن الإكتاب: منهم عُبيدة بن عمرو السلماني المرادي (- 72 هـ) وإبراهيم بن يزيد التيمي
(1)" تقييد العلم ": ص 57 وقارن بـ " تذكرة الحفاظ ": 1/ 296.
(2)
" تقييد العلم ": ص 57.
(- 92 هـ) وجابر بن زيد (- 93 هـ) وإبراهيم بن يزيد النخعي (- 96 هـ) وهم قوم لما يجدوا الضرورة الملجئة إلى الإكتاب بل ما تزال الأخبار عن الخلفاء الراشدين وكراهتهم الكتابة قريبة عهد منهم، شديد الشيوع في عصرهم، توحي بالكثير من ورع هؤلاء السادة الأخيار، فلا غرو أن يتأسَّوْا بهم ويقولوا بقولهم. ولا عجب أنْ يعد الواحد منهم تخليد كتاب عنه خطأ وإثماً: ولذلك قال عُبيدة لإبراهيم: «لَا تُخَلِّدَنَّ عَنِّي كِتَابًا» حين علم أنه يكتب عنده (1). وإذا بإبراهيم يقف عند هذه الوصية ويقول بعدها: «مَا كَتَبْتُ شَيْئًا قَطُّ» (2).
ومما زاد في كراهة القوم للكتابة أنَّ آراءهم الشخصية بدأت تشتهر، فكانوا يخشون إذا كتب الناس عنهم الأحاديث أن يكتبوا إلى جانبها هاتيك الآراء. ولدينا من الأخبار ما يؤكد هذا ويثبته، ولعل من أوضحه في عصر كبار التابعين ما رَوَوْا من أنه قيل لجابر بن زيد (- 93 هـ): إنهم يكتبون رأيك، فقال مستنكرًا:«يَكْتُبُونَ مَا عَسَى أَنْ أَرْجِعَ عَنْهُ غَدًا؟!» (3).
واستنكار هؤلاء جميعاً الكتابة عنهم يعني من طريق غير مباشر أنَّ في
(1)" جامع بيان العلم ": 1/ 67 و " تقييد العلم ": ص 46 وعُبيدة هو الذي ورد اسمه آنفاً (عُبيدة بن عمرو السلماني المُرادي) وقد دعا عُبيدة بكتبه عند موته فمحاها وقال: «أخشى أنْ يليها أحد بعدي، فيضعوها في غير موضعها» " طبقات ابن سعد ": 6/ 63. وفي " جامع بيان العلم ": 1/ 67 ما يقاربه. أما إبراهيم فهو ابن يزيد النخعي. وانظر في كراهة إبراهيم التيمي للكتابة " سنن الدارمي ": 1/ 122 في كراهة جابر بن زيد لها " جامع بيان العلم ": 2/ 31.
(2)
" تقييد العلم ": ص 60.
(3)
" جامع بيان العلم ": 2/ 31 وراجع ما يقوله بهذا الصدد الدكتور يوسف العش في مقدمة نشره لـ " تقييد العلم ": ص 20.
القوم من بدأ يستسيغ التدوين. ولا سيما حين يكون مُجرَّدًا من الآراء الشخصية مقتصرًا على الأحاديث نفسها، لأنَّ محاولات الكتابة هي التي حملت هؤلاء العلماء على استنكارها، فهم لم يستنكروها نظريًا من حيث المبدأ بل تشدَّدُوا في أمرها عمليًا عند التطبيق. فلا يدهشنا بعد ذلك أنْ نجد لسعيد بن جُبير (- 95 هـ) نقلين في شأن الكتابة يوهمان التضارب ولا تضارب، فهو تارة ينقل عن ابن عباس أنه كان ينهى عن كتابة العلم وأنه قال:«إِنَّمَا أَضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمُ الكَتْبُ» (1) وتارة ينقل عنه أنه قال: «خَيْرُ مَا قُيِّدَ بِهِ العِلْمُ الكِتَابُ» (2): فالنهي ينصرف إلى ما تشتمل عليه الكتب من آراء خاصة. والنصيحة بالكتابة تنصرف إلى العلم بسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك لم يكتف سعيد بن جبير بالكتابة بل بالغ في الحرص عليها فقال:«كُنْتُ أَسِيرُ بَيْنَ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، فَكُنْتُ أَسْمَعُ الحَدِيثَ مِنْهُمَا، فَأكْتُبُهُ عَلَى وَاسِطَةِ الرَّحْلِ حَتَّى أَنْزِلَ فَأَكْتُبَهُ» (3).
ولما بدأ الناس يفرِّقُون بين فكرة النهي عن كتابة الأحاديث وفكرة النهي عن كتابة الآراء الشخصية، أصبح كثير من أوساط التابعين في أول المائة الثانية لا يرون بأساً في تقييد العلم، ويرخصون لتلامذتهم بتقييده، كما رخص سعيد بن المسيب (- 105 هـ) لعبد الرحمن بن حرملة بذلك حين شكا إليه سوء
(1)" تقييد العلم ": ص 43 وفي معناه ما جاء في " جامع بيان العلم ": 1/ 65.
(2)
" تقييد العلم ": ص 92.
(3)
" تقييد العلم ": ص 103 وانظر ما يقاربه في " جامع بيان العلم ": 1/ 72. وعلى هذا الأساس، يمكننا التوفيق بين قول كثير بن أفلح (- 63 هـ): «كنا نكتب عند زيد بن ثابت» - " تقييد العلم ": ص 102 وبين ما علمناه من رواية زيد بن ثابت حديث النهي عن الكتابة (راجع ما سبق أنْ ذكرناه في أول البحث).
الحفظ (1). وراح الشعبي (- 104 هـ) يُرَدِّدُ العبارة المشهورة التي كانت صدى لحديث مرفوع إلى الرسول تناقله الصحابة والتابعون: «الكِتَابُ قَيْدُ العِلْمِ» (2). وينبه على فائدة الكتابة فيقول: «إِذَا سَمِعْتُمْ مِنِّي، شَيْئًا فَاكْتُبُوهُ وَلَوْ فِي حَائِطٍ» (3)، ويظهر أنه كتب بنفسه بعض العلم فقد وجدوا له بعد موته كتاباً في الفرائض والجراحات (4). أما مجاهد بن جبر المكي (- 103 هـ) فكان يصعد بالناس إلى غرفته فَيُخْرِجُ إليهم كُتُبَهُ فينسخون منها (5)، ومضى عطاء بن أبي رباح (- 114 هـ) يكتب لنفسه ويأذن بالكتابة لسواه (6)، وقتادة بن دعامة السدُوسي (- 118 هـ) لَمْ يَتَرَدَّدْ في إجابة الذي استفتاه في الكتابة بقوله الصريح له:«وَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَكْتُبَ وَقَدْ أَخْبَرَكَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ أَنَّهُ يَكْتُبُ: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى}» (7).
وأغلب الظن أنَّ الخليفة الورع التقي عمر بن عبد العزيز (- 101 هـ) حين أمر رَسْمِيًّا بالشروع في تدوين الحديث إنما استند إلى آراء العلماء، ولعله لم يقدم
(1)" جامع بيان العلم ": 1/ 73 و " تقييد العلم: ص 99.
(2)
" تقييد العلم ": ص 99 والعبارة المشهورة عن الرسول في هذا هي كما رأينا «قيِّدُوا العِلْمَ بِالكِتَابِ» .
(3)
" تقييد العلم ": ص 100.
(4)
" تاريخ بغداد ": 11/ 232.
(5)
انظر " سنن الدارمي ": 1/ 128 و" تقييد العلم ": ص 105. على أَنَّ في " سنن الدارمي " نفسها: 1/ 121 ما يشير إلى كره مجاهد أنْ يكتب العلم في الكراريس.
(6)
انظر " الإلماع " للقاضي عياض: ورقة 27 الوجه الأول و" سنن الدارمي ": 1/ 125.
(7)
[طه: 52] وانظر " تقييد العلم ": ص 103 ويروي عنه الدارمي في " سننه ": 1/ 120 - مع ذلك - ما يفيد كراهته الكتابة.
على ذلك إلَاّ بعد أنْ استشارهم أو اطمأنَّ - على الأقل - إلى تأييد كثرتهم (1)، وإنْ كانت الأخبار المتضافرة توحي بتفرده في هذه الفكرة لما له في القلوب من منزلة، ولا سيما بين معاصريه الواثقين بِتُقَاهُ وَوَرِعِهِ.
ويتضح من جملة الأخبار المروية في هذا الشأن أنَّ خوف عمر من دُرُوسَ العِلْمِ وذهاب أهله هو الذي حمله على الأمر بالتدوين، فَإِنَّهُ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ عَلَى المَدِينَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ يَأْمُرُهُ:«انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ سُنَّةٍ مَاضِيَةٍ أَوْ حَدِيثِ عَمْرَةَ [بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ] فَاكْتُبْهُ فَإِنِّي قَدْ خِفْتُ دُرُوسَ العِلْمِ وَذَهَابَ أَهْلِهِ» (2). وعَمْرَة المذكورة هنا هي عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، وقد ضُمَّ إليها بعض الروايات اسم القاسم بن محمد بن أبي بكر الصدِّيق (- 107) وكلاهما من تلاميذ عائشة، فكانا أعلم الناس بأحاديثها عن رسول الله. ولقد قام أبو بكر بن حزم بما عهد إليه عمر، ولكن هذا الخليفة العظيم لحق بربه قبل أنْ يطلعه عامله على نتائج سعيه (3).
على أَنَّ عمر كان قد كتب إلى أهل الآفاق وإلى عُمَّالِهِ في الأمصار بمثل ما كتب إلى ابن حزم (4)، وكان أول من استجاب له في حياته وَحَقَّقَ له غايته عالم
(1) وإنما قلنا «تأييد كثرتهم» لأنَّ بعض العلماء أظهروا كراهتهم للتدوين في وجه عمر بن عبد العزيز، فقد رَوَوْا عن عبيد الله (- 106) أنه دخل على عمر بن عبد العزيز، فأجلس قومًا يكتبون ما يقول، فلما أراد أَنْ يقوم قَالَ لَهُ عُمَرُ:«صَنَعْنَا شَيْئًا» ، قَالَ:«وَمَا هُوَ يَا ابْنَ عَبْدِ العَزِيزِ؟» ، قَالَ:«[كَتَبْنَا] مَا قُلْتَ» ، قَالَ:«وَأَيْنَ هُوَ؟» ، قَالَ:«فَجِيءَ بِهِ فَخُرِّقَ» ." تقييد العلم ": ص 45.
(2)
انظر " طبقات " ابن سعد: 2/ 2 ص 134.
(3)
انظر " مفتاح السُنَّة " لمحمد عبد العزيز الخولي: ص 20 (الطبعة الثالثة).
(4)
" الرسالة المستطرفة ": ص 4.
الحجاز والشام محمد بن مسلم بن شهاب الزُهري المدني (- 124 هـ) الذي دَوَّنَ له في ذلك كتابًا (1)، فغدا عمر يبعث إلى كل أرض دَفْتَرًا من دفاتره (2). وَحُقَّ لِلْزُّهْرِيِّ أنْ يفخر بعمله قائلاً:«لَمْ يُدوِّنْ هَذَا العِلْمَ أَحَدٌ قَبْلَ تَدْوِينِي» (3).
وَقَدْ يُخَيَّلُ للباحث عندما يبلغ هذه المرحلة من الدراسة أَنَّ فكرة كره التدوين قد اختفت إلى الأبد، وأنها في هذا العصر بدأت تُنْسَى، ثم لا يلبث أَنْ يسمع بنغمتها الرتيبة تتعالى حتى على لسان الذين رَخَّصُوا في التدوين أو حَضُّوا عليه أو أسهموا فيه. بل لَيَسْمَعَنَّ البَاحِثُ معها نغمة جديدة من الندم والحسرة عند الذين شاركوا في التدوين خاصة، فكأنهم لم ينهضوا بالأمر من تلقاء أنفسهم، بل بتحريض الأمراء وائتمارًا بأمرهم.
قال الزُهري: «كُنَّا نَكْرَهُ كِتَابَ العِلْمِ، حَتَّى أَكْرَهَنَا عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الأُمَرَاءُ فَرَأَيْنَا أَلَاّ نَمْنَعَهُ أَحَدًا مِنَ المُسْلِمِينَ» (4). وهو في الواقع ما منع أحدًا من المسلمين كتابة شيء، ولا منع نفسه حين كان يغلو في الكتابة حتى ليكتب الحديث في ظهر نعله مخافة أن يفوته (5)، غير أَنَّ عَامِلاً آخر ربما شارك إكراه الأمراء في
(1)" الرسالة المستطرفة ": ص 4.
(2)
" جامع بيان العلم ": 1/ 76.
(3)
" الرسالة المستطرفة ": ص 4.
(4)
" طبقات " ابن سعد: 2/ 2 ص 135 وفي كتاب " الأموال " للقاسم بن سلام: ص 578 (طبعة مصر 1353) تخصيص اسم عمر بن عبد العزيز من بين الأمراء، ومثل ذلك في " جامع بيان العلم ": 1/ 76.
(5)
" تذكرة الحفاظ ": 1/ 103 و" تقييد العلم ". وليست الصحيفة المحفوظة عنه - التي يقول فيها الخطيب البغدادي أنها تحوي ثلاثمائة حديث - إلَاّ نموذجاً من صحفه الكثيرة التي قيد بها علمه الغزير. (انظر: " تاريخ بغداد ": 14/ 87).
الإقبال على كتابة العلم والإذن بها، وهو تمييز حديث رسول الله مما وضع في فيه ولم يقله، وإنه لأمر أَقَضَّ مضجع الزُهري، فانطلق يقول كاظمًا غيظه:«لَوْلَا أَحَادِيثَ تَأْتِينَا مِنْ قِبَلِ المَشْرِقِ نُنْكِرُهَا لَا نَعْرِفُهَا ، مَا كَتَبْتُ حَدِيثًا وَلَا أَذِنْتُ فِي كِتَابِهِ» (1).
ولقد يكون رأي الزُهري هذا هو رأي أكثر العلماء في ذلك العصر، فالحرص على كلام رسول الله أنْ يضيع كالخوف عليه أنْ يشيع فيه غير الصحيح كانا عاملين كبيرين في توجيه العلماء نحول القول بكتابة الحديث تارة والنهي عنها تارة أخرى. فإذا كنا رأينا اسمي سعيد بن المسيب والشعبي بين أسماء المُرَخِّصِينَ في الكتابة فلن نعدم روايات تُصَوِّرُهُمَا لنا مستنكرين لها (2)، وقل مثل ذلك في مجاهد وقتادة (3)، حتى القاسم بن محمد بن أبي بكر (- 107 هـ) الذي أمر عمر بن عبد العزيز بجمع ما عنده من الأحاديث والروايات عن عائشة اشتهر عنه القول بكره التدوين (4)، وهكذا جمعوا وَدَوَّنُوا عن أشخاص كانوا يكرهون الجمع والتدوين. ولقد عَبَّرَ عن خوفهم من نتائج هذا التدوين الضحاك بن مزاحم الهلالي (- 105 هـ) حين طفق ينادي الناس: «لَا تَتَّخِذُوا لِلْحَدِيثِ كَرَارِيسَ كَكَرَارِيسِ
(1)" تقييد العلم ": ص 108.
(2)
انظر كراهة سعيد بن المسيب للكتابة " تذكرة الحُفاظ ": 1/ 105 وفي كراهة الشعبي لها " المحدث الفاصل ": 4/ 5 الوجه الأول.
(3)
انظر في كره مُجاهد كتابة العلم في الكراريس " سنن الدارمي ": 1/ 121 وقد سبق أنْ نبَّهْنا على أنَّ في " سُنن الدارمي " نفسها: 1/ 128 ما يشير إلى عناية مجاهد بالكتابة. وانظر في كره قتادة للكتابة " سنن الدارمي ": 1/ 120.
(4)
انظر " جامع بيان العلم ": 1/ 67 و" تقييد العلم ": ص 46.
المَصَاحِفِ» (1) مع أنه حين لا موضع للخوف أملى على الناس مناسك الحج (2).
وإذا كان أوساط التابعين قد بدؤوا يحذرون وضع الوَضَّاعِينَ فإن أواخر التابعين أمسوا يصادفون كَثِيرًا من نماذج الوَضَّاعِينَ وصور وضعهم تَأْيِيدًا لِلْفِرَقِ وَالشِِّيعِ المختلفة، فقد أمسى لِزَامًا أَنْ يشيع التدوين وينتشر في عصرهم حِفْظًا لِلْنُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ من عبث العابثين. وميزة التدوين في هذا العصر أنَّ الحديث كان ممزوجًا غالبًا بفتاوى الصحابة والتابعين: كما في " موطأ مالك " إمام المدينة (- 179).
وفي عصر أتباع التابعين، مِمَّنْ كانوا على رأس المائتين، عُنِيَ العلماء بتأليف المسانيد خالية من فتاوى الصحابة والتابعين، مقصورة على السُنَّة النَّبَوِيَّةِ وحدها. وأول من ألَّفَ تلك المسانيد أبو داوود الطيالسي (- 204 هـ)(3). ويعتبر " مسند أحمد بن حنبل "(- 241 هـ) أوْفَى تلك المسانيد وأوسعها، إلَاّ أنَّ هذا الإمام معدود من أتباع التابعين لأنَّ وفاته بعد العشرين والمائتين.
وَلَمْ تُدَوَّنْ السُنَّةُ الصحيحة وحدها مُرَتَّبَةً على الأبواب إلَاّ في عصر أتباع أتباع التابعين مِمَّنْ عاصر البخاري. وفي هذا العصر ألفت الكتب الستة الصحيحة. وسندرس ما يتعلق بها وبأصحابها (البخاري ومسلم والترمذي وأبي داوود، وابن ماجه والنسائي) في فصل «أَهَمِّ كُتُبِ الرِّوَايَةِ» .
أما المُتَأَخِّرُونَ عن عصر الرواية فيكون عملهم - في نهاية المطاف - تهذيباً وشرحاً واختصاراً للكتب الصحيحة المشهورة، فيجمع أبو عبد الله
(1)" تقييد العلم ": ص 47.
(2)
" جامع بيان العلم ": 1/ 72.
(3)
وقد طبع هذا المسند في حيدر آباد بالهند سَنَةَ 1321 هـ.
الحُميدي (- 448 هـ)" الصحيحين " على ترتيب المسانيد، ثم أبو السعادات مبارك بن الأثير (- 606 هـ)" الكتب الستة " بترتيب الأبواب، ثم نور الدين علي الهيثمي (- 807 هـ) ما زاد عن " الكتب الستة " من المُصَنَّفَاتِ المَشْهُورَةِ في " مجمع الزوائد "(1)، وأخيرًا السيوطي (- 911 هـ)" الكتب الستة " و" المسانيد العشرة " وغيرها مِمَّا يزيد على خمسين مُصَنَّفًا في " جمع الجوامع " المُسَمَّى بـ " الجامع الكبير "(2).
وهكذا، مَرَّ الحديث النبوي بمراحل طويلة حتى وصل إلينا مُحَرَّرًا مَضْبُوطًا، وساعدت الطباعة الحديثة على نشر هذا التراث الإسلامي العظيم.
(1) وقد نشره حسام الدين القدسي سنة 1352 هـ.
(2)
انظر في «الظاهرية» ، حديث 196 مخطوطة " جمع الجوامع " والموجود منه جـ 3.