الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ ابْن عقيل، وَابْن الْبَنَّا، وَغَيرهمَا: (يقدم مَا لَا يُوجب تخطئه النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ -
فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن على مَا يتَضَمَّن إِصَابَته فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن، على مَا يتَضَمَّن إِصَابَته فِي الظَّاهِر فَقَط.
فَالْأول مقدم ومرجح، لِأَنَّهُ بعيد عَن الْخَطَأ وَهُوَ اللَّائِق بِهِ وبحاله
صلى الله عليه وسلم َ -، كَمَا ورد فِي ضَمَان عَليّ رضي الله عنه دين الْمَيِّت، وَقَول عَليّ:" هما عَليّ "، وَأَنه ابْتِدَاء ضَمَان، وَأَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ - "
امْتنع من الصَّلَاة "، وَكَانَ وَقت
الِامْتِنَاع مصيبا فِي امْتِنَاعه، وَكَانَ مقدما على حمله على الْإِخْبَار عَن ضَمَان سَابق يكْشف عَن أَنه كَانَ امْتنع من الصَّلَاة فِي غير مَوْضِعه بَاطِنا) هَذَا لفظ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ".
وَقَالَ القَاضِي، وَابْن عقيل، وَجمع: وعام عمل بِهِ.
وَعكس الْآمِدِيّ.
وَمَعْنَاهُ: إِذا تعَارض عَام لم يعْمل بِهِ فِي صُورَة من الصُّور، وعام عمل بِهِ وَلَو فِي صُورَة، فَقَالَ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب وَغَيرهمَا: قدم مَا لم يعْمل بِهِ ليعْمَل بِهِ فَيكون قد عمل بهما، وَلَو اعْتبر مَا عمل بِهِ لزم إِلْغَاء الْآخِرَة بالمرة، وَالْجمع وَلَو بِوَجْه أولى.
وَقَالَ القَاضِي، وَابْن عقيل، وَجمع: يرجح الْعَام الَّذِي عمل بِهِ؛ لِأَنَّهُ شَاهد لَهُ بِالِاعْتِبَارِ لقُوته بِالْعَمَلِ.
وَإِذا تعَارض عامان أَحدهمَا أمس بِالْمَقْصُودِ وَأقرب إِلَيْهِ قدم على الآخر، مثل قَوْله تَعَالَى:{وَأَن تجمعُوا بَين الْأُخْتَيْنِ} [النِّسَاء: 23]، يقدم فِي مَسْأَلَة الْجمع بَينهمَا فِي وَطْء النِّكَاح على قَوْله تَعَالَى:{أَو مَا ملكت أَيْمَانكُم} [النِّسَاء: 3] ، فَإِنَّهُ أمس بِمَسْأَلَة الْجمع؛ لِأَن الْمَسْأَلَة الأولى قصد بهَا بَيَان تَحْرِيم الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ فِي الْوَطْء بِنِكَاح وَملك يَمِين، وَالثَّانيَِة لم يقْصد بهَا بَيَان حُرْمَة الْجمع.
وَإِذا تعَارض خبران، وَفسّر رَاوِي أَحدهمَا مَا قد رَوَاهُ بقول أَو فعل دون رَاوِي الآخر، قدم الأول؛ لِأَنَّهُ أعرف بِمَا رَوَاهُ فَيكون ظن الحكم بِهِ أوثق، كَحَدِيث عبد الله بن عمر فِي خِيَار الْمجْلس، وَأَن المُرَاد بالتفرق تفرق الْأَبدَان؛ لِأَنَّهُ فسره بذلك، لِأَنَّهُ اشْتَمَل على فَائِدَة زَائِدَة.
ويرجح أحد الْخَبَرَيْنِ على الآخر بِذكر السَّبَب، فَإِن الحَدِيث الَّذِي ذكر الرَّاوِي السَّبَب مَعَه رَاجِح أحد الْخَبَرَيْنِ على مَا لم يذكر السَّبَب مَعَه؛ لِأَن ذكر السَّبَب يدل على زِيَادَة اهتمام الرَّاوِي بالرواية.
ويرجح أحد الْخَبَرَيْنِ على الآخر إِذا كَانَ سِيَاقه أحسن؛ لِأَنَّهُ يدل على أَنه أولى من غَيره.
ويرجح - أَيْضا -: باقتران قرينَة تدل على تَأَخره على الآخر، وَذَلِكَ مثل تَأَخّر إِسْلَام رَاوِيه؛ إِذْ الآخر يجوز أَن يكون قد سَمعه قبل إِسْلَامه، لَا سِيمَا إِن علم موت الآخر قبل إِسْلَامه.
وَمثل كَونه مؤرخا بتاريخ مضيق وَالْآخر بتاريخ موسع، نَحْو: ذِي الْقعدَة من سنة كَذَا، وَسنة كَذَا لاحْتِمَال كَون الآخر قبل ذِي الْقعدَة.
وَمثل أَن يكون فِيهِ تَشْدِيد؛ لِأَن التشديدات مُتَأَخِّرَة، لِأَنَّهَا إِنَّمَا جَاءَت حِين ظُهُور الْإِسْلَام وكثرته وعلت شوكته، وَالتَّخْفِيف كَانَ فِي أول الْإِسْلَام، وَحَدِيث عَائِشَة يدل على ذَلِك.
وَكَذَا [كل] مَا يشْعر بشوكة الْإِسْلَام، قَالَه الْعَضُد وَغَيره.
قَوْله: {المعقولان قياسان أَو استدلالان، فَالْأول يعود إِلَى: أَصله، وفرعه، ومدلوله، وَأمر خَارج} .
لما فَرغْنَا من مرجحات المنقولين بأنواعه شرعنا فِي تَرْجِيح المعقولين بأنواعه، وَهُوَ الْغَرَض الْأَعْظَم من بَاب التراجيح وَفِيه اتساع مجَال الِاجْتِهَاد.
تَرْجِيح الْقيَاس بِحَسب أَصله من وُجُوه:
بِأَن يكون دَلِيل أَصله أقوى، وَتَحْته صور:
أَحدهَا: أَن يكون قَطْعِيا فَيقدم على مَا دَلِيل أَصله ظَنِّي، كَقَوْلِنَا فِي لعان الْأَخْرَس: إِن مَا صَحَّ من النَّاطِق صَحَّ من الْأَخْرَس كاليمين، فَإِنَّهُ أرجح من قياسهم على شَهَادَته تعليلا بِأَنَّهُ يفْتَقر إِلَى لفظ الشَّهَادَة؛ لِأَن الْيَمين تصح من الْأَخْرَس بِالْإِجْمَاع، وَالْإِجْمَاع قَطْعِيّ، وَأما جَوَاز شَهَادَته فَفِيهِ خلاف بَين الْفُقَهَاء.
الصُّورَة الثَّانِيَة: بِقُوَّة دَلِيله، لِأَنَّهُ أغلب على الظَّن.
الصُّورَة الثَّالِثَة: بِكَوْنِهِ لم ينْسَخ بِاتِّفَاق، فَإِن مَا قيل بِأَنَّهُ مَنْسُوخ، وَإِن كَانَ القَوْل بِهِ ضَعِيفا، لَيْسَ كالمتفق عَلَيْهِ أَنه لم ينْسَخ.
الصُّورَة الرَّابِعَة: بِكَوْن حكم الأَصْل على سنَن الْقيَاس، وَالْقِيَاس الَّذِي يكون حكم أَصله جَارِيا على سنَن الْقيَاس رَاجِح على الْقيَاس الَّذِي لَا يكون كَذَلِك لبعده عَن الْخلَل.
وَفَسرهُ الْعَضُد " بِأَن يكون على سنَن الْقيَاس بِاتِّفَاق وَالْآخر مُخْتَلف فِيهِ؛ إِذْ لَو جرى على ظَاهره فمقابله على غير سنَن الْقيَاس، فَلَا يَصح فَلَا تعَارض فَلَا تَرْجِيح " انْتهى.
وَهُوَ كَمَا قَالَ
قَالَ الْبرمَاوِيّ ": " وَالْمرَاد بذلك هُنَا أَن يكون فَرعه من جنس أَصله كَمَا صرح بِهِ أَبُو الطّيب، وَالْمَاوَرْدِيّ، وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَغَيرهم.
وَذَلِكَ كقياس مَا دون أرش الْمُوَضّحَة فِي تحمل الْعَاقِلَة إِيَّاه، فَهُوَ أولى من قياسهم ذَلِك على غرامات الْأَمْوَال فِي إِسْقَاط التَّحَمُّل، لِأَن الْمُوَضّحَة من
جنس مَا اخْتلف فِيهِ فَكَانَ على سنَنه؛ إِذا لجنس أشبه، كَمَا يُقَال: قِيَاس الطَّهَارَة على الطَّهَارَة، أولى من قياسها على ستر الْعَوْرَة.
قَالَ: وَإِنَّمَا تعرضت لشرح ذَلِك لما سبق أَن من شَرط حكم الأَصْل فِي الْقيَاس أَن لَا يكون معدولا بِهِ عَن سنَن الْقيَاس، فَإِذا لم يَصح الْقيَاس كَيفَ يَقع التَّعَارُض، فبيت أَن ذَلِك الْمَشْرُوط هُنَاكَ لَيْسَ هُوَ المُرَاد هُنَا.
قَالَ: وَقد يُرَاد هُنَا أَن يكون أَحدهمَا على سنَن الْقيَاس بِاتِّفَاق وَالْآخر على رَأْي، فيرجح الَّذِي بِاتِّفَاق - كَمَا قَالَ الْعَضُد -.
قَالَ: وَكَذَا أَن يكون أَحدهمَا على سنَن الْقيَاس قَطْعِيا وَالْآخر ظنيا، فيرجح مَا كَانَ قَطْعِيا " انْتهى.
الصُّورَة الْخَامِسَة: يرجع لقِيَام دَلِيل خَاص على تَعْلِيله وَجَوَاز الْقيَاس عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ أبعد من التَّعَبُّد والقصور وَالْخلاف.
ويرجح مَا ثبتَتْ عليته بِالْإِجْمَاع على مَا ثبتَتْ عليته بِالنَّصِّ، لقبُول النَّص للتأويل بِخِلَاف الْإِجْمَاع، قَالَه فِي " الْمَحْصُول ".
ثمَّ قَالَ: وَيُمكن تَقْدِيم النَّص؛ لِأَن الْإِجْمَاع فَرعه.
وَجزم بِهَذَا الْبَحْث الأرموي فِي " الْحَاصِل "، والبيضاوي.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " نعم إِذا اسْتَوَى النَّص وَالْإِجْمَاع فِي الْقطع متْنا وَدلَالَة: كَانَ مَا دَلِيله الْإِجْمَاع راجحا، ودونهما إِذا كَانَا ظنيين.
فَإِن كَانَ أَحدهمَا ظنيا وَالْآخر إِجْمَاعًا ظنيا: رجح أَيْضا مَا كَانَ دَلِيله الْإِجْمَاع، لما سبق من قبُول النَّص النّسخ والتخصيص.
قَالَ الْهِنْدِيّ: هَذَا صَحِيح بِشَرْط التَّسَاوِي فِي الدّلَالَة، فَإِن اخْتلفَا فَالْحق أَنه يتبع فِيهِ الِاجْتِهَاد، فَمَا يكون إفادته للظن أَكثر فَهُوَ أولى، فَإِن الْإِجْمَاع وَإِن لم يقبل النّسخ والتخصيص، لَكِن قد تضعف دلَالَته بِالنِّسْبَةِ إِلَى
الدّلَالَة القطعية، فقد ينجبر النَّقْص بِالزِّيَادَةِ وَقد لَا ينجبر، فَيَقَع فِيهِ الِاجْتِهَاد " انْتهى.
هَذَا التَّرْجِيح يعود إِلَى عِلّة الأَصْل، فيرجح أحد القياسين على الآخر بِالْقطعِ بِالْعِلَّةِ، لِأَنَّهُ رَاجِح على مَا هُوَ مظنون، وَكَذَا لَو كَانَ دليلهما مَقْطُوعًا بِهِ، وَكَذَا بِالظَّنِّ الْأَغْلَب فيهمَا؛ فَشَمَلَ هَذَا الْكَلَام أَربع صور:
أَحدهَا: الْقطع بِالْعِلَّةِ يرجح على الظَّن بهَا.
الثَّانِيَة: الظَّن الْغَالِب فِي الْعلَّة يرجح على الظَّن غير الْغَالِب.
الثَّالِثَة: الْقطع بِدَلِيل الْعلَّة.
الرَّابِعَة: الظَّن الْغَالِب فِي دَلِيل الْعلَّة.
فيرجح الْقيَاس الَّذِي يكون مَسْلَك علته قَطْعِيا على الْقيَاس الَّذِي لَا يكون كَذَلِك.
ويرجح الْقيَاس الَّذِي استنبط عِلّة وَصفه بالسبر على الْقيَاس الَّذِي استنبط عِلّة وَصفه بالمناسبة، لتضمن السبر انْتِفَاء الْمعَارض فِي الأَصْل بِخِلَاف الْمُنَاسبَة.
ويرجح مَا ثبتَتْ عليته بالمناسبة على الثَّابِتَة بالشبه، لزِيَادَة غَلَبَة الظَّن بِغَلَبَة الْوَصْف الْمُنَاسب.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَأدنى الْمعَانِي فِي 5 الْمُنَاسبَة يرجح على أَعلَى الْأَشْبَاه.
ويرجح [مَا ثبتَتْ] علته بالشبه على الثَّابِتَة بالدوران، قطع بِهِ فِي " جمع الْجَوَامِع " وَغَيره.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: مَا ثَبت بالطرد وَالْعَكْس يقدم على غَيره من الْأَشْبَاه، لجريانه مجْرى الْأَلْفَاظ انْتهى.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ فِي " منهاجه ": " يرجع بالمناسبة الضرورية الدِّينِيَّة، ثمَّ الدُّنْيَوِيَّة، ثمَّ الَّتِي فِي حيّز الْحَاجة الْأَقْرَب اعْتِبَارا فَالْأَقْرَب، ثمَّ الدوران فِي مَحل، ثمَّ فِي محلين، ثمَّ السبر، ثمَّ الشّبَه، ثمَّ الْإِيمَاء، ثمَّ الطَّرْد " انْتهى.
فَقَالَ الْإِسْنَوِيّ فِي " شَرحه ": " يرجح الْقيَاس الَّذِي ثبتَتْ علية وَصفه بالمناسبة على الدوران وَغَيره مِمَّا بَقِي؛ لِأَن الْمُنَاسبَة لَا تنفك عَن الْعلية، وَأما الدوران فقد لَا يدل كالمتضايفين وَنَحْوه مِمَّا تقدم.
ويرجح الْقيَاس الَّذِي ثبتَتْ علية وَصفه بالدوران على الَّذِي ثبتَتْ عليته بالسبر وَغَيره من الطّرق الْبَاقِيَة، لِأَن الْغَلَبَة المستفادة من الدوران مطردَة منعكسة بِخِلَاف غَيره من الطّرق.
وَمِنْهُم من قدمه على الْمُنَاسبَة كَمَا قَالَه الرَّازِيّ لهَذَا الْمَعْنى أَيْضا.
- وَهَذَا القَوْل هُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الْمَتْن بقولنَا: وَقيل: الدوران فَالْمُنَاسِب -.
والدوران قد يكون فِي مَحل وَاحِد، وَهُوَ: أَن يحدث حكم فِي مَحل لحدوث صفة فِيهِ، وينعدم ذَلِك الحكم عَن ذَلِك الْمحل بِزَوَال ذَلِك الْوَصْف عَنهُ كدوران الْحُرْمَة مَعَ الْإِسْكَار فِي مَاء الْعِنَب وجودا وعدما.
وَقد يكون فِي محلين كاستدلال الْحَنَفِيّ على وجوب الزَّكَاة فِي الْحلِيّ: بدوران وجوب الزَّكَاة مَعَ الذَّهَب وجودا فِي الْمَضْرُوب وعدما فِي الثِّيَاب، [فالدوران] فِي مَحل أرجح فِي الْعلية من الدوران فِي محلين؛ لِأَن احْتِمَال الْخَطَأ فِيهِ أقل، أَلا ترى أَن يقطع فِي مثالنا بِأَن مَا عدى السكر من الصِّفَات لَيْسَ بعلة، وَإِلَّا لزم تخلف الْمَعْلُول على علته، بِخِلَاف مَا ثَبت فِي محلين، فَإِنَّهُ لَا يُفِيد الْقطع بِأَن غير الذَّهَب لَيْسَ عِلّة للْوُجُوب، لاحْتِمَال أَن تكون الْعلَّة فِيهِ هُوَ الْمَجْمُوع الْمركب من كَونه ذَهَبا، وَكَونه غير معد للاستعمال.
قَالَ: ويرجح الْقيَاس الَّذِي ثبتَتْ علية وَصفه بالسبر على الَّذِي ثبتَتْ علية وَصفه بالشبه وَغَيره مِمَّا بَقِي كالإيماء والطرد؛ لِأَن مُسَمَّاهُ عِلّة اتِّفَاقًا فِي العقليات والشرعيات، وَهُوَ السبر الْخَاص، بِخِلَاف الْبَوَاقِي فَإِن فِيهَا خلافًا مَشْهُورا، وَمِنْهُم من رَجحه على الْمُنَاسبَة، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب - وَهُوَ الَّذِي قدمْنَاهُ - لِأَنَّهُ يُفِيد علية الْوَصْف، وَنفي الْمعَارض لَهُ بِخِلَاف الْمُنَاسبَة، فَإِنَّهُ لَا دلَالَة لَهَا على نفي الْمعَارض " انْتهى.
قَوْله: {وبالقطع بِنَفْي الْفَارِق، أَو ظن غَالب، وَوصف حَقِيقِيّ وثبوتي، وباعث، على غَيرهَا} .
يرجح أحد القياسين على الآخر بطرِيق نفي الْفَارِق بَين الأَصْل وَالْفرع، فَالْقِيَاس الْمَقْطُوع بِنَفْي الْفَارِق فِيهِ بَين الأَصْل وَالْفرع رَاجِح على الْقيَاس الَّذِي يكون نفي الْفَارِق فِيهِ مظنونا، وَكَذَا الْقيَاس الَّذِي يكون نفي الْفَارِق مظنونا بِالظَّنِّ الْأَغْلَب رَاجِح على الَّذِي يكون نفي الْفَارِق فِيهِ مظنونا بِالظَّنِّ غير الْأَغْلَب.
ويرجح الْوَصْف الْحَقِيقِيّ على الْوَصْف الَّذِي هُوَ غير حَقِيقِيّ.
قَالَ الْعَضُد: " يقدم مَا الْعلَّة فِيهِ وصف حَقِيقِيّ على غَيره مِمَّا الْعلَّة فِيهِ وصف اعتباري أَو حِكْمَة مُجَرّدَة " انْتهى.
وَقَالَ غَيره: " يرجح التَّعْلِيل بِالْوَصْفِ الْحَقِيقِيّ وَهُوَ المظنة كالسفر، على
التَّعْلِيل بالحكمة كالمشقة، وعَلى الْوَصْف الاعتباري أَو الْحكمِي، كَقَوْلِنَا فِي الْمَنِيّ: مبدأ خلق الْبشر فَأشبه الطين، مَعَ قَوْلهم: مَائِع يُوجب الْغسْل فَأشبه الْحيض " انْتهى.
ويرجح مَا الْعلَّة فِيهِ وصف ثبوتي على مَا الْعلَّة فِيهِ عدمي.
ويرجح مَا الْعلَّة فِيهِ وصف باعث على مَا هِيَ مُجَرّد أَمارَة لظُهُور مُنَاسبَة الباعثة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " ويرجح بِالْقطعِ بِنَفْي الْفَارِق أَو ظن غَالب، وَالْوَصْف الْحَقِيقِيّ، أَو الثبوتي، أَو الْبَاعِث، على غَيرهَا للاتفاق عَلَيْهَا، وَلِأَن الحسية كالعقلية وَهِي مُوجبَة، وَلَا تفْتَقر فِي ثُبُوتهَا إِلَى غَيرهَا " انْتهى.
وَرجح أَبُو الْخطاب، والسمعاني، والشيرازي: الْحكمِيَّة،
وَذكره أَبُو الْخطاب عَن آخَرين، وللشافعية: وَجْهَان، لِأَنَّهَا أَشد مُطَابقَة للْحكم وبلازمه فَهِيَ أخص بِهِ.
وَسوى الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بَين حسية وحكمية وثبوتية وعكسها، فَقَالَ فِي " المسودة ": إِذا كَانَت إِحْدَاهمَا حسية وَالْأُخْرَى حكمِيَّة، أَو إِحْدَاهمَا إِثْبَاتًا وَالْأُخْرَى نفيا، فَلَا تَرْجِيح بذلك.
وَقَالَ بعض الجدليين: " ترجح المنفية على الحسية، وَقَالَ أَبُو الْخطاب: المنفية أولى وَلم يذكر فِيهِ خلافًا " انْتهى.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَلم يرجح بعض أَصْحَابنَا الثبوتي، وَكَونه نفس الْعلَّة على ملازمها ذكره الْآمِدِيّ " انْتهى.
قَالَ الطوفي: " إِذا تعَارض قياسان وَالْجَامِع فِي أَحدهمَا حكم شَرْعِي، وَفِي الآخر وصف حسي، الْجَامِع فِي أَحدهمَا حكم سَلبِي، وَفِي الآخر حكم إثباتي، فَالْحكم الشَّرْعِيّ مقدم على الْوَصْف الْحسي، لِأَن الْقيَاس طَرِيق شَرْعِي لَا حسي، فَكَانَ الِاعْتِمَاد فِيهِ على الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة أولى مِنْهُ فِي الِاعْتِمَاد على الْأَوْصَاف الحسية، وَكَذَلِكَ الحكم السلبي مقدم على الثبوتي، لِأَنَّهُ أوفق للْأَصْل؛ إِذْ الأَصْل عدم الْأَشْيَاء كلهَا، قَالَه بعض الْأُصُولِيِّينَ.
وَقَالَ الْآخرُونَ: الحكم الشَّرْعِيّ مَعَ الْوَصْف الْحسي، وَالْحكم السلبي مَعَ الإثباتي سَوَاء؛ لِأَن الدَّلِيل لما قَامَ على علية كل وَاحِد من الْأَمريْنِ ثبتَتْ عليته، وَالظَّن لَا يتَفَاوَت بِشَيْء مِمَّا ذكرنَا، فاستويا لعدم مَا يصلح تَرْجِيحا ".
قَوْله: {وظاهرة، ومنضبطة، مطردَة، ومنعكسة، ومتعدية، وَأكْثر تَعديَة، على غَيرهَا} .
تقدم الْعلَّة الظَّاهِرَة على الْعلَّة الْخفية.
وَالْعلَّة المنضبطة على الْعلَّة المضطربة لأجل الْخلاف فِي مقابلتهما.
وَتقدم الْعلَّة المطردة على الْعلَّة المنقوضة؛ لِأَن شَرط الْعلَّة اطرادها، وَلِأَن المطردة أغلب على الظَّن، وأضعف المنقوضة بِالْخِلَافِ فِيهَا.
وَتقدم الْعلَّة المنعكسة على غير المنعكسة لِأَنَّهَا أكمل، لِأَن الانعكاس وَإِن لم يفد الْعلية لكنه يقويها.
وَتَأْتِي المطردة فَقَط، والمنعكسة فَقَط وَكَلَام الطوفي هُنَاكَ قَرِيبا.
وَتقدم المتعدية على القاصرة على الْأَصَح، لِكَثْرَة فوائدها، كالتعليل
فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة بِالْوَزْنِ، فيتعدى الحكم إِلَى كل مَوْزُون: كالحديد، والنحاس، والصفر، وَنَحْوهَا، بِخِلَاف التَّعْلِيل بالثمنية والنقدية، فَلَا يتعداهما، فَكَانَ التَّعْلِيل بِالْوَزْنِ الَّذِي هُوَ وصف مُتَعَدٍّ لمحل النَّقْدَيْنِ إِلَى غَيرهمَا أَكثر فَائِدَة من الثمنية القاصرة عَلَيْهِمَا.
فعلى هَذَا القَوْل ترجح الْعلَّة الَّتِي هِيَ أَكثر فروعا على [الَّتِي] هِيَ أقل.
مِثَاله: لَو قَدرنَا أَن أَكثر عللنا فِي الرِّبَا الْكَيْل؛ لِأَن عِلّة الْكَيْل حِينَئِذٍ تكون أَكثر فروعا، وَلَو قَدرنَا أَن المطعومات أَكثر عللنا فِيهِ بالطعم؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ أَكثر فروعا، وَحِينَئِذٍ يصير الْأَقَل فروعا بِالْإِضَافَة إِلَى الْأَكْثَر فروعا، كالقاصرة بِالنِّسْبَةِ إِلَى المتعدية، وَيخرج فيهمَا الْأَقْوَال الثَّلَاثَة فِي المتعدية والقاصرة.
وَقدم الْأُسْتَاذ الْعلَّة القاصرة على الْعلَّة المتعدية، إِن قيل بِصِحَّتِهَا لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَنَّهَا مُطَابقَة للنَّص فِي موردها [أَي] لم يتَجَاوَز تأثيرها مَوضِع النَّص، بِخِلَاف المتعدية فَإِنَّهَا لم تطابق النَّص بل زَادَت عَلَيْهِ، وَمَا طابق النَّص كَانَ أولى.
الثَّانِي: أَمن صَاحبهَا الْمُعَلل بهَا من الْخَطَأ، لِأَنَّهُ لَا يحْتَاج إِلَى التَّعْلِيل بهَا فِي غير مَحل النَّص كالمتعدية، فَرُبمَا أَخطَأ بالوقوع فِي بعض مثارات الْغَلَط فِي الْقيَاس، وَمَا أَمن فِيهِ من الْخَطَأ أولى مِمَّا كَانَ عرضة لَهُ.
وَقَالَ أَبُو بكر الباقلاني، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَالْفَخْر إِسْمَاعِيل، والطوفي: هما سَوَاء لَا رُجْحَان لأَحَدهمَا [على] الآخر، لقِيَام الدَّلِيل على صحتهما، وَلِأَن الْفُرُوع لَا تبنى على قُوَّة ذَاتهَا.
فَإِن قيل: الْعلَّة القاصرة لَا يُمكن الْقيَاس عَلَيْهَا، فَالْكَلَام فِي التَّرْجِيح
بَينهَا وَبَين الْعلَّة المتعدية لَا يتَعَلَّق بترجيح الأقيسة؛ إِذْ التَّرْجِيح إِنَّمَا يكون من وجودين، وَالْقِيَاس على القاصرة غير مَوْجُود وَلَا يُمكن، فَكيف يَصح التَّرْجِيح بَينه وَبَين الْقيَاس على الْعلَّة المتعدية؟
وَالْجَوَاب: أَنه لَيْسَ فَائِدَة ذَلِك تَرْجِيح أحد القياسين على الآخر كَمَا ذكرْتُمْ، بل فَائِدَته أَنى إِن رجحنا المتعدية أمكن الْقيَاس وَإِلَّا فَلَا، كالوزن فِي النَّقْدَيْنِ وَعَدَمه بِتَقْدِير تَقْدِيم القاصرة كالثمنية؛ إِذْ القاصرة لَا يتَعَدَّى مَحَله ليقاس عَلَيْهِ.
قَوْله: {وَإِن تقابلت عِلَّتَانِ فِي أصل: فَمَا قل أوصافها أولى} .
هَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، وَقدمه الْمجد فِي " المسودة "، والطوفي، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهم، وَذَلِكَ للشبه بِالْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّة، وَلِأَنَّهَا أجْرى على الْأُصُول، وأسهل على الْمُجْتَهد، وَأكْثر فَائِدَة وفروعا، كَشَهَادَة الْأُصُول.
وَقَالَ الْفَخر: هما سَوَاء.
وَهَذَا الصَّحِيح لقُوَّة شبهه بِالْأَكْثَرِ وَقدمه ابْن مُفْلِح، وَالْمجد فِي " المسودة "، وَغَيرهمَا.
وَقَالَ أَكثر الشَّافِعِيَّة: القليلة الْأَوْصَاف أولى.
وَهُوَ احْتِمَال فِي " التَّمْهِيد "، لِأَنَّهَا أسلم من الْفساد.
وَاخْتَارَ أَبُو الْخطاب، وَالْحَنَفِيَّة، وَبَعض الشَّافِعِيَّة أَنَّهُمَا سَوَاء، لتساويهما فِي إِفَادَة الحكم، والسلامة من الْفساد، وهما من جنس، فَلَا يلْزم تَقْدِيم الْخَبَر على الْقيَاس؛ لِأَن دلالتهما نطق، وَالْقِيَاس معنى.
وَبنى الطوفي الْمَسْأَلَة على الْعلَّة المتعدية والقاصرة، كَمَا تقدم لَفظه فِي المتعدية والقاصرة.
وَقدم الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وشراح مُخْتَصره، وَغَيرهم: المتحدة على المتعددة للضبط، والبعد من الْخلاف.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": المتحدة وقليلة الْأَوْصَاف أولى.
وَفِيه أَيْضا: إِذا صحتا فَمَا كثر فروعها أَو اسْتَويَا سَوَاء، وَاعْتبر قوم جدليون لصحتها تَسَاوِي الْفَرْع.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَا يَصح.
والبيضاوي: العدمي للعدمي فَقَالَ: فِي " منهاجه ": " يرجح [الوجودي] للوجودي، ثمَّ العدمي للعدمي " انْتهى.
قَالَ الْإِسْنَوِيّ فِي " شَرحه ": " الْوَصْف وَالْحكم قد يكونَانِ وجوديين، وَقد يكونَانِ عدميين، وَقد يكون الحكم وجوديا، وَالْوَصْف عدميا، وَقد يكون بِالْعَكْسِ، فتعليل الحكم الوجودي بِالْوَصْفِ الوجودي أرجح من الْأَقْسَام الثَّلَاثَة، لِأَن الْعلية، والمعلولية وصفان ثبوتيان فحملهما على الْمَعْدُوم لَا يُمكن إِلَّا إِذا قدر الْمَعْدُوم مَوْجُودا، ثمَّ يَلِي هَذَا الْقسم فِي الْأَوْلَوِيَّة تَعْلِيل العدمي بالعدمي، وَحِينَئِذٍ فَيكون أرجح من تَعْلِيل الحكم الوجودي بِالْعِلَّةِ العدمية وَمن الْعَكْس للمشابهة " انْتهى.
لم يرجح القَاضِي فِي " الْعدة "، وَالْحَنَفِيَّة، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، بِكَوْن أَحدهمَا أَعم كالطعم أَعم من الْكَيْل كالعمومين.
ورد ذَلِك: بِأَنَّهُ يُمكن بِنَاء أَحدهمَا على الآخر بِخِلَاف هَذَا.
ورجحها القَاضِي فِي " الْكِفَايَة " كَمَا سبق.
وَاخْتلف اخْتِيَار أبي الْخطاب وَذكر على الأول وَجْهَيْن: هَل ترجح المتعدية أَو سَوَاء؟
قَالَ كثير من الشَّافِعِيَّة: يقدم التَّعْلِيل بِالْعِلَّةِ البسيطة كتعليل الرِّبَا بالطعم على التَّعْلِيل بِالْعِلَّةِ المركبة، كالطعم مَعَ التَّقْدِير بكيل أَو وزن لِكَثْرَة فروع البسيطة وفوائدها، ولقلة الِاجْتِهَاد فِيهِ.
وَقيل: ترجح المركبة.
وَقيل: هما سَوَاء.
وَفِي " التَّلْخِيص " لإِمَام الْحَرَمَيْنِ قَالَ القَاضِي: وَلَعَلَّه الصَّحِيح. انْتهى.
تقدم الْعلَّة المطردة فَقَط على المنعكسة فَقَط؛ لِأَن اعْتِبَار الاطراد مُتَّفق عَلَيْهِ، وَضعف الثَّانِيَة بِعَدَمِ الاطراد أَشد من ضعف الأولى بعد الانعكاس.
وَقَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": " تقدم المطردة على غَيرهَا إِن قيل بِصِحَّتِهَا، والمنعكسة على غَيرهَا إِن اشْترط الْعَكْس؛ لِأَن انْتِفَاء الحكم عِنْد انتفائها يدل على زِيَادَة اختصاصها بالتأثير، فَيصير كالحد مَعَ الْمَحْدُود، وَالْعلَّة الْعَقْلِيَّة مَعَ الْمَعْلُول ".
قَالَ فِي " شَرحه ": " وَتَحْقِيق هَذَا أَن غير المطردة وَهِي المنتقضة بِصُورَة فَأكْثر إِن لم نقل بِصِحَّتِهَا لم تعَارض المطردة حَتَّى تحْتَاج إِلَى التَّرْجِيح، فَإِن قُلْنَا بِصِحَّتِهَا فاجتمعت هِيَ والمطردة: فالمطردة راجحة، لِأَن ظن الْعلية فِيهَا أغلب، وَلِأَنَّهَا مُتَّفق عَلَيْهَا والمنتقضة مُخْتَلف فِيهَا، فهما كالعامين إِذا خص أَحدهمَا دون الآخر كَانَ الْبَاقِي على عُمُومه راجحا.
ثمَّ قَالَ: والمنعكسة راجحة على غير المنعكسة إِن اشْترط الْعَكْس يَعْنِي فِي الْعِلَل، وَسبق أَن انعكاس الْعلَّة هَل هُوَ شَرط فِي صِحَّتهَا أم لَا؟ فَإِن لم يشْتَرط الْعَكْس لم ترجح المنعكسة على غير المنعكسة؛ لِأَن الْمُشْتَرك بَينهمَا فِي شَرط الصِّحَّة هُوَ الاطراد وَهُوَ مَوْجُود، والانعكاس غير مشترط فوجوده
كَالْعدمِ، وَإِن اشترطنا انعكاس الْعلَّة رجحت المنعكسة على غَيرهَا؛ لِأَن انْتِفَاء الحكم عِنْد انتفائها يدل على زِيَادَة اختصاصها بالتأثير، فَتَصِير كالحد مَعَ الْمَحْدُود، وَيقدم المنعكس على غَيره، وكالعلة الْعَقْلِيَّة مَعَ الْمَعْلُول كالتسويد مَعَ الاسوداد، فَكَانَت الشبيهة لَهَا من الْعِلَل الشَّرْعِيَّة أولى " انْتهى.
إِذا تَعَارَضَت أَقسَام من الْمُنَاسبَة قدم بِحَسب قُوَّة الْمصلحَة، فَتقدم الْأُمُور الْخَمْسَة الضرورية على غَيرهَا من حاجي أَو تحسيني.
وَتقدم الْمصلحَة الحاجية على التحسينية.
وَتقدم التكميلية من الْخَمْسَة الضرورية على أصل الحاجية.
وَإِذا تَعَارَضَت بعض الْخمس الضرورية قدمت الدِّينِيَّة على الْأَرْبَع الْأُخَر، لِأَنَّهَا الْمَقْصُود الْأَعْظَم، قَالَ الله تَعَالَى:{وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} [الذاريات: 56] ، [وَلِأَن] ثَمَرَته نيل السَّعَادَة الأخروية، لِأَنَّهَا أكمل الثمرات.
وَقيل: تقدم الْأَرْبَعَة الْأُخَر على الدِّينِيَّة، لِأَنَّهَا حق آدَمِيّ وَهُوَ يتَضَرَّر بِهِ، والدينية حق الله تَعَالَى وَهُوَ سبحانه وتعالى لَا يتَضَرَّر بِهِ، وَلذَلِك قدم قتل الْقصاص على قتل الرِّدَّة عِنْد الِاجْتِمَاع، ومصلحة النَّفس فِي تَخْفيف الصَّلَاة عَن مَرِيض ومسافر، وَأَدَاء صَوْم، وإنجاء غريق، وَحفظ المَال، بترك جُمُعَة وَجَمَاعَة، وَبَقَاء الذِّمِّيّ مَعَ كفره.
ورد ذَلِك: بِأَن الْقَتْل إِنَّمَا قدم لِأَن فِيهِ حقين، وَلَا يفوت حق الله بالعقوبة الْبَدَنِيَّة فِي الْآخِرَة، وَفِي التَّخْفِيف عَنْهُمَا تَقْدِيم على فروع الدّين لَا أُصُوله، ثمَّ هُوَ قَائِم مقَامه، فَلم يخْتَلف الْمَقْصُود وَكَذَا غَيرهمَا، وَبَقَاء الذِّمِّيّ من مصلحَة الدّين لاطلاعه على محَاسِن الشَّرِيعَة، فيسهل انقياده كَمَا فِي صلح الْحُدَيْبِيَة، وتسميته فتحا مُبينًا.
قلت: وَنَظِير الْقَتْل بالقود وَالرِّدَّة إِذا مَاتَ من عَلَيْهِ زَكَاة وَدين لآدَمِيّ، فَقيل: تقدم الزَّكَاة لِأَنَّهُ حق الله، اخْتَارَهُ القَاضِي فِي " الْمُجَرّد "، وَصَاحب " الْمُسْتَوْعب ".
وَعنهُ: يقدم دين الْآدَمِيّ.
وَالْمَشْهُور فِي الْمَذْهَب أَنهم يقتسمون بِالْحِصَصِ، وَنَصّ عَلَيْهِ أَحْمد، وَعَلِيهِ أَكثر أَصْحَابه.
وَكَذَا لَو مَاتَ وَعَلِيهِ حج وَدين وضاق مَاله عَنْهُمَا أَخذ لِلْحَجِّ بِحِصَّتِهِ وَحج من حَيْثُ يبلغ، نَص عَلَيْهِ أَحْمد، وَعَلِيهِ الْأَصْحَاب.
وَعنهُ: يقدم الدّين لتأكده.
وَلم يحكوا هُنَا فِي الأَصْل القَوْل بالتساوي، ولعلهم حكوه وَلم نره.
ثمَّ مصلحَة النَّفس؛ لِأَن الْبَقِيَّة لأَجلهَا وَبهَا تحصل الْعِبَادَات.
ثمَّ النّسَب بعْدهَا؛ لشدَّة تعلقه ببقائها فبقاء الْوَلَد لَا مربي لَهُ، فَيُؤَدِّي إِلَى هَلَاكه.
ثمَّ الْعقل بعده لفَوَات النَّفس بفواته، وَلِأَن بِهِ التَّكْلِيف، ثمَّ المَال
قَوْله: {وَمَا مُوجب نقض علته مَانع أَو فَوَات شَرط على مَا مُوجبه ضَعِيف، لِأَن قوته دَلِيل قوتها} .
أَي لِأَن قُوَّة مُوجب النَّقْض دَلِيل على قُوَّة الْعلَّة المنقوضة.
قَالَ الْعَضُد: " إِذا انْتقض العلتان، وَكَانَ مُوجب التَّخَلُّف فِي أَحدهمَا فِي صُورَة النَّقْض قَوِيا، وَفِي الآخر ضَعِيفا، قدم الأول ".
قَوْله: {وَمَا مُوجب نقضهَا محققا على مُحْتَمل، وبانتفاء مزاحمها فِي أَصْلهَا، وبرجحانها عَلَيْهِ} .
يرجح الْقيَاس الَّذِي يكون مُوجب نقض علته محققا على الْقيَاس الَّذِي يكون مُوجب نقض علته مُحْتملا.
ويرجح الْقيَاس الَّذِي قد انْتَفَى مُزَاحم علته فِي الأَصْل على مَا لم ينتف
مُزَاحم علته فِيهِ، لِأَن انْتِفَاء مُزَاحم الْعلَّة يُفِيد غَلَبَة الظَّن بِالْعِلَّةِ.
قَالَ الْعَضُد: ترجح الْعلَّة بِانْتِفَاء الْعلَّة المزاحم لَهَا فِي الأَصْل، بِأَن لَا تكون مُعَارضَة وَالْأُخْرَى مُعَارضَة، ويرجح الْقيَاس الَّذِي تكون علته راجحة على مزاحمها فِي الأَصْل على مَا لَا تكون علته راجحة على مزاحمها.
قَوْله: {والمقتضية للثبوت عِنْد القَاضِي، وَأَصْحَابه، والموفق، وَغَيرهم} .
لِأَن الْمُقْتَضِيَة للثبوت تفِيد حكما شَرْعِيًّا لم يعلم بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّة بِخِلَاف الْمُقْتَضِيَة للنَّفْي، فَإِنَّهَا تفِيد مَا علم بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّة، وَمَا فَائِدَته شَرْعِيَّة رَاجِح على غَيره.
وقاسه أَبُو الْخطاب على الْخَبَرَيْنِ.
وَعند الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهمَا.
ترجح النافية؛ لِأَن الْمُقْتَضِيَة للنَّفْي متأيدة بِالنَّفْيِ.
وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ النافية لتتمة مقتضاها بِتَقْدِير رُجْحَانهَا، وَبِتَقْدِير مساواتها ولتأييدها بِالْأَصْلِ، وَالْحكم إِنَّمَا يطْلب للحكمة، والشارع يحصلها بالحكم وبنفيه.
وَذكر أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " فِي الْمُقْتَضِيَة للنَّفْي احتمالات.
أَحدهَا: سَوَاء، وَهَذَا اخْتِيَار الْحلْوانِي، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَظَاهر اخْتِيَار " الرَّوْضَة ".
وَالثَّانِي: النافية، وَهَذَا اخْتِيَار أبي عبد الله الْبَصْرِيّ.
وَالثَّالِث: المثبتة، وَهَذَا اخْتِيَار القَاضِي عبد الْجَبَّار.
قَالَ القَاضِي فِي " الْكِفَايَة ": هَذَا أشبه بأصلنا وَتعلق بِكَلَام الإِمَام أَحْمد.
يرجح أحد القياسين على الآخر بِقُوَّة الْمُنَاسبَة؛ لِأَن قُوَّة الْمُنَاسبَة تفِيد قُوَّة ظن الْعلية.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وبقة الْمُنَاسبَة بِأَن يكون أفْضى إِلَى مقصودها أَو لَا تناسب نقيضه ".
ويرجح الْقيَاس الَّذِي تكون علته عَامَّة فِي الْمُكَلّفين، أَي: متضمنة لمصْلحَة عُمُوم الْمُكَلّفين على الْقيَاس الَّذِي تكون علته جَامِعَة لبَعض الْمُكَلّفين، لِأَن مَا تكون فَائِدَته أَكثر أولى.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": لَهُ الِاسْتِدْلَال بِكُل من علتين مستقلتين.
وَقدم الْكَرْخِي وَأكْثر الشَّافِعِيَّة الْخَاصَّة لتصريحها بالحكم.
وَكَذَا مَا أَصْلهَا من جنس فرعها كإلحاق بيع الْغَائِب بالسلم بِلَا صفة، وَبِقَوْلِهِ: بِعْتُك عبدا، وَاخْتَارَ ذَلِك الْكَرْخِي، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، كالعلة الْخَاصَّة.
قَوْله: {والموجب للحرية عِنْد القَاضِي وَغَيره، وَقيل: عَكسه، وَأَبُو الْخطاب: سَوَاء} .
تقدم الْمُقْتَضِيَة للحرية، قدمه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " وَقَالَ:(قَالَه القَاضِي، وَبَعض الْمُتَكَلِّمين) .
وَقيل: عَكسه، أَي: تقدم الْعلَّة الْمُقْتَضِيَة للرق.
وَاخْتَارَ أَبُو الْخطاب: أَنَّهُمَا سَوَاء وَذكره عَن الشَّافِعِيَّة.
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": " ترجح مسقطة الْحَد على موجبته، وموجبة الْعتْق على نافيته، وَالَّتِي هِيَ أحف حكما على الَّتِي أثقل حكما، على خلاف [فِي] ذَلِك كُله، كَمَا سبق فِي نَظِيره من الْأَخْبَار؛ لِأَن الْعِلَل مستفادة من النُّصُوص فتتبعها فِي الْخلاف والوفاق فِي ذَلِك وَنَحْوه، وَهَذَا كُله فِي المنصوصتين والمستنبطتين، أما فِي المنصوصة والمستنبطة، فالمنصوصة وَاجِبَة التَّقْدِيم بِكُل حَال، كَمَا سبق فِي الْمُنَاسبَة مَعَ غَيرهَا " انْتهى.
قَوْله: {والحاظرة أولى عِنْد القَاضِي، وَأبي الْخطاب، وَابْن عقيل، والكرخي، لِأَنَّهَا أولى وأحوط} .
أَي: الَّتِي توجب الْحَظْر مُقَدّمَة على الَّتِي توجب الْإِبَاحَة، وَقطع بِهِ
الطوفي فِي مَتنه وَشَرحه.
وَذكر أَبُو الْخطاب احْتِمَالا بِأَنَّهُمَا سَوَاء، وَهُوَ ظَاهر اخْتِيَار الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ".
وللشافعية وَجْهَان، كهذين.
تقدم عَامَّة الأَصْل بِأَن تُوجد فِي جَمِيع جزئياته؛ لِأَنَّهَا أَكثر فَائِدَة مِمَّا لم تعم، كالطعم فِيمَن يُعلل بِهِ فِي بَاب الرِّبَا، فَإِنَّهُ مَوْجُود فِي الْبر مثلا قَلِيله وَكَثِيره، بِخِلَاف " الْقُوت " الْعلَّة عِنْد الْحَنَفِيَّة فَلَا يُوجد فِي قَلِيله، فجوزوا بيع الحفنة مِنْهُ بالحفنتين.
قَوْله: {وَمَا وجد حكمهَا مَعهَا على مَا قبلهَا، وَمَا وصف بموجود
فِي الْحَال على مَا يجوز وجوده فِي الثَّانِي، وَمَا عَمت معلولها على مَا خصته، ومفسرة على مجملة عِنْد أَصْحَابنَا فِيهِنَّ} .
هَذِه الصُّور ذكرهَا أَبُو الْخطاب وَغَيره من أَصْحَابنَا.
وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد ": " مِنْهَا أَن يكون حكم أَحدهمَا مَعهَا وَحكم الْأُخْرَى مَوْجُودا قبلهَا فَالْأولى أولى، لِأَنَّهُ يدل على تأثيرها فِي الحكم، كتعليل أَصْحَابنَا فِي الْبَائِن: أَنَّهَا لَا نَفَقَة لَهَا وَلَا سُكْنى؛ لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّة مِنْهُ فَأشبه المنقضية الْعدة.
- قَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَفِيه نظر -.
ويعلل الْخصم: بِأَنَّهَا مُعْتَدَّة من طَلَاق أشبه الرَّجْعِيَّة، فعلتنا أولى؛ لِأَن الحكم وَهُوَ سُقُوط النَّفَقَة وجد بوجودها، وَقبل أَن تصير أَجْنَبِيَّة كَانَت النَّفَقَة وَاجِبَة، وعلتهم غير مُؤثرَة؛ لِأَن وجوب النَّفَقَة وَالسُّكْنَى تجب للزَّوْجَة قبل أَن تصير مُعْتَدَّة فَوَجَبَ لَهَا النَّفَقَة وَالسُّكْنَى ".
وَقَالَ أَيْضا: وَمِنْهَا: " أَن [تكون إِحْدَاهمَا] مَوْصُوفَة بِمَا هُوَ مَوْجُود فِي الْحَال، وَالْأُخْرَى مَوْصُوفَة بِمَا يجوز وجوده فِي الثَّانِي كتعليل أَصْحَابنَا فِي رهن الْمشَاع، أَنه عين يَصح بيعهَا فصح رَهنهَا كالمفرد.
وتعليل الْخصم، بِأَنَّهُ قَارن العقد معنى يُوجب اسْتِحْقَاق رفع يَده فِي الثَّانِي، فعلتنا مُحَققَة الْوُجُود، وَمَا ذَكرُوهُ يجوز أَن يُوجد، وَيجوز أَن لَا يُوجد، فَكَانَت علتنا أولى ".
وَقَالَ أَيْضا: " وَمِنْهَا أَن تكون إِحْدَاهمَا تستوعب معلولها، كقياسنا فِي جَرَيَان [الْقصاص] بَين الرجل وَالْمَرْأَة فِي الْأَطْرَاف: بِأَن من جرى [الْقصاص] بَينهمَا فِي النَّفس جرى بَينهمَا فِي الْأَطْرَاف كالحرين.
أولى من قياسهم بِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي بدل النَّفس فَلَا يجْرِي [الْقصاص]
بَينهمَا فِي الْأَطْرَاف، كَالْمُسلمِ مَعَ الْمُسْتَأْمن، لِأَنَّهُ لَا تَأْثِير لقَولهم، فَإِن الْعَبْدَيْنِ وَلَو تَسَاويا فِي الْقيمَة، لَا يجْرِي [الْقصاص] بَينهمَا فِي الْأَطْرَاف عِنْده ".
وَقَالَ أَيْضا: وَمِنْهَا: " أَن تكون إِحْدَاهمَا مفسرة وَالْأُخْرَى مجملة كقياسنا فِي الْأكل فِي رَمَضَان، أَنه لَا كَفَّارَة فِيهِ، لِأَنَّهُ إفطار بِغَيْر مُبَاشرَة فَأشبه لَو ابتلع حَصَاة، أولى من قياسهم: أفطر بمسوغ جنسه؛ لِأَن الْمُفَسّر فِي
الْكتاب وَالسّنة مقدم على الْمُجْمل، وَكَذَا فِي المستنبطة ".
انْتهى كَلَامه فِي " التَّمْهِيد ".
هَذَا التَّرْجِيح الْعَائِد إِلَى الْفَرْع وَيحصل بترجيح الْقيَاس بِحَسبِهِ من وُجُوه، فيرجح الْقيَاس الَّذِي يكون فَرعه مشاركا لأصله فِي عين الحكم وَعين الْعلَّة، على الثَّلَاثَة، أَي: على مَا يكون فَرعه مشاركا لأصله فِي جنس الحكم وجنس الْعلَّة، وَفِي جنس الحكم وَعين الْعلَّة، وَفِي عين الحكم وجنس الْعلَّة، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة بقولنَا: على الثَّلَاثَة، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِك؛ لِأَن التَّعْدِيَة
بِاعْتِبَار الِاشْتِرَاك فِي الْمَعْنى الْأَخَص يكون أغلب على الظَّن من الِاشْتِرَاك فِي الْمَعْنى الْأَعَمّ.
ويرجح الْقيَاس الَّذِي يكون فَرعه مشاركا لأصله فِي عين أَحدهمَا، أَي: عين الْعلَّة أَو الحكم على عَكسه، أَي: على الْقيَاس الَّذِي يكون فَرعه مشاركا لأصله فِي الجنسين، أَي: جنس الْعلَّة وجنس الحكم لما مر.
ويرجح الْقيَاس الَّذِي يكون فَرعه مشاركا لأصله فِي عين الْعلَّة على عَكسه، أَي: على الْقيَاس الَّذِي يكون فَرعه مشاركا لأصله فِي عين الحكم؛ لِأَن الْعلَّة أصل الحكم الْمُتَعَدِّي، فاعتبار مَا هُوَ مُعْتَبر فِي خُصُوص الْعلَّة أولى من اعْتِبَارهَا مَا هُوَ مُعْتَبر فِي خُصُوص الحكم.
ويرجح الْقيَاس الَّذِي تكون الْعلَّة فِي فَرعه مَقْطُوعًا على الْقيَاس الَّذِي تكون علته فِي الْفَرْع مظنونة.
ويرجح الْقيَاس الَّذِي ثَبت حكم الْفَرْع فِيهِ بِالنَّصِّ جملَة لَا تَفْصِيلًا، على الْقيَاس الَّذِي لم يثبت حكم الْفَرْع فِيهِ بِالنَّصِّ.
وَقَوْلنَا: جملَة؛ لِأَنَّهُ لَو ثَبت حكم الْفَرْع بِالنَّصِّ على سَبِيل التَّفْصِيل لم يكن ثَابتا بِالْقِيَاسِ، كَمَا مر فِي شَرط حكم الْفَرْع.
قَوْله: {الْمَدْلُول وَأمر خَارج نَظِير مَا سبق من المنقولين} .
أما الترجيحات العائدة إِلَى الْمَدْلُول وَهُوَ حكم الْفَرْع فعلى مَا تقدم، وَكَذَا الترجيحات العائدة من خَارج فعلى قِيَاس مَا سلف.
الصَّحِيح أَن الْعلَّة ترجح إِذا وافقها قَول الصَّحَابِيّ وَإِن لم نجعله حجَّة، وَقد تقدم نَظِير ذَلِك فِي الدَّلِيلَيْنِ وَأَن الصَّحِيح أَنه يرجح هُنَاكَ، فَكَذَا هُنَا.
وَالصَّحِيح - أَيْضا -: أَن الْمُرْسل يرجح بِهِ أحد الدَّلِيلَيْنِ فَكَذَلِك فِي الْعلَّة.
وَعند القَاضِي فِي " الْعدة ": لَا يرجح بِمَا لَا يثبت بِهِ حكم، فَلَا يرجح بمرسل وَلَا بقول صَحَابِيّ، إِذا لم يثبت بذلك حكم على القَوْل بِهِ.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": وَهُوَ مُحْتَمل، وَقَالَ أَيْضا: وَأطلق ابْن عقيل وَغَيره التَّرْجِيح بِهِ.
وَقيل لَهُ أَيْضا فِي تصويب كل مُجْتَهد: لَا خلاف فِي التَّرْجِيح بِمَا لَا يجوز ثُبُوت الحكم بِهِ.
فَقَالَ: لَا نسلم.
وَقد نقل الْجَمَاعَة عَن أَحْمد أَنه كَانَ يكْتب حَدِيث الرجل الضَّعِيف كَابْن لَهِيعَة، وَجَابِر الْجعْفِيّ، وَأبي بكر بن أبي مَرْيَم، فَيُقَال لَهُ؟ فَيَقُول: أعرفهُ أعتبر بِهِ كَأَنِّي أستدل بِهِ مَعَ غَيره.
وَيَقُول: " يُقَوي بَعْضهَا بَعْضًا ".
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: قَول أَحْمد: أستدل بِهِ مَعَ غَيره، يَعْنِي يصير حجَّة بالانضمام لَا مُنْفَردا.
وَكَذَا حكم الْمُرْسل، وَقَول الصَّحَابِيّ كالخبر الضَّعِيف يقوى بِهِ، ويرجح بِهِ، وَهُوَ الصَّوَاب.
لما فَرغْنَا من تَرْجِيح المعقولين شرعنا فِي تَرْجِيح الْمَنْقُول والمعقول.
فَإِذا وَقع التَّعَارُض بَين الْقيَاس وَالْمَنْقُول الَّذِي هُوَ الْكتاب وَالسّنة، فَإِن كَانَ الْمَنْقُول خَاصّا أَو دلّ على الْمَطْلُوب بمنطوقه يرجح على الْقيَاس، لكَون الْمَنْقُول أصلا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقيَاس، وَلِأَن الْمَنْقُول مقدماته أقل فَيكون أقل خللا.
وَإِن كَانَ الْمَنْقُول خَاصّا وَدلّ على الْمَطْلُوب لَا بمنطوقه فَهُوَ يَقع على دَرَجَات، لِأَن الظَّن الْحَاصِل من الْمَنْقُول الَّذِي دلّ على الْمَطْلُوب لَا بمنطوقه، قد يكون أقوى من الظَّن الْحَاصِل من الْقيَاس، وَقد يكون مُسَاوِيا لَهُ، وَقد يكون أَضْعَف، فالترجيح فِيهِ حسب مَا يَقع للنَّاظِر، فَلهُ أَن يعْتَبر الظَّن فِيهِ وَمن الْقيَاس، وَيَأْخُذ بأقوى الظنيين.
وَإِن كَانَ الْمَنْقُول عَاما فَحكمه مَعَ الْقيَاس قد تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ فِي بَاب الْخَبَر، فَلَا حَاجَة إِلَى إِعَادَته.