الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(قَوْله: {فصل} )
يجوز للعامي استفتاء من عرفه عَالما عدلا، أَو رَآهُ منتصبا مُعظما؛ لِأَنَّهُ إِذا عرف أَنه عَالم عدل كفى فِي جَوَاز استفتائه؛ لِأَن الْمَقْصُود من
الاستفتاء سَوَاء الْعَالم الْعدْل، وَهَذَا كَذَلِك، وَيَأْتِي حكم المستور وَالْفَاسِق فِي فتياهما.
وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ منتصبا للفتيا والتدريس مُعظما، فَإِن كَونه كَذَلِك يدل على علمه وَأَنه أهل للاستفتاء، وَلَا يجوز الاستفتاء فِي هَذِه عِنْد الْعلمَاء، وَذكره الْآمِدِيّ اتِّفَاقًا، هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى نَفسه.
وَأما بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِخْبَار فَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " وَغَيره: يَكْفِيهِ قَول عدل.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَمرَاده خَبِير "، وَهُوَ كَذَلِك وَإِلَّا لم يحصل الْمَقْصُود.
وَكَذَا قَالَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ: يقبل فِي معرفَة أَهْلِيَّته عدل وَاحِد.
قَالَ النَّوَوِيّ: " وَهُوَ مَحْمُول على من عِنْده معرفَة يتَمَيَّز بهَا التلبيس من غَيره، وَلَا يقبل فِي ذَلِك خبر آحَاد الْعَامَّة لِكَثْرَة مَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ من التلبيس فِي ذَلِك ".
وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني: لَا بُد من ثقتين.
وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: يعْتَمد على قَوْله أَنا أهل للْفَتْوَى لإِفَادَة التَّوَاتُر فِي المحسوس، واشتهار مَا لَا أصل لَهُ.
وَاعْتبر الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَابْن الصّلاح: الاستفاضة بِأَنَّهُ أهل للفتيا، وَهُوَ الرَّاجِح فِي " رَوْضَة النَّوَوِيّ "، وَنَقله عَن أَصْحَابهم.
فَلَا يَكْتَفِي بِوَاحِد وَلَا بِاثْنَيْنِ وَلَا مُجَرّد اعتزائه إِلَى الْعلم، وَلَو بِمنْصب تدريس أَو غَيره.
وَمرَاده فِي زَمَانه، بل هُوَ فِي هَذِه الْأَزْمِنَة أولى؛ لِأَن الدخيل قد دخل على الْفَقِيه والمدرسين.
قَالَ ابْن عقيل: يجب سُؤال أهل الثِّقَة والخبرة عَنهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يجوز الرُّجُوع إِلَى غَيره إِلَّا بعد علمه بِأَنَّهُ أهل بِدَلِيل النَّبِي وَالْحَاكِم والمقوم والمخبر بِعَيْب.
ثمَّ قَالَ: يَكْفِي خبر وَاحِد كَحكم شَرْعِي.
وَقَالَ الطوفي: " يُقَلّد من علمه أَو ظَنّه أَهلا بطرِيق مَا اتِّفَاقًا "، وَهُوَ معنى القَوْل الأول فِي الْمَسْأَلَة.
وَذكر ابْن عقيل عَن قَول: لَا يلْزمه فَيسْأَل من شَاءَ.
وَهَذَا خطأ فَإِن الله تَعَالَى قَالَ: {فسئلوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} [النَّحْل: 43] .
وروى عَن الشِّيعَة: منع تَقْلِيد غير الْمَعْصُوم، وَهُوَ مُقَابل لما قبله.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وهما باطلان، وَحَيْثُ قُلْنَا بِالْقبُولِ فَإِنَّهُ يقبل من العَبْد وَالْأُنْثَى والأخرس، إِمَّا بِإِشَارَة مفهومة أَو كِتَابَة؛ لأَنهم كغيرهم فِي ذَلِك.
يمْنَع عندنَا وَعند أَكثر الْعلمَاء من الْفَتْوَى من لم يعرف [بِأَنَّهُ] عَالم أَو جهل حَاله؛ لِأَن الأَصْل وَالظَّاهِر الْجَهْل، فَالظَّاهِر أَنه مِنْهُ، وَلَا يلْزم الْجَهْل بِالْعَدَالَةِ لأَنا نمنعه. ونقول: لَا يقبل من جهلت عَدَالَته.
ثمَّ سلمه فِي " الرَّوْضَة "، والآمدي، وَغَيرهمَا؛ لِأَن الْغَالِب عَدَالَة الْعلمَاء.
قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره: من عرف علم الِاجْتِهَاد، وَكَانَ عدلا لزمَه الِاجْتِهَاد، وَجَاز لَهُ أَن يُفْتِي.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": صفة من يسوغ فتواه: الْعَدَالَة.
وَكَذَا أطلق بعض أَصْحَابنَا، وَغَيرهم: يلْزم ولي الْأَمر منع من لَيْسَ أَهلا، وَكَذَا قَالَ الشَّافِعِي، وَغَيره: لَا يَنْبَغِي أَن يُفْتِي إِلَّا من كَانَ كَذَلِك.
وَقَالَ ربيعَة: بعض من يُفْتِي أَحَق بالسجن من السراق.
وَقَالَ فِي " الرَّوْضَة ": " الْعَدَالَة شَرط لجَوَاز اعْتِمَاد قَوْله ".
وَمَعْنَاهُ للْقَاضِي فِي " الْعدة ".
فَقَالَ: فِي " الْمُغنِي ": إِن من شهد مَعَ ظُهُور فسقه لم يُعَزّر؛ لِأَنَّهُ لَا يمْنَع صدقه.
وَكَلَامه هُوَ وَغَيره يدل على أَنه لَا يحرم أَدَاء فَاسق مُطلقًا.
الصَّحِيح أَن الْفَاسِق لَا تتعدى فتياه إِلَى غَيره، بل يُفْتِي نَفسه فَقَط، وَهَذَا مَذْهَبنَا، وَمذهب الشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بأمين على مَا يَقُول.
وَقَالَ ابْن الْقيم فِي " أَعْلَام الموقعين ": " قلت: الصَّوَاب جَوَاز استفتاء الْفَاسِق، إِلَّا أَن يكون مُعْلنا بِفِسْقِهِ دَاعيا إِلَى مذْهبه، فَحكم استفتائه حكم إِمَامَته وشهادته " انْتهى.
وَقَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره "، وَغَيره: وَلَا تشْتَرط عَدَالَته فِي اجْتِهَاده، بل فِي قبُول فتياه وَخَبره، وَهَذَا مُوَافق لقَوْل الْأَصْحَاب.
لَا تصح الْفَتْوَى وَلَا تقبل من مَسْتُور الْحَال، بل لَا بُد أَن يكون عدلا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ أَكثر الْأَصْحَاب، وَقدمه فِي " الْفُرُوع "، وَغَيره، كَمَا لَا تقبل رِوَايَته.
وَقيل: تصح، وَهَذَا أظهر، وَعمل النَّاس عَلَيْهِ لَا سِيمَا فِي هَذِه الْأَزْمِنَة، وَقدمه فِي " آدَاب الْمُفْتِي "، وَصَححهُ فِي " الرِّعَايَة الْكُبْرَى "، وَاخْتَارَهُ ابْن الْقيم فِي " أَعْلَام الموقعين ".
وَقيل: تصح إِن اكتفينا بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَة، وَإِلَّا فَلَا.
وَالصَّحِيح أَن الْفتيا تصح من الْعَدو قدمه فِي " الْفُرُوع " فِي بَاب أدب القَاضِي، و " الرِّعَايَة الْكُبْرَى "، و " آدَاب الْمُفْتِي "، وَغَيرهم.
وَقيل: لَا يُفْتِي عَلَيْهِ، اخْتَارَهُ الْمَاوَرْدِيّ كَالْحكمِ وَالشَّهَادَة عَلَيْهِ.
قَوْله: {ويفتي حَاكم} .
هَذَا الصَّحِيح وَأَنه كَغَيْرِهِ فِيهَا.
وَذكر بعض أَصْحَابنَا قولا: لَا يُفْتِي الْحَاكِم.
وَقد قَالَ القَاضِي شُرَيْح: " أَنا أَقْْضِي وَلَا أُفْتِي ".
وَقيل: يُفْتِي فِيمَا لَا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ: كالطهارة، وَالصَّلَاة، وَنَحْوهمَا، وَلَا يُفْتِي فِيمَا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهُ يصير كَالْحكمِ مِنْهُ على الْخصم، فَلَا يُمكن نقضه وَقت المحاكمة إِذا ترجح عِنْده ضِدّه بقول خَصمه أَو حجَّته أَو قَرَائِن حَالهمَا.
وَكَرِهَهُ ابْن الْمُنْذر فِيمَا يتَعَلَّق بالحكم.
إِذا علم ذَلِك فَالصَّحِيح أَن فتيا الْحَاكِم لَيست بِحكم.
قَالَ فِي " أَعْلَام الموقعين ": " فتيا الْحَاكِم لَيست حكما مِنْهُ، فَلَو حكم غَيره بِغَيْر مَا أفتى لم يكن نقضا لحكمه، وَلَا هِيَ كَالْحكمِ، وَلِهَذَا يجوز أَن يُفْتِي الْحَاضِر وَالْغَائِب وَمن يجوز حكمه لَهُ وَمن لَا يجوز " انْتهى.
وَقَالَ القَاضِي فِي " التَّعْلِيق "، وَالْمجد فِي " محرره "، وَمن تَبِعَهُمْ: فعل الْحَاكِم حكم إِن حكم بِهِ أَو غَيره وفَاقا كفتياه.
فَجعلَا الْفتيا حكما إِن حكم بِهِ هُوَ أَو غَيره.
الَّذِي يظْهر أَن حكم الْمُفْتِي حكم القَاضِي فِي ذَلِك، وَالصَّحِيح التَّحْرِيم فِي القَاضِي وَكَذَا فِي الْمُفْتِي، وَالصَّحِيح أَن حكم الْحَاكِم الْمُوَافق للحق ينفذ وَيصِح، فَكَذَلِك فِي الْفتيا.
وَمثل الْغَضَب: إِذا كَانَ حاقنا، أَو حاقبا، أَو بِهِ ريح محتشية، أَو فِي شدَّة مرض، أَو خوف، أَو فَرح غَالب، أَو ملل، أَو كسل، وَشدَّة جوع وعطش، وهم، ووجع، ونعاس، وَبرد مؤلم، وحر مزعج، ومرادهم بِالْغَضَبِ: الْغَضَب الْكثير وَكَذَا غَيره.
للمفتي أَخذ الرزق من بَيت المَال؛ لِأَن لَهُ فِيهِ حَقًا على الْفتيا، فَجَاز لَهُ أَخذ حَقه.
وَإِن تعين أَن يُفْتِي لعدم غَيره فَلهُ حالتان:
إِحْدَاهمَا: أَن يكون لَهُ كِفَايَة، فَهَل لَهُ أَن يَأْخُذ إِذا لم يكن لَهُ شَيْء من بَيت المَال أم لَا؟ فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا لَيْسَ لَهُ ذَلِك، وَهُوَ الصَّحِيح، اخْتَارَهُ فِي " أَعْلَام الموقعين "، وَهُوَ الْمُخْتَار.
وَالْوَجْه الثَّانِي: لَهُ الْأَخْذ.
وَأطلقهُمَا فِي " الرِّعَايَة "، و " آدَاب الْمُفْتِي "، و " أصُول ابْن مُفْلِح " و " فروعه ".
وَالْحَالة الثَّانِيَة: أَن لَا يكون لَهُ كِفَايَة لَا من مَاله وَلَا من بَيت المَال، فَهَذَا إِذا قَالَ: لَا أَقْْضِي بَيْنكُمَا إِلَّا بِجعْل جَازَ لَهُ الْأَخْذ على الصَّحِيح؛ لِأَنَّهُ إِن لم يَأْخُذ أفْضى إِلَى ضَرَر يلْحقهُ فِي عائلته - إِن كَانُوا - وحرج، وَهُوَ منفي شرعا، وَإِن لم يفت حصل أَيْضا للمستفتى ضَرَر، فَتعين الْجَوَاز، وَقدمه ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ".
قَالَ فِي " الْكَافِي ": " وَإِذا قُلْنَا بِجَوَاز أَخذ الرزق فَلم يحصل لَهُ شَيْء فَقَالَ: لَا أَقْْضِي بَيْنكُم إِلَّا بِجعْل: جَازَ ".
وَقَالَ فِي " الْمُغنِي "، و " الشَّرْح ": " فَإِن لم يكن للْقَاضِي رزق فَقَالَ:
لَا أَقْْضِي بَيْنكُمَا حَتَّى تجعلا لي جعلا: جَازَ، وَيحْتَمل أَن لَا يجوز " انْتهى.
وَالْقَوْل الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ الْأَخْذ.
قلت: وَهُوَ ضَعِيف، وَهُوَ احْتِمَال فِي " الْمُغنِي "، وَاخْتَارَهُ فِي " الرِّعَايَتَيْنِ "، وَالنّظم.
وَمن أَخذ من بَيت المَال لم يَأْخُذ فِي الْحَالَتَيْنِ، لَكِن هَل لَهُ أَخذ أُجْرَة خطه أم لَا؟ فِيهِ وَجْهَان:
أَحدهمَا: يجوز، وَهُوَ الَّذِي قدمْنَاهُ هُنَا تبعا لِابْنِ مُفْلِح فِي " أُصُوله ".
وَالْوَجْه الثَّانِي: لَا يجوز لَهُ الْأَخْذ، وَاخْتَارَهُ فِي " أَعْلَام الموقعين ".
وَإِن جعل لَهُ أهل بلد رزقا ليتفرغ لَهُم جَازَ على الصَّحِيح، كالمسألة الَّتِي قبلهَا.
لَكِن ظَاهر هَذَا: وَلَو كَانَ لَهُ كِفَايَة وَمَا يقوم بِهِ، فيشكل، أَو يُقَال: يفهم من قَوْله: ليتفرغ لَهُم، أَنه كَانَ مَشْغُولًا بِمَا يقوم بالعيال، وَهُوَ الظَّاهِر.
وَقيل: لَا يجوز لَهُ ذَلِك، وَمَال إِلَيْهِ فِي " الرِّعَايَة "، وَاخْتَارَهُ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ".
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": " وَله قبُول هَدِيَّة، وَالْمرَاد لَا يفتيه بِمَا يُريدهُ وَإِلَّا حرمت، زَاد بَعضهم: أَو لينفعه بجاهه أَو مَاله، وَفِيه نظر " انْتهى.
قَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": " وَله قبُول الْهَدِيَّة، وَقيل: يحرم إِذا كَانَ رشوة على أَن يفتيه بِمَا يُرِيد.
قلت: أَو يكون لَهُ فِيهِ نفع من جاه أَو مَال فيفتيه لذَلِك بِمَا لَا يُفْتِي بِهِ
غَيره مِمَّا لَا ينْتَفع بِهِ كنفع الأول " انْتهى.
وَهُوَ مُرَاد ابْن مُفْلِح بقوله: وَفِيه نظر.
فَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر من الْأَصْحَاب: جَوَاز قبُول الْهَدِيَّة للمفتي.
وَنقل الْمَرْوذِيّ: " لَا يقبل الْهَدِيَّة إِلَّا أَن يكافيء ".
قَالَ أَحْمد: " الدُّنْيَا دَاء وَالسُّلْطَان [دَاء] ، والعالم طبيبه، فَإِذا رَأَيْت الطَّبِيب يجر الدَّاء إِلَى نَفسه فاحذره ".
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: فِيهِ التحذير من استفتاء من يرغب فِي مَال وَشرف بِلَا حَاجَة.
قَالَ أَحْمد: " لَا يَنْبَغِي أَن يُفْتِي إِلَّا أَن يكون لَهُ نِيَّة، فَإِن لم يكن لَهُ نِيَّة لم يكن عَلَيْهِ نور وَلَا على كَلَامه نور، وحلم، ووقار، وسكينة، قَوِيا على مَا هُوَ فِيهِ وعَلى مَعْرفَته، والكفاية وَإِلَّا مضغه النَّاس،
وَمَعْرِفَة النَّاس ".
قَالَ ابْن عقيل: هَذِه الْخِصَال مُسْتَحبَّة، فيقصد الْإِرْشَاد وَإِظْهَار أَحْكَام الله لَا رِيَاء وَلَا سمعة، والتنويه باسمه.
والسكينة وَالْوَقار: ترغب المستفتي، وهم وَرَثَة الْأَنْبِيَاء فَيجب أَن يتخلقوا بأخلاقهم.
والكفاية: لِئَلَّا ينْسبهُ النَّاس إِلَى التكسب بِالْعلمِ وَأخذ الْعِوَض عَلَيْهِ، فَيسْقط قَوْله.
وَمَعْرِفَة النَّاس: تحْتَمل حَال الرِّوَايَة وتحتمل حَال المستفتين، فالفاجر لَا يسْتَحق الرُّخص، فَلَا يفتيه بالخلوة بالمحارم مَعَ علمه بِأَنَّهُ يسكر،
وَلَا يرخص لجند وقتنا لمعرفتنا لسفرهم، والتسهيل على معتدات على صِفَات وقتنا؛ لِئَلَّا يضع الْفَتْوَى فِي غير محلهَا.
وَكَذَا قَالَ والخصلة الأولى وَاجِبَة.
وَعَن عمرَان مَرْفُوعا: " وَإِن أخوف مَا أَخَاف على أمتِي: كل مُنَافِق عليم اللِّسَان "، حَدِيث حسن رَوَاهُ أَحْمد، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ:
مَوْقُوفا أشبه.
وَعَن عمر قَالَ: " كُنَّا نتحدث إِنَّمَا يهْلك هَذِه الْأمة كل مُنَافِق عليم اللِّسَان "، رَوَاهُ أَبُو يعلى، وَفِيه مُؤَمل بن إِسْمَاعِيل، وَهُوَ مُخْتَلف فِيهِ.
وَقَالَ معَاذ: " احذر زلَّة الْعَالم وجدال الْمُنَافِق ".
قَوْله: {وَمن عدم مفتيا فَلهُ حكم مَا قبل الشَّرْع من إِبَاحَة، أَو حظر، أَو وقف} .
قَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": " فَإِن لم يجد الْعَاميّ من يسْأَله عَنْهَا فِي بَلَده وَلَا غَيره، فَقيل: لَهُ حكم مَا قبل الشَّرْع، على الْخلاف فِي الْحَظْر، وَالْإِبَاحَة، وَالْوَقْف، وَهُوَ أَقيس " انْتهى.
وَقطع بِهِ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ".
قَالَ القَاضِي، وَابْن عقيل، وَغَيرهمَا من الْأَصْحَاب: يلْزم الْمُفْتِي تَكْرِير النّظر عِنْد تكْرَار الْوَاقِعَة.
قَالَ ابْن عقيل: وَإِن لم يُكَرر النّظر كَانَ مُقَلدًا لنَفسِهِ لاحْتِمَال تغير اجْتِهَاده إِذا كرر، قَالَ: وكالقبلة يجْتَهد لَهَا ثَانِيًا.
وَاعْترض: فَيجب تكريره أبدا.
رد: نعم، وَغلط بَعضهم فِيهِ.
وَذكر بعض أَصْحَابنَا: لَا يلْزم؛ لِأَن الأَصْل بَقَاء مَا اطلع عَلَيْهِ وَعدم غَيره.
وَلُزُوم السُّؤَال ثَانِيًا فِيهِ الْخلاف، فَلَا يَكْتَفِي السَّائِل بِالْجَوَابِ الأول على الصَّحِيح كَمَا قُلْنَا فِي تكَرر النّظر.
وَعند أبي الْخطاب والآمدي: إِن ذكر الْمُفْتِي طَرِيق الِاجْتِهَاد لم يلْزمه، وَإِلَّا لزمَه.
وَهُوَ ظَاهر.
وَقَالَ كثير من الْعلمَاء: للمسألة أَحْوَال: لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يَتَجَدَّد لَهُ مَا يَقْتَضِي رُجُوعه عَمَّا ظهر لَهُ بِالِاجْتِهَادِ الأول أَو لَا، وكل مِنْهُمَا إِمَّا مَعَ كَونه ذَاكِرًا لدَلِيل ذَلِك الْمَاضِي أَو لَا.
الأول من الْأَرْبَعَة: أَن يَتَجَدَّد مَا يَقْتَضِي الرُّجُوع، وَلكنه ذَاكر الدَّلِيل الأول، فَإِن كَانَ راجحا على مَا يَقْتَضِي الرُّجُوع عمل بِالْأولِ، وَلَا يُعِيد الِاجْتِهَاد.
الثَّانِي: أَن لَا يكون ذَاكِرًا للدليل الأول فَيجب أَن يُعِيد الِاجْتِهَاد قطعا، قَالَه الشَّافِعِيَّة، لِأَنَّهُ لَا ثِقَة بِبَقَاء الظَّن، وَإِن كَانَ الأصوليون حكوا فِيهِ قولا بِالْمَنْعِ، بِنَاء على أَن الظَّن السَّابِق قوي فَيعْمل بِهِ؛ لِأَن الأَصْل عدم رُجْحَان غَيره عَلَيْهِ.
الثَّالِث: أَن لَا يَتَجَدَّد لَهُ مَا يَقْتَضِي رُجُوعه، وَهُوَ ذَاكر الدَّلِيل الأول، فَلَا يلْزمه أَن يُعِيد الِاجْتِهَاد قطعا.
الرَّابِع: أَن يَتَجَدَّد مَا يَقْتَضِي الرُّجُوع وَلَا هُوَ ذَاكر للدليل الأول، فَهَذَا يلْزمه أَن يُعِيد الِاجْتِهَاد ثَانِيًا، فَإِن وَافق مُقْتَضَاهُ الأول فَظَاهر، وَإِن خَالفه عمل بِالثَّانِي.
وَأما المستفتي إِذا أفتاه الْمُفْتِي بِحكم ثمَّ تَجَدَّدَتْ الْوَاقِعَة، وَقُلْنَا إِن الْمُجْتَهد يُعِيد اجْتِهَاده، يجب على السَّائِل أَن يُعِيد السُّؤَال؛ لِأَنَّهُ قد يتَغَيَّر نظر الْمُفْتِي وَهَذَا الصَّحِيح، لَكِن مَحل الْخلاف إِذا عرف المستفتي أَن جَوَاب الْمُفْتِي مُسْتَند إِلَى الرَّأْي كالقياس أَو شكّ فِي ذَلِك، وَالْغَرَض أَن الْمُقَلّد حَيّ، فَإِن عرف استناد الْجَواب إِلَى نَص أَو إِجْمَاع فَلَا حَاجَة إِلَى إِعَادَة السُّؤَال ثَانِيًا قطعا، وَكَذَا لَو كَانَ الْمُقَلّد مَيتا.