الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(قَوْله: {خَاتِمَة} )
{يَقع التَّرْجِيح بَين حُدُود سمعية ظنية مفيدة لمعان مُفْردَة تصورية} .
وَقد ذكر كثير من الْعلمَاء التراجيح فِي الْحُدُود، وَهِي قِسْمَانِ: عقلية، وسمعية، أَي: شَرْعِيَّة.
فالعقلية هِيَ: تَعْرِيف الماهيات، وَلَيْسَت مَقْصُودَة هُنَا.
إِنَّمَا الْمَقْصُود هُنَا الْحُدُود الشَّرْعِيَّة وَهِي: حُدُود الْأَحْكَام الظنية المفيدة لمعان مُفْردَة تصورية؛ وَذَلِكَ لِأَن الأمارات المفضية إِلَى التصديقات كَمَا يَقع التَّعَارُض فِيهَا ويرجح بَعْضهَا على بعض، كَذَلِك الْحُدُود السمعية يَقع التَّعَارُض فِيهَا ويرجح بَعْضهَا على بعض.
قَوْله: {فيرجح بِكَوْنِهِ صَرِيحًا وَأعرف وذاتيا، فحقيقي تَامّ، فناقص، فرسمي كَذَلِك، فلفظي وبأعم، وَقيل: عَكسه، وبموافقته نقل سَمْعِي أَو
لغَوِيّ أَو قربه مِنْهُمَا، أَو عمل الْمَدِينَة، أَو الْخُلَفَاء، أَو عَالم، وَيكون طَرِيق تَحْصِيله أسهل أَو أظهر، وبتقرير حكم حظر أَو نفي، أَو دَرْء حد، أَو ثُبُوت عتق، أَو طَلَاق وَنَحْوه} .
التَّرْجِيح فِي الْحُدُود السمعية تَارَة يكون بِاعْتِبَار اللَّفْظ، وَتارَة يكون بِاعْتِبَار الْمَعْنى، وَتارَة يكون أَمر خَارج.
فالترجيح بِاعْتِبَار اللَّفْظ كالترجيح بِأَلْفَاظ صَرِيحَة، فيرجح الْحَد الَّذِي بِلَفْظ صَرِيح على مَا فِيهِ تجوز، أَو اسْتِعَارَة، أَو اشْتِرَاك، أَو غرابة، أَو اضْطِرَاب.
هَذَا إِن قُلْنَا: التَّجَوُّز، والاستعارة، والاشتراك، تدخل فِي الْحُدُود، وَقد تقدم منع ذَلِك على الصَّحِيح فِي أول الْكتاب متْنا، وشرحا.
قَالَ الكوراني: إِلَّا إِذا اشْتهر الْمجَاز بِحَيْثُ لَا يتَبَادَر غَيره.
وَالتَّرْجِيح بِاعْتِبَار الْمَعْنى فيرجح بِكَوْن الْمُعَرّف من أَحدهمَا أعرف فِي الآخر.
ويرجح بِكَوْنِهِ ذاتيا على كَونه عرضيا، لِأَن التَّعْرِيف بِالْأولِ يُفِيد كنه الْحَقِيقَة بِخِلَاف الثَّانِي.
فَيقدم الْحَقِيقِيّ التَّام، فالحقيقي النَّاقِص، فالرسمي التَّام، فالرسمي النَّاقِص، فاللفظي، على مَا تقدم بَيَان ذَلِك فِي الْمُقدمَة فِي أَحْكَام الْحُدُود.
ويرجح بِكَوْن مَدْلُول أَحدهمَا أَعم من مَدْلُول الآخر، فيرجح الْأَعَمّ ليتناول الْأَخَص وَغَيره فتكثر الْفَائِدَة.
وَقيل يقدم الْأَخَص وَهُوَ للآمدي، للاتفاق على مَا يتَنَاوَلهُ الْأَخَص لتناول الحَدِيث لَهُ، وَالِاخْتِلَاف فِيمَا زَاد على مَدْلُول الْأَخَص، والمتفق عَلَيْهِ أولى.
وَالتَّرْجِيح بِاعْتِبَار أَمر خَارج، فيرجح مَا كَانَ على وفْق النَّقْل الشَّرْعِيّ أَو اللّغَوِيّ، وتقريرا لوضعهما وَالْآخر يُخَالف نقلهما، فَإِن الأَصْل عدم النَّقْل أَو قَرِيبا من النَّقْل الشَّرْعِيّ أَو اللّغَوِيّ على مَا لَا يكون كَذَلِك، لِأَن النَّقْل لَو كَانَ لمناسبة فَالْأَقْرَب أولى.
ويرجح أحد التعريفين على الآخر برجحان طَرِيق اكتسابه بِأَن طَرِيق اكتسابه قَطْعِيا وَطَرِيق اكْتِسَاب [الآخر] ظنيا، أَو اكْتِسَاب أَحدهمَا أرجح من طَرِيق اكْتِسَاب الآخر بِكَوْن طَرِيقه أسهل، أَو أظهر فَيقدم، والأسهل وَالْأَظْهَر على غَيره؛ لِأَنَّهُ أفْضى إِلَى مَقْصُود التَّعْرِيف وأغلب على الظَّن.
ويرجح أحد التعريفين على الآخر بِكَوْنِهِ مُوَافقا لعمل أهل الْمَدِينَة، أَو عمل الْخُلَفَاء الرَّاشِدين، أَو الْعلمَاء، أَو عَالم وَاحِد، لحُصُول الْقُوَّة بذلك فَيحصل التَّرْجِيح.
ويرجح بِكَوْنِهِ مقررا لحكم الْحَظْر إِذا كَانَ الآخر مقررا لحكم الْإِبَاحَة.
ويرجح بِكَوْنِهِ مقررا لحكم النَّفْي على الْمُقَرّر للإثبات.
ويرجح بِكَوْنِهِ مقررا لدرء الْحَد بِأَن يلْزم من الْعَمَل بِهِ دَرْء الْحَد دون الآخر.
ويرجح بِكَوْنِهِ يلْزم من الْعَمَل بِهِ ثُبُوت عتق أَو طَلَاق وَنَحْوهمَا على مَا لَا يلْزم من الْعَمَل بِهِ ذَلِك، قَالَه ابْن مُفْلِح، وَغَيره.
ثمَّ قَالَ: " فالترجيح بِهِ على مَا سبق فِي الْحجَج ".
وَقد تركنَا تَوْجِيه بعض مسَائِل اختصارا لظهورها.
اعْلَم أَن الترجيحات الَّتِي ذكرتها فِي هَذَا الْمُخْتَصر وَشَرحه، نقلتها من " مُخْتَصر ابْن مُفْلِح "، وَمن " الْمقنع " لِابْنِ حمدَان، وَمن " الرَّوْضَة " للموفق،
و " مُخْتَصر الطوفي "، و " شَرحه "، و " جمع الْجَوَامِع "، و " مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب " والبيضاوي، وَغَيرهَا وَمَعَ ذَلِك ثمَّ تراجيح كَثِيرَة لم نذكرها، ذكرهَا الأصوليون، وَذَلِكَ لِأَن مثارات الظنون الَّتِي بهَا الرجحان، والتراجيح كَثِيرَة جدا فحصرها بعيد؛ لِأَنَّك إِذا اعْتبرت الترجيحات فِي الدَّلَائِل من جِهَة مَا يَقع فِي المركبات من نفس الدَّلَائِل ومقدماتها، وَفِي الْحُدُود من جِهَة مَا يَقع فِي نفس الْحُدُود وَفِي مفرداتها، ثمَّ ركبت بَعْضهَا مَعَ بعض، حصلت أُمُور لَا تكَاد تَنْحَصِر.
وَحَيْثُ كَانَ الْأَمر كَذَلِك فالضابط وَالْقَاعِدَة الْكُلية فِي التَّرْجِيح: أَنه مَتى اقْترن بِأحد الطَّرفَيْنِ أَعنِي الدَّلِيلَيْنِ المتعارضين أَمر نقلي كآية أَو خبر، أَو اصطلاحي كعرف أَو عَادَة عَاما كَانَ ذَلِك الْأَمر أَو خَاصّا، أَو قرينَة عقلية، أَو لفظية، أَو حَالية، وَأفَاد ذَلِك زِيَادَة الظَّن: رجح بِهِ، لما ذكرنَا من [أَن] رُجْحَان الدَّلِيل هُوَ الزِّيَادَة فِي قوته وَظن إفادته الْمَدْلُول، وَذَلِكَ أَمر حَقِيقِيّ لَا يخْتَلف فِي نَفسه وَإِن اخْتلف مداركه، وَالله أعلم.
وَهَذَا آخر مَا قصدنا من هَذَا الشَّرْح، وَالله أسَال أَن يَجعله خَالِصا لوجهه الْكَرِيم، وَأَن يدخلنا بِهِ جنَّات النَّعيم، وَأَن ينفع بِهِ كَاتبه وقارئه والمطالع فِيهِ، وَمن دَعَا لمؤلفه بالمغفرة، وَالرَّحْمَة، والرضوان، إِنَّه سميع
قريب، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين، وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم، وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم.
وَوَافَقَ الْفَرَاغ من تَعْلِيقه فِي الْيَوْم الْمُبَارك حادي عشر من رَمَضَان الْمُعظم قدره شهور سنة أَربع وَعشْرين وَتِسْعمِائَة، على يَد الْفَقِير إِلَى الله تَعَالَى مُحَمَّد بن عَليّ البستي الطرابلسي الْحَنْبَلِيّ، لطف الله تَعَالَى بِهِ وَالْمُسْلِمين آمين، وَالْحَمْد لله وَحده، وَصلى الله على مُحَمَّد وَصَحبه وَسلم.