الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَالَ الْغَزالِيّ: لَيْسَ معرفَة الْكَلَام بالأدلة المحررة فِيهِ، على عَادَة الْمُتَكَلِّمين شرطا فِي الِاجْتِهَاد، بل هُوَ من ضَرُورَة منصب الِاجْتِهَاد، إِذْ لَا يبلغ رُتْبَة الِاجْتِهَاد فِي الْعلم، إِلَّا وَقد قرع سَمعه أَدِلَّة الْكَلَام فيعرفها حَتَّى لَو تصور مقلد مَحْض فِي تَقْلِيد الرَّسُول صلى الله عليه وسلم َ -،
وأصول الْإِيمَان، لجَاز لَهُ الِاجْتِهَاد فِي الْفُرُوع.
قَالَ: وَالْقدر الْوَاجِب من ذَلِك: اعْتِقَاد جازم إِذْ بِهِ يصير مُسلما، وَالْإِسْلَام شَرط الْمُفْتِي لَا محَالة.
قَالَ الطوفي: " قلت: الْمُشْتَرط فِي الِاجْتِهَاد بِالْجُمْلَةِ معرفَة كل مَا يتَوَقَّف حُصُول ظن الحكم الشَّرْعِيّ عَلَيْهِ، سَوَاء
انحصر ذَلِك فِي جَمِيع مَا ذكرُوا، أَو خرج عَنهُ شَيْء لم يذكر فمعرفته مُعْتَبرَة " انْتهى.
قَوْله: {لَا تفاريع الْفِقْه وَعلم الْكَلَام، وَلَا معرفَة أَكثر الْفِقْه فِي الْأَشْهر} .
هَذِه أُمُور أُخْرَى رُبمَا يتَوَهَّم أَنَّهَا شُرُوط فِي الْمُجْتَهد، وَلكنهَا لَيست بِشُرُوط لَهُ.
مِنْهَا: معرفَة تفاريع الْفِقْه لَا يشْتَرط؛ لِأَن الْمُجْتَهد هُوَ الَّذِي يولدها ويتصرف فِيهَا، لَو كَانَ ذَلِك شرطا فِيهَا للَزِمَ الدّور، لِأَنَّهَا نتيجة الِاجْتِهَاد، فَلَا يكون الِاجْتِهَاد نتيجتها.
وَالْخلاف فِي ذَلِك مَنْقُول عَن الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ شَرط فِي الْمُجْتَهد معرفَة الْفِقْه.
قيل: وَلَعَلَّه أَرَادَ ممارسته.
وَإِلَيْهِ ميل الْغَزالِيّ فَقَالَ: " إِنَّمَا يحصل الِاجْتِهَاد فِي زَمَاننَا بممارسة الْفِقْه فَهُوَ طَرِيق تَحْصِيل [الدربة] فِي هَذَا الزَّمَان، وَلم يكن الطَّرِيق فِي زمن الصَّحَابَة ذَلِك " انْتهى.
وَتقدم كَلَام أبي مُحَمَّد الْجَوْزِيّ فِي ذَلِك.
وَمِنْهَا: معرفَة علم الْكَلَام، أَي: علم أصُول الدّين، قَالَه الأصوليون، لَكِن الرَّافِعِيّ قَالَ: إِن الْأَصْحَاب عدوا من شُرُوط الِاجْتِهَاد معرفَة أصُول العقائد.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَالْجمع بَين الْكَلَامَيْنِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْغَزالِيّ حَيْثُ قَالَ: وَعِنْدِي أَنه يَكْفِي اعْتِقَاد جازم، وَلَا يشْتَرط مَعْرفَتهَا على طَرِيق الْمُتَكَلِّمين ومادتهم الَّتِي يجرونها " انْتهى.
وَقد تقدم: كَلَامه.
قَالَ ابْن مُفْلِح كَمَا تقدم: " وَاعْتبر بعض أَصْحَابنَا وَبَعض الشَّافِعِيَّة معرفَة أَكثر الْفِقْه، وَالْأَشْهر: لَا؛ لِأَنَّهُ نتيجته " انْتهى.
وَقدم فِي " آدَاب الْمُفْتِي " من شَرطه أَن يحفظ أَكثر الْفِقْه.
وَمِنْهَا: لَا يشْتَرط فِي الْمُجْتَهد أَن يكون ذكرا وَلَا حرا وَلَا عدلا، بل يجوز أَن يكون امْرَأَة، ورقيقا، وفاسقا، لَكِن لَا يستفتى الْفَاسِق وَلَا يعْمل بقوله بِخِلَاف الْمَرْأَة وَالرَّقِيق، فالعدالة شَرط فِي الْمُفْتِي لَا فِي الْمُجْتَهد؛ لِأَن الْمُفْتِي أخص فشروطه أغْلظ، أما مَسْتُور الْعَدَالَة فَتجوز فتواه فِي أحد الْقَوْلَيْنِ.
وَقيل: اشْترط فِي الْمُجْتَهد الْعَدَالَة حَتَّى إِذا أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى حكم لَا يَأْخُذ بِهِ من علم صدقه بقرائن، وَيَأْتِي ذَلِك فِي التَّقْلِيد محررا.
أَي: مَا سبق من الشُّرُوط فِي الِاجْتِهَاد إِنَّمَا ذَلِك فِي الْمُجْتَهد الْمُطلق الَّذِي يُفْتِي فِي جمع أَبْوَاب الشَّرْع.
أما مُجْتَهد الْمَذْهَب، وَهُوَ: من ينتحل مَذْهَب إِمَام من الْأَئِمَّة فَلَا يعْتَبر فِيهِ مَا تقدم بل يعْتَبر فِيهِ بعض ذَلِك.
قَالَ فِي " الْمقنع ": فَأَما الْمُجْتَهد فِي مَذْهَب إِمَامه: فنظره فِي بعض نُصُوص إِمَامه وتقريرها، وَالتَّصَرُّف فِيهَا كاجتهاد إِمَامه فِي نُصُوص الْكتاب وَالسّنة.
وَقَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": أَحْوَال الْمُجْتَهد فِي مَذْهَب إِمَامه أَو غَيره أَرْبَعَة:
الْحَالة الأولى: أَن يكون غير مقلد لإمامه فِي الحكم وَالدَّلِيل، لَكِن سلك طَرِيقه فِي الِاجْتِهَاد وَالْفَتْوَى، ودعا إِلَى [مذْهبه] ، وَقَرَأَ كثيرا مِنْهُ على أَهله، فَوَجَدَهُ صَوَابا، وَأولى من غَيره، وَأَشد مُوَافقَة فِيهِ وَفِي طَرِيقه.
وَقد ادّعى هَذَا منا القَاضِي أَبُو عَليّ ابْن أبي مُوسَى الْهَاشِمِي فِي " شرح الْإِرْشَاد " الَّذِي لَهُ، وَالْقَاضِي أَبُو يعلى وَغَيرهمَا.
وَمن الشَّافِعِيَّة خلق كثير.
وَاخْتلف الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة فِي أبي يُوسُف، والمزني، وَابْن سُرَيج، هَل
كَانُوا مجتهدين مستقلين، أَو فِي مَذْهَب الْإِمَامَيْنِ؟
وفتوى الْمُجْتَهد الْمَذْكُور كفتوى الْمُجْتَهد الْمُطلق فِي الْعَمَل بهَا والاعتداد بهَا فِي الْإِجْمَاع وَالْخلاف.
الْحَالة الثَّانِيَة: أَن يكون مُجْتَهدا فِي مَذْهَب إِمَامه، مُسْتقِلّا فِي تَقْرِيره بِالدَّلِيلِ، لَكِن لَا يتَعَدَّى أُصُوله وقواعده، مَعَ إتقانه للفقه وأصوله، وأدلة مسَائِل الْفِقْه، عَارِفًا بِالْقِيَاسِ وَنَحْوه، تَامّ الرياضة، قَادِرًا على التَّخْرِيج والاستنباط وإلحاق الْفُرُوع بالأصول وَالْقَوَاعِد الَّتِي لإمامه.
وَقيل: وَلَيْسَ من شَرطه معرفَة هَذَا علم الحَدِيث، واللغة، والعربية، لكَونه يتَّخذ بنصوص إِمَامه أصولا يستنبط مِنْهَا الْأَحْكَام كنصوص الشَّارِع، وَقد يرى حكما ذكره إِمَامه بِدَلِيل فيكتفي بذلك من غير بحث عَن معَارض أَو غَيره، وَهُوَ بعيد.
وَهَذَا شَأْن أهل الْأَوْجه والطرق فِي الْمذَاهب، وَهُوَ حَال أَكثر عُلَمَاء الطوائف الْآن، فَمن عمل بِفُتْيَا هَذَا فقد قلد إِمَامه دونه؛ لِأَن معوله على صِحَة إِضَافَة مَا يَقُول إِلَى إِمَامه، لعدم استقلاله بتصحيح نسبته إِلَى الشَّارِع بِلَا وَاسِطَة إِمَامه، وَالظَّاهِر مَعْرفَته بِمَا يتَعَلَّق بذلك من حَدِيث، ولغة، وَنَحْوه.
وَقيل: إِن فرض الْكِفَايَة لَا يتَأَدَّى بِهِ؛ لِأَن تَقْلِيده نقص وخلل فِي الْمَقْصُود.
وَقيل: يتَأَدَّى بِهِ فِي الْفَتْوَى لَا فِي إحْيَاء الْعُلُوم الَّتِي يستمد مِنْهَا الْفَتْوَى؛ لِأَنَّهُ قد قَامَ فِي فتواه مقَام إِمَام مُطلق، وَقد يُوجد مِنْهُ اسْتِقْلَال بِالِاجْتِهَادِ،
وَالْفَتْوَى فِي مَسْأَلَة خَاصَّة، أَو بَاب خَاص، وَأطَال فِي ذَلِك.
الْحَالة الثَّالِثَة: أَن لَا يبلغ بِهِ رُتْبَة أَئِمَّة الْمذَاهب أَصْحَاب الْوُجُوه والطرق، غير أَنه فَقِيه النَّفس، حَافظ لمَذْهَب إِمَامه، عَارِف بأدلته، قَائِم بتقريره، ونصرته، يصور وَيُحَرر، ويمهد ويقرر، ويزيف ويرجح، لكنه قصر عَن دَرَجَة أُولَئِكَ إِمَّا لكَونه لم يبلغ فِي حفظ الْمَذْهَب مبلغهم، وَإِمَّا لكَونه غير متبحر فِي أصُول الْفِقْه وَنَحْوه، غير أَنه لَا يَخْلُو مثله فِي ضمن مَا يحفظه من الْفِقْه ويعرفه من أدلته عَن أَطْرَاف من قَوَاعِد أصُول الْفِقْه وَنَحْوه، وَإِمَّا لكَونه مقصرا فِي غير ذَلِك من الْعُلُوم الَّتِي هِيَ أدوات الِاجْتِهَاد الْحَاصِل لأَصْحَاب الْوُجُوه والطرق.
وَهَذِه صفة كثير من الْمُتَأَخِّرين الَّذين رتبوا الْمذَاهب وحررورها، وصنفوا فِيهَا تصانيف بهَا يشْتَغل النَّاس غَالِبا، وَلم يلْحقُوا من يخرج الْوُجُوه ويمهد الطّرق فِي الْمذَاهب، وَأما فِي فتاويهم فقد كَانُوا يتبسطون فِيهَا كبسط أُولَئِكَ أَو نَحوه، ويقيسون غير الْمَنْقُول والمسطور على الْمَنْقُول والمسطور فِي الْمَذْهَب، غير مقتصرين فِي ذَلِك على الْقيَاس الْجَلِيّ، وَقِيَاس لَا فَارق، نَحْو: قِيَاس الْمَرْأَة على الرجل فِي رُجُوع البَائِع إِلَى عين مَاله عِنْد تعذر الثّمن، وَلَا تبلغ فتاويهم فَتَاوَى أَصْحَاب الْوُجُوه، وَرُبمَا تطرق بَعضهم إِلَى تَخْرِيج قَول، واستنباط وَجه وإجمال، وفتاويهم مَقْبُولَة أَيْضا.
الْحَالة الرَّابِعَة: أَن يقوم بِحِفْظ الْمَذْهَب وَنَقله وفهمه، فَهَذَا يعْتَمد نَقله وفتواه بِهِ فِيمَا يحكيه من مسطورات مذْهبه من منصوصات إِمَامه، أَو تفريعات أَصْحَابه الْمُجْتَهدين فِي مَذْهَبهم وتخريجاتهم.
وَأما مَا يجده مَنْقُولًا فِي مذْهبه فَإِن وجد فِي الْمَنْقُول مَا هَذَا فِي مَعْنَاهُ بِحَيْثُ يدْرك من غير فضل فكر وَتَأمل أَنه لَا فَارق بَينهمَا، كَمَا فِي الْأمة بِالنِّسْبَةِ إِلَى العَبْد الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي إِعْتَاق الشَّرِيك، جَازَ لَهُ إِلْحَاقه بِهِ وَالْفَتْوَى بِهِ، وَكَذَا مَا يعلم اندراجه تَحت ضَابِط ومنقول [ممهد] من الْمَذْهَب، وَمن لم يكن كَذَلِك فَعَلَيهِ الْإِمْسَاك عَن الْفتيا بِهِ.
وَمثل هَذَا يَقع نَادرا فِي حق مثل الْفَقِيه الْمَذْكُور، إِذْ يبعد أَن تقع وَاقعَة لم ينص على حكمهَا فِي الْمَذْهَب، وَلَا هِيَ فِي معنى بعض الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِيهِ، من غير فرق وَلَا مندرجة تَحت شَيْء من ضوابط الْمَذْهَب المحررة فِيهِ.
ثمَّ إِن هَذَا الْفَقِيه لَا يكون إِلَّا فَقِيه النَّفس؛ لِأَن تصور الْمسَائِل على وَجههَا، وَنقل أَحْكَامهَا بعده لَا يقوم بِهِ إِلَّا فَقِيه النَّفس، وَيَكْفِي استحضار أَكثر الْمَذْهَب مَعَ قدرته على مطالعة بَقِيَّته قَرِيبا. انْتهى كَلَامه فِي " آدَاب الْمُفْتِي ".
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: " هُوَ أَن يعرف قَوَاعِد ذَلِك الْمَذْهَب وأصوله، ونصوص صَاحب الْمَذْهَب، بِحَيْثُ لَا يشذ عَنهُ شَيْء من ذَلِك، فَإِذا سُئِلَ عَن حَادِثَة، فَإِن عرف نصا لصَاحب الْمَذْهَب فِيهَا أجَاب بِهِ، وَإِلَّا اجْتهد فِيهَا على مذْهبه، وخرجها على أُصُوله.
قَالَ ابْن أبي الدَّم: وَهَذَا - أَيْضا - يَنْقَطِع فِي زَمَاننَا بِهَذِهِ الْمرتبَة دون مرتبَة الِاجْتِهَاد الْمُطلق، ومرتبة ثَالِثَة دون الثَّانِيَة وَهِي مرتبَة مُجْتَهد الْفتيا، أَي:
الَّذِي يسوغ لَهُ الْفتيا على مَذْهَب إِمَامه الَّذِي هُوَ مقلده، فَلَا يشْتَرط فِيهِ مَا يشْتَرط فِي مُجْتَهد الْمَذْهَب، بل يعْتَبر أَن يكون متبحرا فِي الْمَذْهَب مُتَمَكنًا من تَرْجِيح قَول على قَول، وَهَذَا أدنى الْمَرَاتِب، وَلم يبْق بعده إِلَّا الْعَاميّ، وَمن فِي مَعْنَاهُ " انْتهى.