الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُقَلِّدًا لِإِمَامِهِ فِيمَا عَدَاهَا.
وَأَمَّا حُكْمُهُ فَنَقَلَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: جَوَازُ ذَلِكَ مُطْلَقًا، وَالْمَنْعُ مُطْلَقًا وَالثَّالِثُ جَوَازُهُ فِي مَسْأَلَةٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ فِيهَا تَقْلِيدُ إمَامِهِ وَمَنْعُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ لَهُ فِيهَا تَقْلِيدُ إمَامِهِ اهـ.
[هَلْ يَجُوز التَّقْلِيد مُطْلَقًا]
(وَسُئِلَ) بَعْضُهُمْ هَلْ يَجُوزُ التَّقْلِيدُ مُطْلَقًا أَوْ فِيهِ تَفْصِيلٌ؟
فَأَجَابَ الْفَقِيهُ الصَّالِحُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ السُّنُوسِيَُّ بِمَا نَصُّهُ: " اعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ بِاعْتِبَارِ التَّقْلِيدِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ مُجْتَهِدٌ اجْتَهَدَ حَتَّى ظَنَّ أَنَّ الْحُكْمَ كَذَا وَمُجْتَهِدٌ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ النَّظَرُ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْظُرْ وَعَالِمٌ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِبْدَادِ بِالنَّظَرِ لِنَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا بُيِّنَتْ لَهُ أَدِلَّةُ الْأَقْوَالِ فَهِمَ الرَّاجِحَ مِنْهَا مِنْ الْمَرْجُوحِ، وَعَامِّيٌّ مَحْضٌ أَمَّا الْمُجْتَهِدُ الَّذِي ظَنَّ الْحُكْمَ بِاجْتِهَادِهِ فَلَا خَفَاءَ أَنَّ التَّقْلِيدَ فِي حَقِّهِ مُحَرَّمٌ.
وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ الَّذِي هُوَ بِصِفَاتِ الِاجْتِهَادِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْظُرْ فَالْأَكْثَرُ عَلَى تَحْرِيمِ التَّقْلِيدِ فِي حَقِّهِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الِاجْتِهَادِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ التَّقْلِيدِ وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ الْأَصْلِ الْمُمْكِنِ إلَى بَدَلِهِ كَالْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ، وَعَنْ هَذَا وَقَعَ قَوْلُهُمْ الْقُدْرَةُ عَلَى الِاجْتِهَادِ تَمْنَعُ التَّقْلِيدَ وَقِيلَ يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ نَظَرًا إلَى أَنَّهُ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالْحُكْمِ فِي الْحَالِ صَارَ كَغَيْرِ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي يَجُوزُ فِي حَقِّهِ التَّقْلِيدُ.
وَثَالِثُهَا: يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي حَقِّ الْقَاضِي لِحَاجَتِهِ إلَى تَنْجِيزِ فَصْلِ الْخُصُومَاتِ وَقَطْعِ مَوَادِّ النِّزَاعِ فِي الْحَالِ لِأَنَّ بَقَاءَهَا يُفْضِي إلَى الْفَسَادِ دِينًا وَدُنْيَا بِخِلَافِ غَيْرِهِ.
وَرَابِعُهَا: يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ لِظُهُورِ رُجْحَانِهِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْمُسَاوِي وَالْأَدْنَى.
وَخَامِسُهَا: يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ عِنْدَ ضِيقِ الِاحْتِيَاجِ إلَى حُكْمِهَا كَصَلَاةٍ مُؤَقَّتَةٍ فِي آخِرِ وَقْتِهَا بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَضِقْ.
وَسَادِسُهَا: يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيمَا يَخُصُّهُ دُونَ مَا يُفْتِي بِهِ غَيْرُهُ لِأَنَّ غَرَضَ الْمُسْتَفْتَى الَّذِي عُرِفَ مِنْهُ الِاجْتِهَادُ رَأْيُهُ لَا رَأْيَ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا الْعَالِمُ الَّذِي لَمْ يَصِلْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ وَالْعَامِّيُّ الْمَحْضُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُمَا تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ مِنْ مَذَاهِبِ الْمُجْتَهِدِينَ يُعْتَقَدُ أَنَّهُ أَرْجَحُ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ مُسَاوٍ وَيَنْبَغِي لَهُمَا فِي الْمُسَاوِي السَّعْيُ فِي رُجْحَانِهِ لِيَتَّجِهَ لَهُمَا اخْتِيَارُهُ عَلَى غَيْرِهِ ثُمَّ اُخْتُلِفَ بَعْدَ الْتِزَامِ الْمُقَلِّدِ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا هَلْ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ مَذَاهِبِ الْمُجْتَهِدِينَ فَقِيلَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ وَأَنَّهُ يَجِبُ الْتِزَامُهُ بِعَيْنِهِ وَقِيلَ يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مَا لَا يَلْزَمُهُ وَثَالِثُهَا الْفَرْقُ فَيَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ فِيمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ وَلَا يَجُوزُ فِيمَا عَمِلَ بِهِ، وَقِيلَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَدْءًا الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ بَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ فِيمَا يَنْزِلُ بِهِ بِهَذَا الْمَذْهَبِ تَارَةً وَبِغَيْرِهِ أُخْرَى وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُمْتَنَعُ تَتَبُّعُ الرُّخَصِ فِي الْمَذَاهِبِ بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا مَا هُوَ الْأَهْوَنُ فِيمَا يَقَعُ مِنْ الْمَسَائِلِ وَقِيلَ لَا يُمْتَنَعُ وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِتَفْسِيقِ مُتَتَبِّعِ الرُّخَصِ.
[التَّقْلِيدُ فِي الرُّخْصَةِ]
أَمَّا التَّقْلِيدُ فِي الرُّخْصَةِ مِنْ غَيْرِ تَتَبُّعٍ بَلْ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ خَوْفَ فِتْنَةٍ وَنَحْوِهَا فَلَهُ ذَلِكَ وَالْأَصَحُّ عَلَى صِحَّةِ تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ
وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لِلْمُقَلِّدِ صِحَّةُ اجْتِهَادِهِ بِأَنْ تَبَيَّنَ لَهُ مُسْتَنَدُهُ فِيمَا قَلَّدَهُ فِيهِ التَّقْلِيدُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ لَا يَجُوزُ لِلْمُقَلِّدِ تَقْلِيدُ مُجْتَهِدٍ فِي نَازِلَةٍ حَتَّى يَتَّضِحَ لَهُ مُسْتَنَدُ مَنْ أَرَادَ تَقْلِيدَهُ فِي الْحُكْمِ لِيَسْلَمَ بِذَلِكَ مِنْ اتِّبَاعِ الْخَطَأِ الْجَائِزِ عَلَيْهِ وَثَالِثُهَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَامِّيِّ الْمَحْضِ فَيَجُوزُ تَقْلِيدُهُ وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ صِحَّةُ اجْتِهَادِ مُقَلِّدِهِ وَبَيْنَ الْعَالِمِ الَّذِي لَمْ يَصِلْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فَلَا يَصِحُّ تَقْلِيدُهُ لِمُجْتَهِدٍ فِي نَازِلَةٍ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ صِحَّةُ اجْتِهَادِهِ فِيهَا لِتَمَكُّنِهِ مِنْ فَهْمِ مُسْتَنَدَاتِ الْأَحْكَامِ إذَا بُيِّنَتْ لَهُ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَجُوزُ لِلْمُفْتِي إذَا سُئِلَ عَنْ نَازِلَةٍ أَنْ يَذْكُرَ حُكْمَهَا مُجَرَّدًا عَنْ الدَّلِيلِ، وَعَلَى الثَّانِي لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الدَّلِيلِ، وَعَلَى الثَّالِثِ يَنْظُرُ فِي حَالِ السَّائِلِ هَلْ هُوَ عَامِّيٌّ أَوْ عَالِمٌ، وَعَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ جَرَى الْعَمَلُ وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يُقَلِّدَ الْمَفْضُولَ فَالْأَكْثَرُ عَلَى جَوَازِ تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ مُطْلَقًا أَعْنِي فِي حَقِّ مَنْ اعْتَقَدَهُ مَفْضُولًا أَوْ لَا وَقِيلَ يَتَعَيَّنُ تَقْلِيدُ الْأَفْضَلِ لِأَنَّهُ أَرْجَحُ، وَثَالِثُهَا الْمُخْتَارُ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمَفْضُولِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْهُ مَفْضُولًا بَلْ اعْتَقَدَهُ مُسَاوِيًا لِغَيْرِهِ أَوْ أَفْضَلَ وَعَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ فَلَا يَجِبُ عَلَى مُقَلِّدِ الْبَحْثِ عَنْ الْأَرْجَحِ عَلَى الثَّانِي يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْبَحْثُ عَنْ الْأَرْجَحِ لِامْتِنَاعِ تَقْلِيدِهِ غَيْرَهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ عَلَيْهِ، فَالرَّاجِحُ عِلْمًا مُقَدَّمٌ عَلَى الرَّاجِحِ وَرَعًا عَلَى الْأَصَحِّ لِأَنَّ لِزِيَادَةِ الْعِلْمِ تَأْثِيرًا فِي الِاجْتِهَادِ بِخِلَافِ زِيَادَةِ الْوَرَعِ بِهَا تَأْثِيرٌ فِي التَّثَبُّتِ فِي الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ بِخِلَافِ زِيَادَةِ الْعِلْمِ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِالتَّسَاوِي بَيْنَهُمَا لِأَنَّ لِكُلِّ مُرَجِّحًا فَإِذَا عَرَفْت هَذَا كُلَّهُ اسْتَبَانَ لَك أَنَّ خُرُوجَ الْمُقَلِّدِ مِنْ الْعَمَلِ بِالْمَشْهُورِ إلَى الْعَمَلِ بِالشَّاذِّ الَّذِي فِيهِ رُخْصَةٌ مِنْ غَيْرِ تَتَبُّعٍ لِلرُّخَصِ صَحِيحٌ عِنْدَ كُلِّ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ لُزُومِ تَقْلِيدِ الْأَرْجَحِ وَيُبَاحُ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ شَاءَ مِنْ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ وَإِنْ نَقْلَ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ إذَا قِيلَ إنَّ لِلْمُجْتَهِدِ الَّذِي لَمْ يَجْتَهِدْ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ شَاءَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَعْلَمَ مِنْهُ وَقِيلَ أَيْضًا فِي الْمُقَلِّدِ بَعْدَ الْتِزَامِ مَذْهَبِ إمَامٍ مُعَيَّنٍ وَعَمِلَ بِقَوْلِهِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ تَقْلِيدِهِ إلَى تَقْلِيدِ غَيْرِهِ فَكَيْفَ يُمْنَعُ مُقَلِّدٌ مُتَمَكِّنٌ مِنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَلْتَزِمْ مَذْهَبَ إمَامٍ مُعَيَّنٍ مِنْ تَقْلِيدِ مَنْ شَاءَ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَلْتَزِمَ مَذْهَبَ إمَامٍ مُعَيَّنٍ فَهُوَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُ بِتَقْلِيدِهِ الشَّاذِّ مِنْ أَقْوَالِ مَذْهَبِهِ الْجَارِيَةِ كُلِّهَا عَلَى أُصُولِ إمَامِهِ بِحَسَبِ مَقَاصِدِ قَائِلِهَا.
وَقَدْ سُئِلَ الشَّيْخُ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ الْمُفْتِي بِخَبَرِ الْمُسْتَفْتِي بِاخْتِلَافِ النَّاسِ.
فَأَجَابَ: مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْمُفْتِيَ إذَا أَفْتَى الْمُسْتَفْتِيَ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَيَّ الْأَقْوَالِ شَاءَ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَوَجَدَ فِيهِ أَبَا الْمُصْعَبِ فِي مَجْلِسٍ وَابْنَ وَهْبٍ وَغَيْرَهُمَا كَذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَقْصِدَ أَيَّهُمْ شَاءَ فَيَسْأَلُهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَعْمَلَ بِقَوْلِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ وَهُمْ أَحْيَاءٌ أَوْ يَخْتَارَ مَا ثَبَتَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ قُلْت لِأَبِي مُحَمَّدٍ بِمَ تَقُولُ أَنْتَ فِي ذَلِكَ قَالَ أَمَّا مَنْ فِيهِ فَضْلُ اخْتِيَارٍ فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ لِنَفْسِهِ وَمَنْ
لَيْسَ فِي فَضْلِ الِاخْتِيَارِ قَلَّدَ رَجُلًا يَقْوَى فِي نَفْسِهِ فَاخْتِيَارُ الرَّجُلِ كَاخْتِيَارِ الْقَوْلِ انْتَهَى. فَانْظُرْ إلَى مَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ مِنْ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَهُوَ يَقْتَضِي انْصِرَافَ التَّقْلِيدِ إلَى مَسْأَلَةِ الْمُقَلِّدِ عَلَى سَبِيلِ الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ فِيمَا يُقَلِّدُهُ بِكَوْنِهِ مَشْهُورًا أَوْ أَصَحَّ أَوْ قَائِلُهُ أَفْضَلُ.
وَفِي مُفِيدِ الْحُكَّامِ لِابْنِ هِشَامٍ إذَا لَمْ يَكُنْ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاخْتَلَفَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يُشَاوِرُهُمْ فِيهِ فَقِيلَ يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَعْلَمِهِمْ وَقِيلَ بِقَوْلِ أَكْثَرِهِمْ وَقِيلَ يَأْخُذُ بِقَوْلِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ.
وَفِي الْمُتَيْطِيِّ يَنْظُرُ فِي أَقْوَالِهِمْ فَمَا رَآهُ عِنْدَهُ أَقْرَبَ إلَى الْجَوَازِ أَخَذَ بِهِ انْتَهَى فَقِفْ عَلَى قَوْلِهِ وَقِيلَ يَأْخُذُ بِقَوْلِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ يَعْنِي وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَائِلُهُ أَعْلَمَ، وَلَا أَكْثَرَ بَلْ يَكُونُ مِثْلًا أَوْ أَقَلَّ عَدَدًا أَوْ أَدْنَى عِلْمًا فَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْقَوْلِ الشَّاذِّ وَقَدْ قَالَ هَذَا الْقَائِلُ بِجَوَازِ تَقْلِيدِهِ فَأَيْنَ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ وَلَعَلَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ إنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ تَبِعَ الْقَاضِي أَوْ الْمُفْتِي فِي تَقْلِيدِ الشَّاذِّ هَوَاهُ فَإِنْ أَبْغَضَ شَخْصًا أَوْ كَانَ مِنْ ذَوِي الْخُمُولِ شَدَّدَ عَلَيْهِ فَقَضَى عَلَيْهِ وَأَفْتَاهُ بِالْمَشْهُورِ، وَإِنْ أَحَبَّهُ أَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مِنَّةٌ وَكَانَ مِنْ أَصْدِقَائِهِ أَوْ أَقَارِبِهِ وَاسْتَحْيَا مِنْهُ لِكَوْنِهِ مِنْ ذَوِي الْوَجَاهَةِ أَوْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا أَفْتَاهُ أَوْ قَضَى لَهُ بِالشَّاذِّ الَّذِي فِيهِ رُخْصَةٌ وَلَا حَقًّا وَفِي تَحْرِيمِ هَذَا وَحَكَى ابْنُ فَرْحُونٍ فِي مَنْعِ ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْلَ الشَّاذَّ وَإِنْ كَانَ حَقًّا مَثَلًا فَلَمْ يَتَّبِعْهُ هَذَا الْمُقَلِّدُ لِأَجْلِ حَقِيقَتِهِ بَلْ لِأَجْلِ مُتَابَعَةِ هَوَاهُ بِهِ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي سِرِّ قَوْله تَعَالَى لِدَاوُدَ عليه السلام {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص: 26] بَعْدَ أَمْرِهِ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِالْحَقِّ أَنَّ فِيهِ إشَارَةً إلَى أَنَّ الِامْتِثَالَ لَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِ الْحُكْمِ بِالْحَقِّ حَتَّى يَكُونَ الْبَاعِثُ عَلَى الْحُكْمِ بِهِ أَحَقِّيَّتَهُ لَا اتِّبَاعَ الْهَوَى فَيَكُونُ مَعْبُودُ مَنْ اتَّصَفَ بِهَذَا هَوَاهُ لَا مَوْلَاهُ - جَلَّ وَعَلَا - حَتَّى إنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ هَوَاهُ فِي الْحَقِّ تَرَكَهُ وَاتَّبَعَ غَيْرَ اللَّهِ أَمَّا مَنْ قَلَّدَ الْقَوْلَ الشَّاذَّ لِأَنَّهُ حَقٌّ فِي حَقِّ مَنْ قَالَ بِهِ، وَفِي حَقِّ مَنْ قَلَّدَهُ وَلَمْ يَحْمِلْهُ عَلَيْهِ مُجَرَّدُ الْهَوَى بَلْ الْحَاجَةُ وَالِاسْتِعَانَةُ عَلَى دَفْعِ ضَرَرٍ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ ثُمَّ شَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَافَقَ غَرَضَهُ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ مِنْ الْحَقِّ مَا يُوَافِقُ هَوَاهُ أَجْرَاهُ وَخَافَ اللَّهَ تَعَالَى فَهَذَا تُرْجَى لَهُ السَّلَامَةُ فِي تَقْيِيدِهِ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَبِهِ التَّوْفِيقُ انْتَهَى.
وَأَجَابَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِمَا نَصُّهُ: " حُكْمُ الْمُقَلِّدِ الْمَذْكُورِ وَصِفَةُ حُكْمِ الْمُسْتَفْتِي إذَا أَخْبَرَهُ الْمُفْتِي بِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ اسْتَفْتَاهُ فِيهَا فَقِيلَ لَهُ تَقْلِيدُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَأَنَّ الْأَقْوَالَ الْمَنْسُوبَةَ لِلْأَمْوَاتِ كَالْأَقْوَالِ الثَّابِتَةِ لِلْأَحْيَاءِ.
وَقِيلَ لَا يَصِحُّ لَهُ التَّخْيِيرُ وَلَا يَسُوغُ لِلْمُفْتِي إطْلَاقُ الْخِلَافِ لِلْمُسْتَفْتِينَ فَيَتَعَيَّنُ الْقَوْلُ الرَّاجِحُ فَإِنْ تَأَهَّلَ لِلتَّرْجِيحِ وَجَبَ وَالْأَرْجَحُ بِرُجْحَانِ الْقَائِلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُصِيبَ فِي الِاجْتِهَادِيَّات وَاحِدٌ وَأَنَّ تَقْلِيدَ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ