الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ فِي شَرْحِ أَوَّلِ حَدِيثٍ مِنْهُ وَهُوَ حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ سُفْيَانَ قِرَاءَةً مِنِّي عَلَيْهِ أَنَّ قَاسِمَ بْنَ أَصْبَغَ حَدَّثَهُمْ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْبَزَّارُ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ سَيِّئَاتُهُ اهـ.
وَقَالَ الْمُقْرِي فِي قَوَاعِدِهِ قَالَ عُمَرُ تُكْتَبُ لِلصَّبِيِّ حَسَنَاتُهُ وَلَا تُكْتَبُ عَلَيْهِ سَيِّئَاتُهُ وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُبْتَدِعَةِ خِلَافُ هَذَا وَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ اهـ.
وَقَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ وَالصَّوَابُ عِنْدِي أَنَّهُمَا أَيْ الصَّبِيَّ وَالْوَلِيَّ جَمِيعًا مَنْدُوبَانِ إلَى ذَلِكَ مَأْجُورَانِ عَلَيْهِ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْمَرْأَةِ الَّتِي أَخَذَتْ بِضَبْعَيْ الصَّبِيِّ وَقَالَتْ أَلِهَذَا حَجٌّ: نَعَمْ وَلَك أَجْرٌ» وَهَذَا وَاضِحٌ اهـ وَقَالَ الْجُزُولِيُّ وَاخْتُلِفَ لِمَنْ أَجْرُ صَلَاةِ الصَّبِيِّ فَقِيلَ لِوَالِدَيْهِ وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَقِيلَ الثُّلُثُ لِلْأَبِ وَالثُّلُثَانِ لِلْأُمِّ وَضَعَّفَ بَعْضُهُمْ هَذَا كُلَّهُ وَقَالَ إنَّمَا يَكُونُ لِلصَّبِيِّ وَالْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَى مَنْ قَالَ «إنَّهُ لِوَالِدَيْهِ لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ إنَّ الصِّبْيَانَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّةِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا يَتَفَاوَتُ الْكِبَارُ» وَيُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] اهـ وَعِبَارَةُ الْمَجْمُوعِ وَلِلصَّبِيِّ ثَوَابُ مَا طُلِبَ مِنْهُ عَلَى التَّحْقِيقِ وَإِنْ كَانَ لِأَبَوَيْهِ ثَوَابُ التَّسَبُّبِ فَقَدْ وَرَدَ كَمَا فِي الْخِطَابِ وَغَيْرِهِ تَفَاوُتُ الصِّبْيَانِ بِالْأَعْمَالِ اهـ. وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
[الْإِفْتَاءُ بِغَيْرِ عِلْمٍ]
(وَمَا قَوْلُكُمْ) فِي رَجُلَيْنِ فِي قُرَى الرِّيفِ يَدَّعِيَانِ الْعِلْمَ وَيُفْتِيَانِ بِغَيْرِ وَجْهٍ شَرْعِيٍّ لِكَوْنِهِمَا لَمْ يَطْلُبَا عِلْمًا قَطُّ وَإِنَّمَا يُفْتِيَانِ لِكَوْنِ قَرِيبِهِمَا كَانَ يَعْرِفُ مَسَائِلَ وَمَاتَ فَهَلْ إفْتَاؤُهُمَا بَاطِلٌ وَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ الشَّرْعِيِّ مَنْعُهُمَا مِنْهُ وَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي النَّظَرِ فِي أَحْوَالِهِمَا فَإِنْ رَآهَا كَذَلِكَ أَدَّبَهُمَا وَمَنَعَهُمَا بِالْمُنَادَاةِ عَلَيْهِمَا فِي الْأَسْوَاقِ؟
فَأَجَابَ الشَّيْخُ حَسَنٌ الْجِدَّاوِيُّ الْمَالِكِيُّ بِقَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعِلْمُ لَيْسَ بِالْوِرَاثَةِ فَيَحْرُمُ الْإِفْتَاءُ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَعَلَى الْحَاكِمِ الشَّرْعِيِّ مَنْعُهُ مِنْ هَذَا الْمَنْصِبِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَجَابَ الشَّيْخُ عُمَرُ الْإِسْقَاطِيُّ الْحَنَفِيُّ بِقَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ الشَّرْعِيِّ مَنْعُ الرَّجُلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مِنْ الْإِفْتَاءِ حَيْثُ لَمْ يَكُونَا أَهْلًا لِذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعَا فَعَلَيْهِ زَجْرُهُمَا بِمَا يَلِيقُ بِحَالِهِمَا وَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ إعَانَةُ الْحَاكِمِ الْمَذْكُورِ فِي دَفْعِ هَذِهِ الذَّرِيعَةِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ فَسَادِ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَيُثَابُ عَلَى ذَلِكَ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ يَوْمَ الْعَرْضِ {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: 251] ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَتَقَدَّمَ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ عَنْ هَذَا وَلَكِنْ أَرَدْت زِيَادَةَ الْفَائِدَةِ وَالتَّبَرُّكَ بِآثَارِ الْمُتَأَخِّرِينَ.
مَا قَوْلُكُمْ) فِيمَنْ كَانَ مُقَلِّدًا لِأَحَدِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَتَرَكَ ذَلِكَ زَاعِمًا أَنَّهُ يَأْخُذُ الْأَحْكَامَ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ تَارِكًا لِكُتُبِ الْفِقْهِ مَائِلًا لِقَوْلِ أَحْمَدَ بْنِ إدْرِيسَ بِذَلِكَ قَائِلًا إنَّ كُتُبَ الْفِقْهِ لَا تَخْلُو مِنْ الْخَطَأِ وَفِيهَا أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَكَيْفَ تَتْرُكُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ وَتُقَلِّدُ الْأَئِمَّةَ فِي اجْتِهَادِهِمْ الْمُحْتَمَلِ لِلْخَطَأِ وَقَائِلًا أَيْضًا لِمَنْ تَمَسَّكَ بِكَلَامِ الْأَئِمَّةِ وَمُقَلِّدِيهِمْ أَنَا أَقُولُ لَكُمْ قَالَ اللَّهُ أَوْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ قَالَ مَالِكٌ أَوْ ابْنُ الْقَاسِمِ أَوْ خَلِيلٌ فَتُقَابِلُونَ كَلَامَ الشَّارِعِ الْمَعْصُومِ مِنْ الْخَطَأِ بِكَلَامِ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الْخَطَأُ، وَمِنْ أَفْعَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ قَصْرُ الصَّلَاةِ فِي مَسَافَةِ نِصْفِ يَوْمٍ وَفِطْرُ رَمَضَانَ فِيهَا وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ بِلَا وُضُوءٍ وَالْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ فِي الْفَرِيضَةِ وَالْقُنُوتُ بَعْدَ الرُّكُوعِ جَهْرًا وَالْقَبْضُ فِيهَا وَتَأْخِيرُ الصُّبْحِ إلَى الْإِسْفَارِ الْبَيِّنِ. وَمِنْهَا أَنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ نَزَلَتْ بِبَرْقَةَ وَبَنَتْ بِهَا زَاوِيَةً وَجَعَلَتْ لَهَا حِمًى مَدَّ الْبَصَرِ وَصَارُوا إذَا رَأَوْا فَرَسًا فِيهِ لِغَيْرِهِمْ رَبَطُوهَا بِلَا أَكْلٍ وَلَا شُرْبٍ حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُهَا يَفْدِيهَا بِدَرَاهِمَ أَوْ تَمُوتُ صَبْرًا وَإِنْ رَأَوْا فِيهِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ذَكُّوهُ وَأَكَلُوهُ إنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ صَاحِبُهُ وَيَفْدِهِ بِدَرَاهِمَ وَرَأَوْا ذَاتَ يَوْمٍ قَطِيعًا مِنْ الْغَنَمِ بِهِ فَبَادَرُوا إلَيْهِ مُتَدَاعِينَ بِلَفْظِ الْإِخْوَانِ وَذَبَحُوا مِنْهُ جُمْلَةً وَاقْتَسَمُوا لَحْمَهَا ثُمَّ أَتَى رَبُّهُ فَوَقَعَ عَلَى شَيْخِهِمْ فَرَدَّ عَلَيْهِ الْبَاقِيَ.
وَمِنْهَا أَنَّ شَخْصًا أَعْمَى قَدِمَ إلَيْهِمْ بِأَوْلَادِهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَقَامَ عِنْدَهُمْ مُدَّةً فَلَمْ يُعْجِبْهُ حَالُهُمْ فَانْتَقَلَ عَنْهُمْ إلَى بَلَدٍ أُخْرَى عَازِمًا عَلَى الرُّجُوعِ لِوَطَنِهِ فَأَرْسَلَ خَلْفَهُ شَيْخُهُمْ وَرَدَّهُ وَقَالَ لَهُ سَتُسَافِرُ فِي غَدٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَسَقَاهُ شَيْئًا فَاشْتَكَى مِنْ حِينِهِ وَمَاتَ فِي ثَانِي يَوْمٍ وَلَمَّا قَدِمَ شَيْخُهُمْ إلَى مِصْرَ ذَهَبَ إلَيْهِ وَلَدُ الْمَيِّتِ وَسَأَلَهُ عَنْ تَرِكَتِهِ فَقَالَ لَهُ إنِّي وَضَعْتهَا عِنْدَ فُلَانٍ وَسَأَكْتُبُ لَهُ يُرْسِلُهَا لَك وَلَمَّا تَرَدَّدَ عَلَيْهِ لِذَلِكَ أَعْطَاهُ خَمْسَةَ رِيَالَاتٍ لَا غَيْرَ. وَمِنْهَا أَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ نَفَى عِصْمَةَ أَبِينَا آدَمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - بَلْ وَكُلِّ نَبِيٍّ وَرَدَتْ فِيهِ آيَةٌ مُتَشَابِهَةٌ تَمَسُّكًا بِظَاهِرِهَا زَاعِمًا أَنَّهُ نَصٌّ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ وَأَلَّفَ فِي ذَلِكَ نَثْرًا وَنَظْمًا. وَمِنْهَا أَنَّ شَيْخَهُمْ أَخْبَرَ أَهْلَ سِيوَى بِخُسُوفِ الْقَمَرِ قَبْلَ وُقُوعِهِ مُوهِمًا لَهُمْ الْمُكَاشَفَةَ وَرَدَّهُمْ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ إلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِمَّا تَقَدَّمَ بَيَانُ بَعْضِهِ. وَمِنْهَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ عَلَى شَيْخِهِمْ إنَّهُ الْمَهْدِيُّ بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ إنَّهُ نَبِيٌّ وَإِنَّ أَحَدَهُمْ أَعْلَى مَقَامًا مِنْ عَبْدِ الْقَادِرِ وَنَحْوِهِ وَيُسَمُّونَ طَرِيقَتَهُمْ الْمُحَمَّدِيَّةَ وَيَظْهَرُونَ لِمَنْ لَا يَعْرِفُهُمْ أَنَّهُمْ مَالِكِيَّةٌ فَهَلْ مَا عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةُ ضَلَالٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ عَنْهُ وَالْمُبَادَرَةُ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ أَفِيدُوا الْجَوَابَ.
فَأَجَبْت بِمَا نَصُّهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ لَا يَجُوزُ لِعَامِّيٍّ أَنْ يَتْرُكَ تَقْلِيدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَيَأْخُذَ الْأَحْكَامَ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَهُ شُرُوطٌ كَثِيرَةٌ مُبَيَّنَةٌ فِي
الْأُصُولِ لَا تُوجَدُ فِي أَغْلِبْ الْعُلَمَاءِ وَلَا سِيَّمَا فِي آخِرِ الزَّمَانِ الَّذِي عَادَ الْإِسْلَامُ فِيهِ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ مَا ظَاهِرُهُ صَرِيحُ الْكُفْرِ وَلَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْحَدِيثُ مَضَلَّةٌ إلَّا لِلْفُقَهَاءِ يُرِيدُ أَنَّ غَيْرَهُمْ قَدْ يَحْمِلُ الشَّيْءَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَهُ تَأْوِيلٌ مِنْ حَدِيثِ غَيْرِهِ أَوْ دَلِيلٌ يَخْفَى عَلَيْهِ أَوْ مَتْرُوكٌ أَوْجَبَ تَرْكَهُ غَيْرَ شَيْءٍ مِمَّا لَا يَقُومُ بِهِ إلَّا مَنْ اسْتَبْحَرَ وَتَفَقَّهَ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّمَا فَسَدَتْ الْأَشْيَاءُ حِينَ تُعُدِّيَ بِهَا مَنَازِلُهَا وَلَيْسَ هَذَا الْجَدَلُ مِنْ الدِّينِ بِشَيْءٍ نَقَلَهُ ابْنُ يُونُسَ وَفِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْعِلْمُ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ مَعْرِفَةُ السُّنَنِ وَالْأَمْرِ الْمَاضِي الْمَعْرُوفِ الْمَعْمُولِ بِهِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - السُّنَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنْ سُنَّةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ خَيْرٌ مِنْ الْحَدِيثِ وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْعَمَلُ أَثْبَتُ مِنْ الْأَحَادِيثِ قَالَ مَنْ يَقْتَدِي بِهِ وَإِنَّهُ لَضَعِيفٌ أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ وَكَانَ رِجَالٌ مِنْ التَّابِعِينَ تَبْلُغُهُمْ عَنْ غَيْرِهِمْ الْأَحَادِيثُ فَيَقُولُونَ مَا نَجْهَلُ هَذَا وَلَكِنْ مَضَى الْعَمَلُ عَلَى غَيْرِهِ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ جَرِيرٍ رُبَّمَا قَالَ لَهُ أَخُوهُ لِمَ لَمْ تَقْضِ بِحَدِيثِ كَذَا فَيَقُولُ لَمْ أَجِدْ النَّاسَ عَلَيْهِ.
قَالَ النَّخَعِيُّ لَوْ رَأَيْت الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم يَتَوَضَّئُونَ إلَى الْكُوعَيْنِ لَتَوَضَّأْت كَذَلِكَ وَأَنَا أَقْرَؤُهَا إلَى الْمَرَافِقِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يُتَّهَمُونَ فِي تَرْكِ السُّنَنِ وَهُمْ أَرْبَابُ الْعِلْمِ وَأَحْرَصُ خَلْقِ اللَّهِ عَلَى اتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَظُنُّ ذَلِكَ بِهِمْ أَحَدٌ إلَّا ذُو رِيبَةٍ فِي دِينِهِ
وَقَدْ بَنَى مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَذْهَبَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ الْأَوَّلُ آيَةٌ قُرْآنِيَّةٌ وَالثَّانِي حَدِيثٌ صَحِيحٌ سَالِمٌ مِنْ الْمُعَارَضَةِ الثَّالِثُ إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الرَّابِعُ اتِّفَاقُ جُمْهُورِهِمْ وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى وُجُوبِ التَّقْلِيدِ عَلَى مَنْ لَيْسَ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ حَسْبَمَا فِي الدِّيبَاجِ لِلْإِمَامِ ابْنِ فَرْحُونٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعُمْدَةِ الْمُرِيدِ لِلشَّيْخِ اللَّقَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ مَعْلُومًا مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ.
فَإِنْ قُلْت إنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ شَيْخَهُمْ فِيهِ شُرُوطُ الِاجْتِهَادِ وَفَاقَ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْإِجْمَاعُ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ لَيْسَ فِيهِ الشُّرُوطُ.
قُلْت لَا بِمُشَاهَدَةِ عَدَمِهَا فِيهِ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يُقْصِرُونَ وُجُوبَ الِاجْتِهَادِ عَلَيْهِ بَلْ يَعْتَقِدُونَ وُجُوبَهُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ وَعَلَى إرْخَاءِ الْعَنَانِ نَقُولُ لَهُمْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ وَاسْتَخْرِجُوا لَنَا أَحْكَامًا مِنْ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ غَيْرَ الْأَحْكَامِ الَّتِي اسْتَخْرَجَتْهَا الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَهَذَا مَأْخَذُهُ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] الْآيَةُ كَمَا نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْعَارِفُ الشَّعْرَانِيُّ فِي الْمِيزَانِ وَأَطَالَ الْكَلَامَ فِي التَّشْنِيعِ عَلَى مِثْلِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ.
وَذَكَرَ عَنْ الْجَلَالِ السُّيُوطِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَتَّفِقْ لِأَحَدٍ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ ادِّعَاءُ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ إلَّا لِمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ وَأَنَّ مَا كَانَ مِنْ نَحْوِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ
وَالْمُزَنِيِّ وَنَحْوِهِمْ فَإِنَّمَا كَانَ اجْتِهَادًا مُنْتَسِبًا لِمَذْهَبٍ.
وَقَوْلُهُمْ إنَّ كُتُبَ الْفِقْهِ لَا تَخْلُو مِنْ الْخَطَأِ إنْ أَرَادُوا أَنَّهَا تَتَّفِقُ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى تَرْكِ جَمِيعِهَا فَهُوَ تَكْذِيبٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي شَهَادَتِهِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْعِصْمَةِ مِنْ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الْخَطَأِ وَتَضْلِيلٌ لِلْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَيْرِ الْقُرُونِ بِشَهَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ أَرَادُوا فِي بَعْضِهَا مُعِينًا فَلْيُنْهَ عَنْهُ بِخُصُوصِهِ لَا عَنْ الْجَمِيعِ بَلْ الْوَاجِبُ بَيَانُهُ وَالتَّنْبِيهُ عَلَيْهِ وَإِنْ أَرَادُوا غَيْرَ مُعِينٍ فَمِنْ أَيْنَ لَهُمْ ذَلِكَ فَإِنْ قَالُوا مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالْحَقُّ وَاحِدٌ قُلْنَا هَذِهِ مَسْأَلَةٌ مَفْرُوغٌ مِنْهَا فِي الْأُصُولِ وَمَنْ قَالَ الْحَقُّ وَاحِدٌ لَمْ يُنْهَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ إذْ الْخَطَأُ غَيْرُ الْمُعِينِ لَمْ يُكَلِّفْنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ سَعَةِ فَضْلِهِ.
وَلِلَّهِ دَرُّ الشَّعْرَانِيِّ حَيْثُ جَعَلَ جَمِيعَ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ صَحِيحَةً دَائِرَةً عَلَى التَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ وَهُوَ كَلَامٌ مُنَوِّرٌ لِلْبَصَائِرِ وَمُزِيلٌ لِرَيْنِ الضَّمَائِرِ جَزَاهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أَفْضَلَ الْجَزَاءِ بِمَنِّهِ وَقَوْلُهُمْ فِيهَا أَحْكَامٌ مُخَالِفَةٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ قُلْنَا نَعَمْ لَكِنَّ تِلْكَ الْمُخَالَفَةَ لَا تَقْدَحُ فِي تِلْكَ الْأَحْكَامِ وَلَا تُوجِبُ تَرْكَهَا لِابْتِنَاءِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ عَلَى أَثْبَتَ مِنْ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَهُوَ عَمَلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِمَا اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَأَشَدُّ النَّاسِ تَمَسُّكًا بِهَا وَوُقُوفًا عِنْدَ حُدُودِهَا فَعَمَلُهُمْ بِخِلَافِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى نَسْخِهِ وَرُجُوعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ وَعَمَلُهُمْ بِخِلَافِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مَا عَمِلُوا بِهِ وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ النَّخَعِيِّ لَوْ رَأَيْت الصَّحَابَةَ يَتَوَضَّئُونَ إلَى الْكُوعَيْنِ لَتَوَضَّأْت كَذَلِكَ وَأَنَا أَقْرَؤُهَا إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَهَلْ يَفْهَمُ أَحَدٌ مَعْنَى كِتَابِ اللَّهِ وَأَحَادِيثِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ فَهْمِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ حَاشَا وَكَلَّا.
قَالَ فِي الْمَدْخَلِ: وَانْظُرْ إلَى حِكْمَةِ الشَّارِعِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - فِي هَذِهِ الْقُرُونِ وَكَيْفَ خَصَّهُمْ بِالْفَضِيلَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ مِنْ الْقُرُونِ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ الْبَرَكَةُ وَالْخَيْرُ لَكِنْ اخْتَصَّتْ تِلْكَ الْقُرُونُ بِمَزِيَّةٍ لَا يُوَازِيهِمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل خَصَّهُمْ لِإِقَامَةِ دِينِهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ فَالْقَرْنُ الْأَوَّلُ خَصَّهُمْ اللَّهُ عز وجل بِخُصُوصِيَّةٍ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ أَنْ يَلْحَقَ غُبَارَ أَحَدِهِمْ فَضْلًا عَنْ عَمَلِهِ لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ خَصَّهُمْ بِرُؤْيَةِ نَبِيِّهِ عليه الصلاة والسلام وَمُشَاهَدَتِهِ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ غَضًّا طَرِيًّا يَتَلَقَّوْنَهُ مِنْ فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ يَتَلَقَّاهُ مِنْ جِبْرِيلَ عليه السلام وَخَصَّهُمْ بِالْقِتَالِ بَيْنَ يَدَيْ نَبِيِّهِ وَنُصْرَتِهِ وَحِمَايَتِهِ وَإِذْلَالِ الْكُفْرِ وَإِخْمَادِهِ وَرَفْعِ مَنَارِ الْإِسْلَامِ وَأَعْلَامِهِ وَحَفَّظَهُمْ آيَ الْقُرْآنِ الَّذِي كَانَ يَنْزِلُ نُجُومًا فَأَهَّلَهُمْ اللَّهُ لِحِفْظِهِ حَتَّى لَمْ يَضِعْ مِنْهُ وَلَا حَرْفٌ وَاحِدٌ فَجَمَعُوهُ وَيَسَّرُوهُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ وَفَتَحُوا الْبِلَادَ وَالْأَقَالِيمَ لِلْمُسْلِمِينَ وَمَهَّدُوا لَهُمْ وَحَفِظُوا أَحَادِيثَ نَبِيِّهِمْ عليه الصلاة والسلام فِي صُدُورِهِمْ وَأَثْبَتُوهَا عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ عَدَمِ اللَّحْنِ وَالْغَلَطِ وَالسَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا شَكَّ فِي الْحَدِيثِ تَرَكَهُ أَلْبَتَّةَ فَلَا يُحَدِّثُ بِهِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ قَرْنِهِمْ بَلْ مِنْ الْقَرْنِ الثَّانِي فَمَا بَالُك بِهِمْ وَهُمْ خَيْرُ الْخِيَارِ وَوَصْفُهُمْ فِي الْحِفْظِ وَالضَّبْطِ لَا يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ وَلَا يَصِلُ إلَيْهِ أَحَدٌ فَجَزَاهُمْ اللَّهُ عَنْ أُمَّةِ نَبِيِّهِمْ خَيْرًا لَقَدْ أَخْلَصُوا لِلَّهِ تَعَالَى الدَّعْوَةَ وَذَبُّوا عَنْ دِينِهِ بِالْحَمِيَّةِ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَأَسِّيًا فَلْيَتَأَسَّ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا وَأَقْوَمَهَا هَدْيًا وَأَحْسَنَهَا حَالًا اخْتَارَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِقَامَةِ دِينِهِ فَاعْرِفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ وَاتَّبِعُوهُمْ فِي آثَارِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهَدْيِ الْمُسْتَقِيمِ اهـ.
وَقَالَ الْعَارِفُ الشَّعْرَانِيُّ فَصْلٌ فِي بَيَانِ اسْتِحَالَةِ خُرُوجِ شَيْءٍ مِنْ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ عَنْ الشَّرِيعَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ بَنَوْا قَوَاعِدَ مَذَاهِبِهِمْ عَلَى الْحَقِيقَةِ الَّتِي هِيَ أَعْلَى مَرْتَبَتَيْ الشَّرِيعَةِ كَمَا بَنَوْا عَلَى ظَاهِرِ الشَّرِيعَةِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ وَأَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِالْحَقِيقَةِ أَيْضًا لَا كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الْمُقَلِّدِينَ فِيهِمْ فَكَيْفَ يَصِحُّ خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ أَقْوَالِهِمْ عَنْ الشَّرِيعَةِ وَمَنْ نَازَعَنَا فِي ذَلِكَ فَهُوَ جَاهِلٌ بِمَقَامِ الْأَئِمَّةِ فَوَاَللَّهِ لَقَدْ كَانُوا عُلَمَاءَ بِالْحَقِيقَةِ وَالشَّرِيعَةِ مَعًا وَأَنَّ فِي قُدْرَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَنْشُرَ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَمَذْهَبِ غَيْرِهِ بِحُكْمِ مَرْتَبَتَيْ الْمِيزَانِ فَلَا يَحْتَاجُ أَحَدٌ بَعْدَهُ إلَى النَّظَرِ فِي أَقْوَالِ مَذْهَبٍ آخَرَ لَكِنَّهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - كَانُوا أَهْلَ إنْصَافٍ وَأَهْلَ كَشْفٍ فَكَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّ الْأَمْرَ يَسْتَقِرُّ عَلَى عِدَّةِ مَذَاهِبَ مَخْصُوصَةٍ لَا عَلَى مَذْهَبٍ وَاحِدٍ فَأَبْقَى كُلُّ وَاحِدٍ لِمَنْ بَعْدَهُ عِدَّةَ مَسَائِلَ عَرَفَ مِنْ طَرِيقِ الْكَشْفِ أَنَّهَا تَكُونُ مِنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ فَتَرَكَ الْأَخْذَ بِهَا مِنْ طَرِيقِ الْإِنْصَافِ وَالِاتِّبَاعِ لِمَا أَطْلَعَهُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ كَشْفِهِمْ لَا مِنْ بَابِ الْإِيثَارِ بِالْقُرَبِ الشَّرْعِيَّةِ وَالرَّغْبَةِ عَنْ السُّنَّةِ.
وَسَمِعْت سَيِّدِي عَلِيًّا الْخَوَّاصَ يَقُولُ لَا يَصِحُّ خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ عَنْ الشَّرِيعَةِ أَبَدًا عِنْدَ أَهْلِ الْكَشْفِ قَاطِبَةً وَكَيْفَ يَصِحُّ خُرُوجُهُمْ عَنْ الشَّرِيعَةِ مَعَ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى مَوَادِّ أَقْوَالِهِمْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَمَعَ اجْتِمَاعِ رُوحِ أَحَدِهِمْ بِرُوحِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسُؤَالِهِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ تَوَقَّفُوا فِيهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ هَلْ هَذَا مِنْ قَوْلِك يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ لَا يَقَظَةً وَمُشَافَهَةً وَكَذَلِكَ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَبْلَ أَنْ يُدَوِّنُوهُ فِي كُتُبِهِمْ وَيُدِينُوا اللَّهَ تَعَالَى بِهِ وَيَقُولُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ فَهِمْنَا كَذَا مِنْ آيَةِ كَذَا وَفَهِمْنَا كَذَا مِنْ قَوْلِك فِي الْحَدِيثِ الْفُلَانِيِّ كَذَا فَهَلْ تَرْضَاهُ أَمْ لَا وَيَعْمَلُونَ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ وَإِشَارَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ تَوَقَّفَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَشْفِ الْأَئِمَّةِ وَمِنْ اجْتِمَاعِهِمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَيْثُ الْأَرْوَاحُ قُلْنَا لَهُ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ بِيَقِينٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُجْتَهِدُونَ أَوْلِيَاءَ فَمَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَلِيٌّ أَبَدًا وَقَدْ اُشْتُهِرَ عَنْ
كَثِيرٍ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ هُمْ دُونَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْمَقَامِ بِيَقِينٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَثِيرًا وَيُصَدِّقُهُمْ أَهْلُ عَصْرِهِمْ عَلَى ذَلِكَ كَسَيِّدِي الشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْقُنَاوِيِّ وَسَيِّدِي الشَّيْخِ أَبِي مَدْيَنَ الْمَغْرِبِيِّ وَسَيِّدِي الشَّيْخِ أَبِي السُّعُودِ بْنِ أَبِي الْعَشَائِرِ وَسَيِّدِي الشَّيْخِ إبْرَاهِيمَ الدُّسُوقِيِّ وَسَيِّدِي الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الشَّاذِلِيِّ وَسَيِّدِي الشَّيْخِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُرْسِيِّ وَسَيِّدِي الشَّيْخِ إبْرَاهِيمَ الْمَتْبُولِيِّ وَسَيِّدِي الشَّيْخِ جَلَالِ الدِّينِ السُّيُوطِيِّ وَسَيِّدِي الشَّيْخِ أَحْمَدَ الزَّوَاوِيِّ الْبُحَيْرِيِّ وَجَمَاعَةٍ ذَكَرْنَاهُمْ فِي طَبَقَاتِ الْأَوْلِيَاءِ.
وَرَأَيْت وَرَقَةً بِخَطِّ الشَّيْخِ جَلَالِ الدِّينِ السُّيُوطِيِّ عِنْدَ أَحَدِ أَصْحَابِهِ هُوَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الشَّاذِلِيُّ مُرَاسَلَةً لِشَخْصٍ سَأَلَهُ فِي شَفَاعَةٍ عِنْدَ السُّلْطَانِ قَايِتْبَاي اعْلَمْ يَا أَخِي أَنِّي قَدْ اجْتَمَعْت بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى وَقْتِي هَذَا خَمْسًا وَسَبْعِينَ مَرَّةً يَقَظَةً وَمُشَافَهَةً وَلَوْلَا خَوْفِي مِنْ احْتِجَابِهِ صلى الله عليه وسلم عَنِّي بِسَبَبِ دُخُولِي لِلْوُلَاةِ لَطَلَعْت الْقَلْعَةَ وَشَفَعْتُ فِيك عِنْدَ السُّلْطَانِ وَإِنِّي رَجُلٌ مِنْ خُدَّامِ حَدِيثِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي تَصْحِيحِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ضَعَّفَهَا الْمُحَدِّثُونَ مِنْ طَرِيقِهِمْ وَلَا شَكَّ أَنْ نَفْعَ ذَلِكَ أَرْجَحُ مِنْ نَفْعِك يَا أَخِي انْتَهَى.
وَيُؤَيِّدُ الشَّيْخُ جَلَالُ الدِّينِ فِي ذَلِكَ مَا اُشْتُهِرَ عَنْ سَيِّدِي مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الْمَادِحِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقَظَةً وَمُشَافَهَةً وَلَمَّا حَجَّ كَلَّمَهُ مِنْ دَاخِلِ الْقَبْرِ وَلَمْ يَزَلْ هَذَا مَقَامَهُ حَتَّى طَلَبَ مِنْهُ شَخْصٌ مِنْ التَّحْرَارِيَّةِ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ عِنْدَ حَاكِمِ الْبَلَدِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أَجْلَسَهُ عَلَى بِسَاطِهِ فَانْقَطَعَتْ عَنْهُ الرُّؤْيَةُ فَلَمْ يَزَلْ يَتَطَلَّبُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرُّؤْيَةَ حَتَّى تَرَاءَى لَهُ مِنْ بَعِيدٍ فَقَالَ تَطْلُبُ رُؤْيَتِي مَعَ جُلُوسِك عَلَى بِسَاطِ الظَّلَمَةِ لَا سَبِيلَ لَك إلَى ذَلِكَ فَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ انْتَهَى.
وَقَدْ بَلَغَنَا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الشَّاذِلِيِّ وَتِلْمِيذِهِ الشَّيْخِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُرْسِيِّ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لَوْ احْتَجَبَتْ عَنَّا رُؤْيَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا عَدَدْنَا أَنْفُسَنَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلَ آحَادِ الْأَوْلِيَاءِ فَالْأَئِمَّةُ الْمُجْتَهِدُونَ أَوْلَى بِهَذَا الْمَقَامِ وَكَانَ سَيِّدِي عَلِيٌّ الْخَوَّاصُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لَا يَنْبَغِي لِمُقَلِّدٍ أَنْ يَتَوَقَّفَ فِي الْعَمَلِ بِقَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ وَيُطَالِبَهُمْ بِالدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ سُوءُ أَدَبٍ فِي حَقِّهِمْ وَكَيْفَ يَنْبَغِي التَّوَقُّفُ عَنْ الْعَمَلِ بِأَقْوَالٍ قَدْ بُنِيَتْ عَلَى صَحِيحِ الْأَحَادِيثِ بِالْكَشْفِ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا يُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ أَبَدًا فَإِنَّ عِلْمَ الْكَشْفِ إخْبَارٌ بِالْأُمُورِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهَا وَهَذَا إذَا حَقَّقْته وَجَدْته لَا يُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ فِي شَيْءٍ بَلْ هُوَ الشَّرِيعَةُ بِعَيْنِهَا فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُخْبِرُ إلَّا بِالْوَاقِعِ لِعِصْمَتِهِ مِنْ الْبَاطِنِ وَالظَّنِّ انْتَهَى.
وَسَمِعْت سَيِّدِي عَلِيًّا الْخَوَّاصَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ مِرَارًا كَانَ
أَئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ رضي الله عنهم وَارِثِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِلْمِ الْأَحْوَالِ وَعِلْمِ الْأَقْوَالِ مَعًا خِلَافَ مَا يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ حَيْثُ قَالَ: إنَّ الْمُجْتَهِدِينَ لَمْ يَرِثُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا عِلْمَ الْقَالِ فَقَطْ حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ جَمِيعُ مَا عَلِمَهُ الْمُجْتَهِدُونَ كُلُّهُمْ رُبُعُ عِلْمِ رَجُلٍ كَامِلٍ عِنْدَنَا فِي الطَّرِيقِ إذْ الرَّجُلُ لَا يَكْمُلُ عِنْدَنَا حَتَّى يَتَحَقَّقَ فِي مَقَامِ وِلَايَتِهِ بِعُلُومِ الْحَضَرَاتِ الْأَرْبَعِ فِي قَوْله تَعَالَى {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3] وَهَؤُلَاءِ الْمُجْتَهِدُونَ لَمْ يَتَحَقَّقُوا بِسِوَى عِلْمِ حَضْرَةِ اسْمِهِ الظَّاهِرِ فَقَطْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِعُلُومِ حَضْرَةِ الْأَزَلِ وَالْأَبَدِ وَلَا بِعِلْمِ الْحَقِيقَةِ انْتَهَى.
قُلْت: وَهَذَا كَلَامٌ جَاهِلٌ بِأَحْوَالِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ هُمْ أَوْتَادُ الْأَرْضِ فِي قَوَاعِدِ الدِّينِ وَسَمِعْتُ سَيِّدِي عَلِيًّا الْخَوَّاصَ يَقُولُ كُلُّ مَنْ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ وَجَدَ مَذَاهِبَ الْمُجْتَهِدِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ كُلَّهَا تَتَّصِلُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ الظَّاهِرِ بِالْعَنْعَنَةِ وَمِنْ طَرِيقِ إمْدَادِ قَلْبِهِ صلى الله عليه وسلم لِجَمِيعِ قُلُوبِ عُلَمَاءِ أُمَّتِهِ فَمَا اتَّقَدَ مِصْبَاحُ عَالِمٍ إلَّا مِنْ مِشْكَاةِ نُورِ قَلْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَمِعْته يَقُولُ مَرَّةً أُخْرَى مَا مِنْ قَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ وَمُقَلِّدِيهِمْ إلَّا وَيَنْتَهِي سَنَدُهُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ بِجِبْرِيلَ ثُمَّ بِحَضْرَةِ اللَّهِ عز وجل الَّتِي تَجِلُّ عَنْ التَّكَيُّفِ مِنْ طَرِيقِ السَّنَدِ الظَّاهِرِ وَالسَّنَدِ الْبَاطِنِ الَّذِي هُوَ عِلْمُ الْحَقِيقَةِ الْمُؤَيَّدَةِ بِالْعِصْمَةِ فَمَنْ نَقَلَ عِلْمَهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ خَطَأٌ فِي قَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِهِ وَإِنَّمَا يَقَعُ الْخَطَأُ فِي طَرِيقِ الْأَخْذِ عَنْهُ فَقَطْ فَكَمَا نَقُولُ إنَّ جَمِيعَ مَا رَوَاهُ الْمُحَدِّثُونَ بِالسَّنَدِ الصَّحِيحِ الْمُتَّصِلِ يَنْتَهِي سَنَدُهُ إلَى حَضْرَةِ الْحَقِّ - جَلَّ وَعَلَا -
فَكَذَلِكَ يُقَالُ فِيمَا نَقَلَهُ أَهْلُ الْكَشْفِ الصَّحِيحِ مِنْ عِلْمِ الْحَقِيقَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ جَمِيعَ مَصَابِيحِ عُلَمَاءِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ قَدْ اتَّقَدَتْ مِنْ نُورِ الشَّرِيعَةِ فَمَا مِنْ قَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ وَمُقَلِّدِيهِمْ إلَّا وَهُوَ مُؤَيَّدٌ بِأَقْوَالِ أَهْلِ الْحَقِيقَةِ لَا شَكَّ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ انْتَهَى.
وَسَمِعْت أَخِي الشَّيْخَ أَفْضَلَ الدِّينِ وَقَدْ جَادَلَهُ فَقِيهٌ فِي مَسْأَلَةٍ يَقُولُ، وَاَللَّهِ مَا بَنَى أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ مَذْهَبَهُ إلَّا عَلَى قَوَاعِدِ الْحَقِيقَةِ الْمُؤَيَّدَةِ بِالْكَشْفِ الصَّحِيحِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا تُخَالِفُ الْحَقِيقَةَ أَبَدًا وَإِنَّمَا تَتَخَلَّفُ الْحَقِيقَةُ عَنْ الشَّرِيعَةِ فِي مِثْلِ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِشَهَادَةِ شُهُودِ الزُّورِ الَّذِينَ اعْتَقَدَ الْحَاكِمُ عَدَالَتَهُمْ فَلَوْ كَانُوا شُهُودَ عَدَالَةٍ مَا تَخَلَّفَتْ الْحَقِيقَةُ عَنْ الشَّرِيعَةِ فَكُلُّ حَقِيقَةٍ شَرِيعَةٌ وَعَكْسُهُ وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ أَمَرَنَا بِإِجْرَاءِ أَحْوَالِ النَّاسِ عَلَى الظَّاهِرِ وَنَهَانَا أَنْ نَتْعَبَ وَنَنْظُرَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ رَحْمَةً بِهَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى «سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي» وَلَا تَسْبِقُ الرَّحْمَةُ الْغَضَبَ إلَّا بِكَثْرَةِ وُقُوعِ النَّاسِ فِي الْمَعَاصِي وَالزُّورِ وَزِيَادَةِ ذَلِكَ فِي الْإِقَامَةِ عَلَى الطَّاعَاتِ وَالصِّدْقِ فَافْهَمْ.
وَعَلَى هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ يَكُونُ إجْرَاءُ أَحْكَامِ النَّاسِ عَلَى الظَّاهِرِ عَلَى الشَّرْعِ الْمُقَرَّرِ بِتَقْرِيرِ الشَّارِعِ وَنَظِيرُ ذَلِكَ
اكْتِفَاؤُنَا مِنْ الْمُكَلَّفِ بِفِعْلِ التَّكَالِيفِ ظَاهِرًا، وَقَدْ يَكُونُ فِي بَاطِنِهِ زِنْدِيقًا عَلَى خِلَافِ مَا أَظْهَرَهُ لَنَا وَإِنْ كَانَ مُرَادُ الشَّارِعِ بِشَرِيعَتِهِ حَقِيقَةً إنَّمَا هُوَ مَا وَافَقَ فِيهِ الظَّاهِرُ الْبَاطِنَ فَمَنْ شَهِدَ أَوْ صَلَّى غَيْرَ مُؤْمِنٍ فَلَيْسَ هُوَ عَلَى شَرْعٍ مُطْلَقًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَتَّى يُقَابَلَ بِالْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الدِّينِ وَقَدْ يَنْتَصِرُ الْحَقُّ تبارك وتعالى لِمُنْصِفِ الشَّرْعِ فَيُنَفِّذُ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ فَيُسَامِحُ شُهُودَ الزُّورِ فِي الْآخِرَةِ وَيَعْفُو عَنْهُمْ وَيُمَشِّي حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي مَسْأَلَتِهِمْ كَمَا تَمْشِي شَهَادَةُ الْعُدُولِ وَيُرْضِي الْخُصُومَ كُلُّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنْهُ - تَعَالَى - وَرَحْمَةٌ لِعِبَادِهِ وَسِتْرٌ عَلَى فَضَائِحِهِمْ عِنْدَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَسَمِعْت سَيِّدِي عَلِيًّا الْخَوَّاصَ يَقُولُ لَا يَكْمُلُ إيمَانُ الْعَبْدِ بِأَنَّ سَائِرَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ إلَّا إنْ سَلَكَ طَرِيقَ الْقَوْمِ، وَأَمَّا أَصْحَابُ الْحُجُبِ الْكَثِيفَةِ مِنْ غَالِبِ الْمُقَلِّدِينَ فَمَنْ لَازَمَهُمْ سُوءُ الِاعْتِقَادِ فِي غَيْرِ إمَامِهِمْ وَيُسَلِّمُونَ لَهُ قَوْلَهُ وَفِي قَلْبِهِمْ مِنْهُ حَزَازَةٌ فَإِيَّاكُمْ أَنْ تُكَلِّفُوا أَحَدًا مِنْهُمْ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ الشَّرِيفِ فِي غَيْرِ إمَامِهِمْ إلَّا بَعْدَ السُّلُوكِ وَإِنْ شَكَكْت فِي هَذَا فَاعْرِضْ عَلَيْهِمْ أَقْوَالَ الْمَذَاهِبِ وَقُلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ اعْمَلْ بِقَوْلِ غَيْرِ إمَامِك فَإِنَّهُ لَا يُعْطِيك فِي ذَلِكَ وَيَقُولُ لَك أَنْتَ تُرِيدُ تَهْدِمُ قَوَاعِدَ مَذْهَبِهِ عِنْدَهُ بَلْ وَلَوْ سَلَّمَ لَك ظَاهِرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى انْشِرَاحِ قَلْبِهِ بَاطِنًا وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ مِنْ وَرَاءِ النَّهْرِ جَمَاعَةً مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ يُفْطِرُونَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ لِيَتَقَوَّوْا عَلَى الْجِدَالِ وَإِدْحَاضِ بَعْضِهِمْ حُجَجَ بَعْضٍ انْتَهَى.
وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ الْأَئِمَّةَ الْمُجْتَهِدِينَ مَا سُمُّوا بِذَلِكَ إلَّا لِبَذْلِ أَحَدِهِمْ وُسْعَهُ فِي اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الْكَامِنَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْجَهْدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي إتْعَابِ الْفِكْرِ وَكَثْرَةِ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ فَاَللَّهُ تَعَالَى يَجْزِي جَمِيعَ الْمُجْتَهِدِينَ خَيْرًا فَإِنَّهُمْ لَوْلَا اسْتَنْبَطُوا لِلْأُمَّةِ الْأَحْكَامَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا قَدَرَ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَسَمِعْت شَيْخَنَا شَيْخَ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ لَوْلَا بَيَانُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُجْتَهِدِينَ لَنَا مَا أُجْمِلَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَمَا قَدَرَ أَحَدٌ مِنَّا عَلَى ذَلِكَ كَمَا أَنَّ الشَّارِعَ لَوْلَا بَيَّنَ لَنَا بِسُنَّتِهِ أَحْكَامَ الطَّهَارَةِ مَا اهْتَدَيْنَا لِكَيْفِيَّتِهَا مِنْ الْقُرْآنِ وَلَا قَدَرْنَا عَلَى اسْتِخْرَاجِهَا مِنْهُ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي بَيَانِ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ وَالصَّلَوَاتِ مِنْ فَرْضٍ وَنَفْلٍ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَكَيْفِيَّتِهَا وَبَيَانِ أَنْصِبَتِهَا وَشُرُوطِهَا وَبَيَانِ فَرْضِهَا مِنْ سُنَّتِهَا وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ الَّتِي وَرَدَتْ مُجْمَلَةً فِي الْقُرْآنِ فَلَوْلَا أَنَّ السُّنَّةَ بَيَّنَتْ لَنَا ذَلِكَ مَا عَرَفْنَاهُ وَلِلَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ أَسْرَارٌ وَحِكَمٌ يَعْرِفُهَا الْعَارِفُونَ انْتَهَى.
قَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ النَّاسَ الْآنَ يَصِلُونَ إلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْكَشْفِ فَقَطْ لَا مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَقَامٌ لَمْ يَدَّعِهِ أَحَدٌ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ إلَّا الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ وَلَمْ يُسَلِّمُوا لَهُ ذَلِكَ وَجَمِيعُ مَنْ ادَّعَى
الِاجْتِهَادَ الْمُطْلَقَ إنَّمَا مُرَادُهُ الْمُطْلَقُ الْمَذْهَبِيُّ الَّذِي لَا يَخْرُجُ عَنْ قَوَاعِدِ إمَامِهِ كَابْنِ الْقَاسِمِ وَأَصْبُغَ مَعَ مَالِكٍ وَمُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَالْمُزَنِيِّ وَالرَّبِيعِ مَعَ الشَّافِعِيِّ إذْ لَيْسَ فِي قُوَّةِ أَحَدٍ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنْ يَبْتَكِرَ الْأَحْكَامَ وَيَسْتَخْرِجَهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِيمَا نَعْلَمُ أَبَدًا وَمَنْ ادَّعَى ذَلِكَ قُلْنَا لَهُ اسْتَخْرِجْ لَنَا شَيْئًا لَمْ يَسْبِقْ لِأَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ اسْتِخْرَاجُهُ فَإِنَّهُ يَعْجِزُ انْتَهَى.
وَكَانَ ابْنُ حَزْمٍ يَقُولُ جَمِيعُ مَا اسْتَنْبَطَهُ الْمُجْتَهِدُونَ مَعْدُودٌ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَإِنْ خَفِيَ دَلِيلُهُ عَنْ الْعَوَامّ وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَقَدْ نَسَبَ الْأَئِمَّةَ إلَى الْخَطَأِ وَأَنَّهُمْ يُشَرِّعُونَ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَذَلِكَ ضَلَالٌ مِنْ قَائِلِهِ عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّهُمْ لَوْلَا رَأَوْا فِي ذَلِكَ دَلِيلًا مَا شَرَعُوهُ انْتَهَى. وَكَانَ سَيِّدِي عَلِيٌّ الْخَوَّاصُ يَقُولُ مَا ثَمَّ قَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ إلَّا وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إلَى أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ لِمَنْ تَأَمَّلَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ إمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ أَوْ أَثَرٍ أَوْ قِيَاسٍ صَحِيحٍ عَلَى أَصْلٍ صَحِيحٍ لَكِنْ مِنْ أَقْوَالِهِمْ مَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ صَرِيحِ الْآيَاتِ أَوْ الْأَخْبَارِ أَوْ الْآثَارِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْمَنْطُوقِ أَوْ مِنْ الْمَفْهُومِ فَمِنْ أَقْوَالِهِمْ مَا هُوَ قَرِيبٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ أَقْرَبُ وَمِنْهَا مَا هُوَ بَعِيدٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ أَبْعَدُ وَمَرْجِعُهَا كُلُّهَا إلَى الشَّرِيعَةِ لِأَنَّهَا مُقْتَبَسَةٌ مِنْ شُعَاعِ نُورِهَا وَمَا ثَمَّ لَنَا فَرْعٌ يَتَفَرَّعُ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ أَبَدًا، وَإِنَّمَا الْعَالِمُ كُلَّمَا بَعُدَ عَنْ عَيْنِ الشَّرِيعَةِ ضَعُفَ نُورُ أَقْوَالِهِ بِالنَّظَرِ إلَى نُورِ أَوَّلِ مُقْتَبِسٍ مِنْ عَيْنِ الشَّرِيعَةِ الْأُولَى مِمَّنْ قَرُبَ مِنْهَا وَكَانَ سَيِّدِي عَلِيٌّ الْخَوَّاصُ إذَا سَأَلَهُ إنْسَانٌ عَنْ التَّقَيُّدِ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ الْآنَ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ لَا يَقُولُ يَجِبُ عَلَيْك التَّقَيُّدُ بِمَذْهَبٍ مَا دُمْتَ لَا تَصِلُ إلَى شُهُودِ عَيْنِ الشَّرِيعَةِ الْأُولَى فَهُنَاكَ لَا يَجِبُ عَلَيْك التَّقَيُّدُ بِمَذْهَبٍ لِأَنَّك تَرَى اتِّصَالَ جَمِيعِ مَذَاهِبِ الْمُجْتَهِدِينَ بِهَا وَلَيْسَ مَذْهَبٌ أَوْلَى بِهَا مِنْ مَذْهَبٍ وَيَرْجِعُ الْأَمْرُ عِنْدَك حِينَئِذٍ إلَى مَرْتَبَتَيْ التَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ بِشَرْطِهِمَا انْتَهَى.
وَسَمِعْت شَيْخَنَا شَيْخَ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ مِرَارًا عَيْنُ الشَّرِيعَةِ كَالْبَحْرِ فَمِنْ أَيِّ الْجَوَانِبِ اُغْتُرِفَ مِنْهُ فَهُوَ وَاحِدٌ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ إيَّاكُمْ أَنْ تُبَادِرُوا إلَى الْإِنْكَارِ عَلَى قَوْلِ مُجْتَهِدٍ أَوْ تَخْطِئَتِهِ إلَّا بَعْدَ إحَاطَتِكُمْ بِأَمْثِلَةِ الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا وَمَعْرِفَتِكُمْ بِجَمِيعِ لُغَاتِ الْعَرَبِ الَّتِي احْتَوَتْ عَلَيْهَا الشَّرِيعَةُ وَمَعْرِفَتِكُمْ بِمَعَانِيهَا وَطُرُقِهَا فَإِذَا أَحَطْتُمْ بِهَا كَمَا ذَكَرْنَا وَلَمْ تَجِدُوا ذَلِكَ الْأَمْرَ الَّذِي أَنْكَرْتُمُوهُ فِيهَا فَحِينَئِذٍ لَكُمْ الْإِنْكَارُ، وَأَنَّى لَكُمْ بِذَلِكَ فَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مَرْفُوعًا «إنَّ شَرِيعَتِي جَاءَتْ عَلَى ثَلَثِمِائَةِ طَرِيقَةٍ مَا سَلَكَ أَحَدٌ طَرِيقَةً مِنْهَا إلَّا نَجَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» .
فَإِنْ قِيلَ فَمَا دَلِيلُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي زِيَادَاتِهِمْ الْأَحْكَامَ الَّتِي اسْتَنْبَطُوهَا عَلَى صَرِيحِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهَلَّا كَانُوا وَقَفُوا عَلَى حَدِّ مَا رَأَوْهُ صَرِيحًا فَقَطْ وَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا؛ لِحَدِيثِ «مَا تَرَكْت شَيْئًا يُقَرِّبُكُمْ إلَى اللَّهِ إلَّا وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَلَا شَيْئًا يُبْعِدُكُمْ عَنْ اللَّهِ إلَّا وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ
عَنْهُ» .
فَالْجَوَابُ: دَلِيلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ الِاتِّبَاعُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَبْيِينِهِ مَا أُجْمِلَ فِي الْقُرْآنِ مَعَ قَوْله تَعَالَى {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] فَإِنَّهُ لَوْلَا بَيَّنَ لَنَا كَيْفِيَّةَ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا اهْتَدَى أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ لِمَعْرِفَةِ اسْتِخْرَاجِ ذَلِكَ مِنْ الْقُرْآنِ وَلَا كُنَّا نَعْرِفُ عَدَدَ رَكَعَاتِ الْفَرَائِضِ وَلَا النَّوَافِلِ وَغَيْرَ ذَلِكَ فَكَمَا أَنَّ الشَّارِعَ بَيَّنَ لَنَا بِسُنَّتِهِ مَا أُجْمِلَ فِي الْقُرْآنِ فَكَذَلِكَ الْأَئِمَّةُ الْمُجْتَهِدُونَ بَيَّنُوا لَنَا مَا أُجْمِلَ فِي أَحَادِيثِ الشَّرِيعَةِ وَلَوْلَا بَيَانُهُمْ لَنَا ذَلِكَ لَبَقِيَتْ الشَّرِيعَةُ عَلَى إجْمَالِهَا، وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي أَهْلِ كُلِّ دَوْرٍ بِالنِّسْبَةِ لِلدَّوْرِ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ الْإِجْمَالَ لَمْ يَزَلْ سَارِيًا فِي كَلَامِ الْأَئِمَّةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَوْلَا ذَلِكَ مَا شُرِحَتْ الْكُتُبُ وَلَا عُمِلَ عَلَى الشُّرُوحِ حَوَاشٍ.
وَسَمِعْت بَعْضَ أَهْلِ الْكَشْفِ يَقُولُ إنَّمَا يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى الْمُجْتَهِدُونَ بِالِاجْتِهَادِ لِيَحْصُلَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ التَّشْرِيعِ وَتَثْبُتَ لَهُمْ فِيهِ الْقَدَمُ الرَّاسِخَةُ فَلَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ سِوَى نَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَيُحْشَرُ عُلَمَاءُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَحُفَّاظُ أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ الْعَارِفُونَ بِمَعَانِيهَا فِي صُفُوفِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ لَا فِي صُفُوفِ الْأُمَمِ فَمَا مِنْ نَبِيٍّ أَوْ رَسُولٍ إلَّا وَبِجَانِبِهِ عَالِمٌ مِنْ عُلَمَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوْ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَكْثَرُ وَكُلُّ عَالِمٍ نَهِمٌ لَهُ دَرَجَةُ الْأُسْتَاذِيَّةِ فِي عِلْمِ الْأَحْكَامِ وَالْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ وَالْمُنَزَّلَاتِ إلَى خِتَامِ الدُّنْيَا بِخُرُوجِ الْمَهْدِيِّ عليه السلام وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ جَمِيعَ الْمُجْتَهِدِينَ تَابِعُونَ لِلشَّارِعِ فِي التَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ فَيَا سَعَادَةَ مَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى عَيْنِ الشَّرِيعَةِ الْأُولَى كَمَا أَطْلَعَنَا وَرَأَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَيَا فَوْزَهُ وَكَثْرَةَ سُرُورِهِ إذَا رَآهُ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَخَذُوا بِيَدِهِ وَتَبَسَّمُوا فِي وَجْهِهِ وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ يُبَادِرُ إلَى الشَّفَاعَةِ فِيهِ وَيُزَاحِمُ غَيْرَهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَقُولُ مَا يَشْفَعُ فِيهِ إلَّا أَنَا وَيَا نَدَامَةَ مَنْ قَالَ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَالْبَاقِي مُخْطِئٌ فَإِنَّ جَمِيعَ مَنْ خَطَّأَهُمْ يَعْبِسُونَ فِي وَجْهِهِ لِتَخْطِئَتِهِ لَهُمْ وَتَجْرِيحِهِمْ بِالْجَهْلِ وَسُوءِ الْأَدَبِ وَفَهْمِهِ السَّقِيمِ فَاسْعَ يَا أَخِي فِي الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ عَلَى وَجْهِ الْإِخْلَاصِ وَالْوَرَعِ وَالْعَمَلِ بِكُلِّ مَا عَلِمْت حَتَّى تُطْوَى لَك الطَّرِيقُ بِسُرْعَةٍ وَتُشْرِفَ عَلَى مَقَامَاتِ الْمُجْتَهِدِينَ وَتَقِفَ عَلَى الْعَيْنِ الْأُولَى الَّتِي أَشْرَفَ عَلَيْهَا إمَامُك وَتُشَارِكَهُ فِي الِاغْتِرَافِ مِنْهَا فَكَمَا كُنْت مُتَّبِعًا لَهُ حَالَ سُلُوكِك مَعَ حِجَابِك عَنْ الْعَيْنِ الَّتِي يَشْهَدُ مِنْهَا كَذَلِكَ تَكُونُ مُتَّبِعًا لَهُ فِي الِاغْتِرَافِ مِنْ الْعَيْنِ الَّتِي اغْتَرَفَ مِنْهَا ثُمَّ إذَا دَخَلْت ذَلِكَ الْمَقَامَ فَاسْتَصْحِبْ شُهُودَ الْعَيْنِ وَمَا تَفَرَّعَ مِنْهَا فِي سَائِرِ الْأَدْوَارِ تَصِيرُ تُوَجِّهُ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ وَلَا تَرُدُّ مِنْهَا قَوْلًا وَاحِدًا إمَّا لِصِحَّةِ دَلِيلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِنْدَك مِنْ تَخْفِيفٍ أَوْ تَشْدِيدٍ وَإِمَّا لِشُهُودِك صِحَّةَ اسْتِنْبَاطِهِمْ وَاتِّصَالِهِمْ بِعَيْنِ الشَّرِيعَةِ وَإِنْ نَزَلْت فِي آخِرِ الْأَدْوَارِ.
فَإِنْ قُلْت إذَا قُلْتُمْ إنَّ جَمِيعَ مَذَاهِبِ الْمُجْتَهِدِينَ لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْهَا عَنْ الشَّرِيعَةِ فَأَيْنَ
الْخَطَأُ الْوَارِدُ فِي حَدِيثِ «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ وَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ» مَعَ اسْتِمْدَادِ الْعُلَمَاءِ كُلِّهِمْ مِنْ بَحْرِ الشَّرِيعَةِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَطَأِ هُنَا هُوَ خَطَأُ الْمُجْتَهِدِ فِي عَدَمِ مُصَادَفَةِ الدَّلِيلِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لَا الْخَطَأُ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الشَّرِيعَةِ لِأَنَّهُ إذَا خَرَجَ عَنْ الشَّرِيعَةِ فَلَا أَجْرَ لَهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَحْدَثَ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» انْتَهَى.
وَقَدْ أَثْبَتَ الشَّارِعُ لَهُ الْأَجْرَ فَمَا بَقِيَ إلَّا أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا اجْتَهَدَ وَصَادَفَ نَفْسَ الدَّلِيلِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ عَنْ الشَّارِعِ فَلَهُ أَجْرَانِ أَجْرُ التَّتَبُّعِ وَأَجْرُ مُصَادَفَةِ الدَّلِيلِ وَإِنْ لَمْ يُصَادِفْ عَيْنَ الدَّلِيلِ
وَإِنَّمَا صَادَفَ حُكْمَهُ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَجْرُ التَّتَبُّعِ فَالْمُرَادُ بِالْخَطَأِ هُنَا الْخَطَأُ الْإِضَافِيُّ لَا الْخَطَأُ الْمُطْلَقُ فَافْهَمْ فَإِنَّ اعْتِقَادَنَا أَنَّ سَائِرَ أُمَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِمْ وَمَا ثَمَّ إلَّا قَرِيبٌ مِنْ عَيْنِ الشَّرِيعَةِ وَأَقْرَبُ وَبَعِيدٌ عَنْهَا وَأَبْعَدُ بِحَسَبِ طُولِ السَّنَدِ وَقِصَرِهِ وَكَمَا يَجِبُ عَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِصِحَّةِ جَمِيعِ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ نَسْخِهَا مَعَ اخْتِلَافِهَا وَمُخَالَفَةِ أَشْيَاءَ فِيهَا لِظَاهِرِ شَرِيعَتِنَا فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ اعْتِقَادُ صِحَّةِ جَمِيعِ مَذَاهِبِ الْمُجْتَهِدِينَ وَإِنْ خَالَفَ كَلَامُهُمْ ظَاهِرَ كَلَامِ إمَامِهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كُلَّمَا بَعُدَ عَنْ شُعَاعِ نُورِ الشَّرِيعَةِ خَفِيَ مَدْرَكُهُ وَنُورُهُ وَظَنَّ غَيْرُهُ أَنَّ كَلَامَهُ خَارِجٌ عَنْ الشَّرِيعَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَلَعَلَّ ذَلِكَ سَبَبُ تَضْعِيفِ الْعُلَمَاءِ كَلَامَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِي سَائِرِ الْأَدْوَارِ إلَى عَصْرِنَا هَذَا فَتَجِدُ أَهْلَ كُلِّ دَوْرٍ يَطْعَنُ فِي صِحَّةِ قَوْلِ بَعْضِ الْأَدْوَارِ الَّتِي قَبْلَهُ وَأَيْنَ مَنْ يَخْرِقُ بَصَرُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ جَمِيعَ الْأَدْوَارِ الَّتِي مَضَتْ قَبْلَهُ حَتَّى يَصِلَ إلَى شُهُودِ اتِّصَالِهَا بِعَيْنِ الشَّرِيعَةِ الْأُولَى الَّتِي هِيَ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ هُوَ مَحْجُوبٌ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّ بَيْنَ الْمُقَلِّدِينَ الْآنَ وَبَيْنَ الدَّوْرِ الْأَوَّلِ مِنْ الصَّحَابَةِ نَحْوَ خَمْسَةَ عَشَرَ دَوْرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ فَاعْلَمْ ذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُ الْعَارِفِ الشَّعْرَانِيِّ بِتَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ.
وَقَالَ فِي الْمَدْخَلِ فَلَمَّا أَنْ مَضَوْا لِسَبِيلِهِمْ طَاهِرِينَ عَقَبَهُمْ التَّابِعُونَ لَهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فَجَمَعُوا مَا كَانَ مِنْ الْأَحَادِيثِ مُتَفَرِّقًا وَبَقِيَ أَحَدُهُمْ يَرْحَلُ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ وَالْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ وَضَبَطُوا أَمْرَ الشَّرِيعَةِ أَتَمَّ ضَبْطٍ وَتَلَقَّوْا الْأَحْكَامَ وَالتَّفْسِيرَ مِنْ فِي الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مِثْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه يَقُولُ سَلُونِي مَا دُمْت بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ فَإِنِّي أَعْرَفُ بِأَزِقَّةِ السَّمَاءِ كَمَا أَنَا أَعْرَفُ بِأَزِقَّةِ الْأَرْضِ «وَقَالَ عليه الصلاة والسلام فِي ابْنِ عَبَّاسٍ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ» فَمَنْ لَقِيَ مِثْلَ هَؤُلَاءِ كَيْفَ يَكُونُ عِلْمُهُ وَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ وَعَمَلُهُ فَحَصَلَ لِلْقَرْنِ الثَّانِي نَصِيبٌ وَافِرٌ أَيْضًا فِي إقَامَةِ هَذَا الدِّينِ، وَرُؤْيَةِ مَنْ رَأَى بِعَيْنِ رَأْسِهِ صَاحِبَ الشَّرِيعَةِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ - فَلِذَلِكَ كَانُوا خَيْرًا مِنْ الَّذِينَ بَعْدَهُمْ
ثُمَّ عَقَبَهُمْ التَّابِعُونَ لَهُمْ، وَهُمْ تَابِعُو التَّابِعِينَ رضي الله عنهم فِيهِمْ حَدَّثَ الْفُقَهَاءُ الْمُقَلِّدُونَ الْمَرْجُوعُ إلَيْهِمْ فِي النَّوَازِلِ الْكَاشِفُونَ لِلْكُرُوبِ فَوَجَدُوا الْقُرْآنَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مَجْمُوعًا مُيَسَّرًا وَوَجَدُوا الْأَحَادِيثَ قَدْ ضُبِطَتْ، وَأُحْرِزَتْ فَجَمَعُوا مِنْهَا مَا كَانَ مُفَرَّقًا وَتَفَقَّهُوا فِي الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ عَلَى مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَاسْتَخْرَجُوا فَوَائِدَ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ وَاسْتَنْبَطُوا مِنْهَا فَوَائِدَ وَأَحْكَامًا وَبَيَّنُوا عَلَى مُقْتَضَى الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ وَدَوَّنُوا الدَّوَاوِينَ وَيَسَّرُوا عَلَى النَّاسِ وَأَزَالُوا الْمُشْكِلَاتِ بِاسْتِخْرَاجِ الْفُرُوعِ مِنْ الْأُصُولِ وَرَدُّوا الْفَرْعَ إلَى أَصْلِهِ وَتَبَيَّنَ الْأَصْلُ مِنْ فَرْعِهِ فَانْتَظَمَ الْحَالُ وَاسْتَقَرَّ مِنْ الدِّينِ لِأُمَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِسَبَبِهِمْ الْخَيْرُ الْعَمِيمُ فَحَصَلَتْ لَهُمْ فِي إقَامَةِ هَذَا الدِّينِ خُصُوصِيَّةٌ أَيْضًا بِلِقَائِهِمْ مَنْ رَأَى صَاحِبَ الْعِصْمَةِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ - وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُبْقُوا لِمَنْ بَعْدَهُمْ شَيْئًا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ بِهِ بَلْ كُلُّ مَنْ أَتَى بَعْدَهُمْ إنَّمَا هُوَ مُقَلِّدٌ لَهُمْ فِي الْغَالِبِ وَتَابِعٌ لَهُمْ فَإِنْ ظَهَرَ لَهُمْ فِقْهٌ غَيْرُ فِقْهِهِمْ أَوْ فَائِدَةٌ غَيْرُ فَائِدَتِهِمْ فَمَرْدُودٌ كُلُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَعْنِي بِذَلِكَ أَنْ يَزِيدَ فِي حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَقَرَّرَتْ أَوْ يُنْقِصَ مِنْهَا فَذَلِكَ مَرْدُودٌ بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا مَا اسْتَخْرَجَهُ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْفَوَائِدِ غَيْرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَحْكَامِ فَمَقْبُولٌ «لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي الْقُرْآنِ لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ التَّرْدَادِ» فَعَجَائِبُ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ لَا تَنْقَضِي إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلُّ قَرْنٍ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ فَوَائِدَ جَمَّةً خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا وَضَمَّهَا إلَيْهِ لِتَكُونَ بَرَكَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُسْتَمِرَّةً إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ قَالَ عليه الصلاة والسلام «أُمَّتِي مِثْلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَيُّهُ أَنْفَعُ أَوَّلُهُ أَمْ آخِرُهُ» أَوْ كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام يَعْنِي فِي الْبَرَكَةِ وَالْخَيْرِ وَالدَّعْوَى إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَتَبْيِينِ الْأَحْكَامِ لَا أَنَّهُمْ يُحْدِثُونَ حُكْمًا مِنْ الْأَحْكَامِ اللَّهُمَّ إلَّا مَا يَنْدُرُ وُقُوعُهُ مِمَّا لَمْ يَقَعْ فِي زَمَانِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ لَا بِالْفِعْلِ وَلَا بِالْقَوْلِ، وَلَا بِالْبَيَانِ فَيَجِبُ إذْ ذَاكَ أَنْ يُنْظَرَ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مُقْتَضَى قَوَاعِدِهِمْ فِي الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ عَنْهُمْ الْمُبَيَّنَةِ الصَّرِيحَةِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى مُقْتَضَى أُصُولِهِمْ قَبِلْنَاهُ فَلَمَّا أَنْ مَضَوْا لِسَبِيلِهِمْ طَاهِرِينَ ثُمَّ أَتَى مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ وَلَمْ يَجِدْ فِي هَذَا الدِّينِ وَظِيفَةً يَقُومُ بِهَا وَيَخْتَصُّ بِهَا بَلْ وَجَدَ الْأَمْرَ عَلَى أَكْمَلِ الْحَالَاتِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ إلَّا أَنْ يَحْفَظَ مَا دَوَّنُوهُ وَاسْتَنْبَطُوهُ وَاسْتَخْرَجُوهُ وَأَفَادُوهُ فَاخْتَصَّتْ إقَامَةُ هَذَا الدِّينِ بِالْقُرُونِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ إلَّا فَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَانُوا خَيْرًا مِمَّنْ أَتَى بَعْدَهُمْ وَلَا يَحْصُلُ لِمَنْ أَتَى بَعْدَ هَذِهِ الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْخَيْرِ خَيْرٌ إلَّا بِالِاتِّبَاعِ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ صَاحِبُ الْعِصْمَةِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ - بِالْخَيْرِ فَبَقِيَ كُلُّ مَنْ أَتَى بَعْدَهُمْ فِي مِيزَانِهِمْ وَمِنْ بَعْضِ حَسَنَاتِهِمْ فَبَانَ مَا قَالَ عليه الصلاة والسلام «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ وَعُلِمَ فَكُلُّ مَنْ أَتَى
بَعْدَهُمْ يَقُولُ فِي بِدْعَةٍ إنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ ثُمَّ يَأْتِي بِدَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ خَارِجٍ عَنْ أُصُولِهِمْ فَذَلِكَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ انْتَهَى.
فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذِهِ النُّقُولِ الصَّحِيحَةِ وَالنُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ بُطْلَانُ قَوْلِهِمْ إنَّ كُتُبَ الْفِقْهِ لَا تَخْلُو مِنْ الْخَطَأِ وَفِيهَا أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ كَيْفَ تَتْرُكُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ وَتُقَلِّدُ الْأَئِمَّةَ فِي اجْتِهَادِهِمْ الْمُحْتَمِلِ لِلْخَطَأِ فَجَوَابُهُ أَنَّ تَقْلِيدَ الْأَئِمَّةِ فِي اجْتِهَادِهِمْ لَيْسَ تَرْكًا لِلْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بَلْ هُوَ عَيْنُ التَّمَسُّكِ وَالْأَخْذِ بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ مَا وَصَلَ إلَيْنَا إلَّا بِوَاسِطَتِهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ أَعْلَمَ مِنَّا بِنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ وَمُطْلَقِهِ وَمُقَيَّدِهِ وَمُجْمَلِهِ وَمُبَيَّنِهِ وَمُتَشَابِهِهِ وَمُحْكَمِهِ وَأَسْبَابِ نُزُولِهِ وَمَعَانِيهِ وَتَأْوِيلَاتِهِ وَلُغَاتِهِ وَسَائِرِ عُلُومِهِ وَتَلَقِّيهِمْ ذَلِكَ عَنْ التَّابِعِينَ الْمُتَلَقِّينَ ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ الْمُتَلَقِّينَ عَنْ الشَّارِعِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ - الْمَعْصُومِ مِنْ الْخَطَأِ الشَّاهِدِ لِلْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ بِالْخَيْرِيَّةِ.
وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ مَا وَصَلَتْ إلَيْنَا إلَّا بِوَاسِطَتِهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ أَعْلَمَ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ بِصَحِيحِهَا وَحَسَنِهَا وَضَعِيفِهَا وَمَرْفُوعِهَا وَمُرْسَلِهَا وَمُتَوَاتِرِهَا وَآحَادِهَا وَمُعْضِلِهَا وَغَرِيبِهَا وَتَأْوِيلِهَا وَتَارِيخِ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَأَسْبَابِهَا وَلُغَاتِهَا وَسَائِرِ عُلُومِهَا مَعَ تَمَامِ ضَبْطِهِمْ وَتَحْرِيرِهِمْ لَهَا وَكَمَالِ إدْرَاكِهِمْ وَقُوَّةِ دِيَانَتِهِمْ وَاعْتِنَائِهِمْ وَتَفَرُّغِهِمْ، وَنُورِ بَصَائِرِهِمْ فَلَا يَخْلُو أَمْرُ هَذِهِ الشِّرْذِمَةِ مِنْ أَحَدِ شَيْئَيْنِ إمَّا نِسْبَةُ الْجَهْلِ لِلْأَئِمَّةِ الْمُجْمَعِ عَلَى كَمَالِ عِلْمِهِمْ الْمُشَارِ لَهُ فِي أَحَادِيثِ الشَّارِعِ الصَّادِقِ عليه الصلاة والسلام وَإِمَّا نِسْبَةُ الضَّلَالِ وَقِلَّةُ الدِّينِ لِلْأَئِمَّةِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَيْرِ الْقُرُونِ بِشَهَادَةِ الرَّسُولِ الْمُعَظَّمِ صلى الله عليه وسلم إنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ، وَقَوْلُهُمْ لِمَنْ قَلَّدَ مَالِكًا مَثَلًا نَقُولُ لَك قَالَ اللَّهُ أَوْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنْتَ تَقُولُ قَالَ مَالِكٌ أَوْ ابْنُ الْقَاسِمِ أَوْ خَلِيلٌ. . . إلَخْ
جَوَابُهُ أَنَّ قَوْلَ الْمُقَلِّدِ قَالَ مَالِكٌ إلَخْ مَعْنَاهُ قَالَ مَالِكٌ فَاهِمًا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ كَلَامِ رَسُولِهِ أَوْ مُتَمَسِّكًا بِعَمَلِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الْفَاهِمِينَ كَلَامَ اللَّهِ أَوْ كَلَامَ رَسُولِهِ أَوْ الْمُتَأَسِّينَ بِفِعْلِ رَسُولِهِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إنَّهُ نَقَلَ عَنْ مَالِكٍ مَا فَهِمَهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ إلَخْ أَوْ أَنَّهُ فَهِمَهُ نَفْسُ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ إلَخْ وَمَعْنَى قَوْلِهِ قَالَ خَلِيلٌ مَثَلًا أَنَّهُ نَاقِلٌ عَمَّنْ ذَكَرَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ مُجْمَعٌ عَلَى إمَامَتِهِمَا وَمِنْ خَيْرِ الْقُرُونِ وَالتَّارِكُ لِلتَّقْلِيدِ يَقُولُ قَالَ اللَّهُ أَوْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ مُسْتَقِلًّا بِفَهْمِهِ مَعَ عَجْزِهِ عَنْ ضَبْطِ الْآيَةِ، وَالْحَدِيثِ وَوَصْلِ السَّنَدِ فَضْلًا عَنْ عَجْزِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ وَمُطْلَقِهِ وَمُقَيَّدِهِ وَمُجْمَلِهِ وَمُبَيَّنِهِ وَظَاهِرِهِ، وَنَصِّهِ وَعَامِّهِ وَخَاصِّهِ وَتَأْوِيلِهِ وَسَبَبِ نُزُولِهِ وَلُغَاتِهِ وَسَائِرِ عُلُومِهِ فَانْظُرْ أَيَّهُمَا يُقَدِّمُ قَوْلَ الْمُقَلِّدِ.
قَالَ مَالِكٌ: الْإِمَامُ بِالْإِجْمَاعِ أَوْ قَوْلُ الْجَهُولِ قَالَ اللَّهُ أَوْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ إنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ هَذَا
الزَّيْغِ لِلظَّاهِرِيَّةِ الَّذِينَ كَانُوا ظَهَرُوا فِي الْأَنْدَلُسِ وَتَقَوَّتْ شَوْكَتُهُمْ مُدَّةً ثُمَّ مَحَا اللَّهُ آثَارَهُمْ فَشَرَعَتْ هَذِهِ الشِّرْذِمَةُ فِي إحْيَائِهَا قَالَ الْبُرْزُلِيُّ وَأَوَّلُ مَنْ طَعَنَ فِي الْمُدَوَّنَةِ سَعِيدُ بْنُ الْحَدَّادِ، فَفِي الْمَدَارِكِ أَنَّ ابْنَ الْحَدَّادِ صَحِبَ سَحْنُونَ أَوَّلًا وَسَمِعَ مِنْهُ وَنَزَعَ آخِرًا إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بَلْ كَثِيرًا مَا يُخَالِفُهُ وَيَعْتَمِدُ عَلَى النَّظَرِ وَالْحُجَّةِ وَكَانَ يُسَمِّي الْمُدَوَّنَةَ الْمُرُونَةَ وَيَنْقُضُ بَعْضَهَا.
وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُ قَالَ تَرَكَ النَّاسُ السُّنَنَ وَانْتَقَلُوا إلَى قَوْلِهِ قُلْت رَأَيْت فَرَفَضَهُ أَصْحَابُ سَحْنُونَ وَهَجَرُوهُ وَأَغْرَوْا بِهِ ابْنَ طَالِبٍ الْقَاضِيَ فَهَمَّ بِهِ ثُمَّ نَشَأَتْ بَيْنَهُمَا صُحْبَةٌ فَتَرَكَهُ وَبَقِيَ مَهْجُورَ الْبَابِ قَلِيلَ الْأَصْحَابِ إلَى أَنْ نَاظَرَ آخِرًا عَبْدَ اللَّهِ الشِّيعِيَّ وَأَخَاهُ الْعَبَّاسَ عِنْدَ دُخُولِهِمَا بِدَعْوَةِ بَنِي عُبَيْدٍ الْقَيْرَوَانِ فَمَالَتْ إلَيْهِ قُلُوبُ الْعَامَّةِ وَأَجْمَعُوا عَلَى فَضْلِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَامَ مَعَهُمْ مَقَامَ ابْنِ حَنْبَلٍ فِي الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَبَاعَ نَفْسَهُ فِي مُنَاظَرَتِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى وَكَانَ نَافَ عَلَى سَبْعِينَ سَنَةً وَقَالَ قَتِيلُ الْخَوَارِجِ خَيْرُ قَتِيلٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَتَلُوا اثْنَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ سَحْنُونَ وَأَرَادُوا حَمْلَ النَّاسِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ فَدَخَلَ مِنْهُمْ عَلَى أَهْلِ الْقَيْرَوَانِ رَوْعٌ كَبِيرٌ فَنَاظَرَهُمْ حَتَّى أَوْقَفَهُمْ وَسَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ بِحُسْنِ نِيَّتِهِ.
ثُمَّ قَالَ الْبُرْزُلِيُّ وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ تَوَارِيخِ الْأَنْدَلُسِ أَنَّ ابْنَ حَزْمٍ رَأْسَ الظَّاهِرِيَّةِ بِالْأَنْدَلُسِ قَالَ إنَّمَا أُشْهِرُ مَذْهَبَ مَالِكٍ وَالْمَدَنِيِّينَ وَهَذِهِ الْفُرُوعُ بِإِفْرِيقِيَّةَ دُخُولُ سَحْنُونَ بْنِ سَعِيدٍ بِمَسَائِلِهِ فَوُلِّيَ الْقَضَاءَ بِهَا فَأَخَذَتْ عَنْهُ مَسَائِلَهُ لِأَجْلِ قَضَائِهِ وَرِيَاسَتِهِ وَاشْتُهِرَ أَمْرُهُ وَاشْتُهِرَتْ مَسَائِلُ مَالِكٍ بِالْأَنْدَلُسِ لِدُخُولِ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ وَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى وَغَيْرِهِمْ مِنْ رُؤَسَاءِ الْأَنْدَلُسِ وَقُضَاتِهَا فَاشْتُهِرَ عَنْهُمْ أَخْذُهَا وَالتَّمَذْهُبُ بِهَا، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِرِيَاسَتِهِمْ فَتَرَكَ النَّاسُ السُّنَنَ وَاتَّبَعُوهُ.
وَذَكَرَ الْبَاجِيُّ أَنَّهُ اجْتَمَعَ مَعَ ابْنِ حَزْمٍ بِمَيْرُوقَهَ وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا مُطَالَبَاتٌ وَاحْتِجَاجَاتٌ آلَ أَمْرُهَا عَلَى مَا قَالَ إلَى إبْطَالِ مَذْهَبِهِ وَذَكَرَ أَنَّ أَخَاهُ إبْرَاهِيمَ بْنَ خَلَفٍ الْبَاجِيَّ لَقِيَ ابْنَ حَزْمٍ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ مَا قَرَأْت عَلَى أَخِيك فَقَالَ لِي كَثِيرًا أَقْرَأُ عَلَيْهِ فَقَالَ أَلَا اخْتَصَرَ لَك الْعِلْمَ فَيُقْرِئَك مَا تَنْتَفِعُ بِهِ فِي الزَّمَنِ الْقَرِيبِ فِي سَنَةٍ أَوْ أَقَلَّ فَقَالَ لَهُ لَوْ صَحَّ هَذَا الْفِعْلُ فَقَالَ غَيْرُهُ يَنْفَعُك بِذَلِكَ فِي سَنَةٍ فَقَالَ أَنَا أُحِبُّ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ أَوْ فِي شَهْرٍ فَقَالَ ذَلِكَ أَشْهَى إلَيَّ فَقَالَ أَوْ فِي جُمُعَةٍ أَوْ دَفْعَةٍ فَقَالَ هَذَا أَشْهَى إلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَقَالَ لَهُ إذَا وَرَدَتْ عَلَيْك مَسْأَلَةٌ فَاعْرِضْهَا عَلَى الْكِتَابِ فَإِنْ وَجَدْتهَا فِيهِ وَإِلَّا فَاعْرِضْهَا عَلَى السُّنَّةِ فَإِنْ وَجَدْت ذَلِكَ فِيهَا وَإِلَّا فَاعْرِضْهَا عَلَى مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ فَإِنْ وَجَدْتهَا وَإِلَّا فَالْأَصْلُ الْإِبَاحَةُ فَافْعَلْهَا فَقُلْتُ لَهُ مَا أَرْشَدْتَنِي إلَيْهِ يَفْتَقِرُ إلَى عُمُرٍ طَوِيلٍ وَعِلْمٍ جَلِيلٍ، لِأَنَّهُ يَفْتَقِرُ لِمَعْرِفَةِ الْكِتَابِ وَمَعْرِفَةِ نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ وَمُؤَوَّلِهِ وَظَاهِرِهِ وَمَنْصُوصِهِ وَمُطْلَقِهِ وَعُمُومِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهِ وَيَفْتَقِرُ أَيْضًا إلَى حِفْظِ الْأَحَادِيثِ وَمَعْرِفَةِ صَحِيحِهَا مِنْ سَقِيمِهَا وَمُسْنَدِهَا وَمُرْسَلِهَا وَمُعْضِلِهَا وَتَأْوِيلِهِ وَتَارِيخِ
الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ مِنْهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَيَفْتَقِرُ إلَى مَعْرِفَةِ مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ وَتَتَبُّعِهَا فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الْإِسْلَامِ وَقَلَّ مَنْ يُحِيطُ بِهَذَا.
قَالَ الْبَاجِيُّ وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ مَعَهُ قُوَّةُ عِلْمٍ وَلَا تَضَلُّعٌ فِي الِاحْتِجَاجِ وَلَكِنْ إلْمَامُهُ بِالْأُمُورِ الْفَارِغَةِ وَمُبْتَدِئِ الطَّلَبَةِ فَإِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ يَقُولُ لِمَنْ حَضَرَهُ أَوْ السَّائِلِ مَا قُلْتَ أَنْتَ فِيهَا وَمَا ظَهَرَ لَك وَلَا يَزَالُ يَسْتَمِيلُ حَتَّى يَنْطِقَ فِيهَا بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِهِ فَيُجَوِّدُ فِعْلَهُ وَيَسْتَحْسِنُ رَأْيَهُ وَيَقُولُ لَهُ قَوْلُك فِيهَا خَيْرٌ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَيُزَيِّنُ لَهُ ذَلِكَ وَيُشَكِّكُهُ فِي نَفْسِهِ حَتَّى يَصِيرَ يَرَى رَأْيَ نَفْسِهِ وَيَتَعَاظَمَ وَيَقَعَ فِي مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ سُلِّطَتْ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ كَثِيرٍ فَحَمَلَ أَمْرَهُ وَاسْتَجْهَلَهُ أَهْلُ الْفُرُوعِ بِالْأَنْدَلُسِ وَلَمْ يَزَلْ فِي خُمُولٍ وَعَدَمِ اعْتِنَاءٍ فِي مَذْهَبِهِ وَكَثُرَ أَهْلُ الشُّورَى وَالْفِقْهِ وَالْوَثَائِقِ بِالْأَنْدَلُسِ حَتَّى خَرَجَ الْمُوَحِّدُونَ وَأَخَذُوا مُرَاكِشَ مِنْ لَمْتُونَةَ حَضْرَةَ مَلِكِهِمْ فَوَجَدُوا فِيهَا كُتُبَ فِقْهٍ كَثِيرَةً فَاسْتَصْعَبُوهَا وَبَاعُوهَا مِنْ الشَّوَّاشِينَ وَغَيْرِهِمْ وَتَقَدَّمُوا إلَى الْفُقَهَاءِ الْفَرْعِيَّيْنِ وَلَمَّا أَنْ اطْمَأَنَّتْ بِالْأَمِيرِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ الدَّارُ جَمَعَ الْفُقَهَاءَ إمَّا لِاخْتِبَارِ مَذْهَبِهِمْ أَوْ حَمْلِهِمْ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ حَزْمٍ فَحَكَى عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَرْقُونٍ جَامِعَ الِاسْتِذْكَارِ وَالْمُنْتَقَى قَالَ كُنْت فِيمَنْ جَمَعَهُمْ فَقَامَ عَلَى رَأْسِهِ كَاتِبُهُ وَوَزِيرُهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنِ عَطِيَّةَ فَخَطَبَ خُطْبَةً مُخْتَصَرَةً ثُمَّ رَدَّ رَأْسَهُ إلَى الْفُقَهَاءِ وَقَالَ لَهُمْ بَلَغَ سَيِّدُنَا أَنَّ قَوْمًا مِنْ أُولِي الْعِلْمِ تَرَكُوا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ عليه الصلاة والسلام وَصَارُوا يَحْكُمُونَ بَيْنَ النَّاسِ وَيُفْتُونَ بِهَذِهِ الْفُرُوعِ وَالْمَسَائِلِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا فِي الشَّرْعِ أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ وَقَدْ أَمَرَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ وَنَظَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْفُرُوعِ وَالْمَسَائِلِ عُوقِبَ الْعِقَابَ الشَّدِيدَ وَفُعِلَ بِهِ كَذَا وَكَذَا وَسَكَتَ وَرَفَعَ الْأَمِيرُ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ رَأْسَهُ إلَيْهِ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْجُلُوسِ فَجَلَسَ، وَقَالَ سَمِعْتُمْ مَا قَالَ فَقَالَ لَهُ الطَّلَبَةُ نَعَمْ قَالَ وَسَمِعْنَا أَنَّ عِنْدَ الْقَوْمِ تَأْلِيفًا مِنْ هَذِهِ الْفُرُوعِ يُسَمُّونَهُ الْكِتَابَ يَعْنِي الْمُدَوَّنَةَ وَأَنَّهُمْ إذَا قَالَ لَهُمْ قَائِلٌ مَسْأَلَةً مِنْ السُّنَّةِ وَلَمْ تَكُنْ فِيهِ أَوْ مُخَالِفَةً لَهُ قَالُوا مَا هِيَ فِي الْكِتَابِ أَوْ مَا هُوَ مَذْهَبُ الْكِتَابِ وَلَيْسَ ثَمَّ كِتَابٌ يُرْجَعُ إلَيْهِ إلَّا كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَأَرْعَدَ وَأَبْرَقَ فِي التَّخْوِيفِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ وَالْفُقَهَاءُ سُكُوتٌ ثُمَّ قَالَ، وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ أَقْوَالًا بِرَأْيِهِمْ وَلَيْسَتْ مِنْ الشَّرْعِ أَوْ قَالَ مِنْ الدِّينِ فَيَقُولُونَ مَنْ طَرَأَ عَلَيْهِ خَلَلٌ فِي صَلَاتِهِ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ فَيَتَحَكَّمُونَ فِي دِينِ اللَّهِ - تَعَالَى - لِأَنَّهَا إمَّا صَحِيحَةٌ فَلَا إعَادَةَ أَوْ بَاطِلَةٌ فَيُعِيدُ أَبَدًا فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مِنْ أَيْنَ أَخَذُوهُ فَصَمَتَ الْقَوْمُ وَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ لِحِدَّةِ الْأَمْرِ وَالْإِنْكَارِ.
قَالَ ابْنُ زَرْقُونٍ فَحَمَلَتْنِي الْغَيْرَةُ عَلَى أَنْ تَكَلَّمْت وَتَلَطَّفْت فِي الْكَلَامِ لَهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْيَا بِهِمْ الْحَقَّ وَأَهْلَهُ وَأَمَاتَ الْبَاطِلَ وَأَهْلَهُ وَذَكَرَ نَحْوَ هَذَا الْمَنْحَى، وَقُلْت إنْ أُذِنَ لِي فِي الْجَوَابِ تَكَلَّمْتُ وَأَدَّيْتُ نَصِيحَتِي وَهِيَ
السُّنَّةُ فَقَالَ كَالْمُنْكِرِ عَلَيَّ وَهِيَ السُّنَّةُ أَيْضًا وَكَرَّرَهَا فَقُلْتُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ وَقَالَ: ارْجِعْ وَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا فَعَلِّمْنِي، فَقَالَ لَهُ: إذَا افْتَتَحْتَ الصَّلَاةَ» إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ فَأَمَرَهُ بِإِعَادَةِ الْوَقْتِيَّةِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ مَا خَرَجَ وَقْتُهُ مِنْ الصَّلَوَاتِ.
فَعَلَى هَذَا بَنَى الْفُقَهَاءُ أَمْرَهُمْ فِيمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ خَلَلٌ فِي الصَّلَاةِ فَلَمَّا أَصْغَى إلَيَّ اتَّسَعَ لِي الْقَوْلُ فَقُلْت لَهُ يَا سَيِّدِي جَمِيعُ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ السَّلَفِ وَالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا اخْتَصَرَهُ الْفُقَهَاءُ تَقْرِيبًا لِمَنْ يَنْظُرُ فِيهِ مِنْ الْمُتَعَلِّمِينَ وَالطَّالِبِينَ فَانْطَلَقَتْ أَلْسِنَةُ الْفُقَهَاءِ الْحَاضِرِينَ حِينَئِذٍ وَوَافَقُونِي عَلَى مَا قُلْتُ ثُمَّ دَعَا فَقَالَ اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَقَامَ إلَى مَنْزِلِهِ فَقَالَ الْوَزِيرُ أَقَدِمْت عَلَى سَيِّدِنَا الْيَوْمَ يَا فَقِيهُ فَقُلْتُ لَوْ سَكَتُّ لَلَحِقَتْنِي عُقُوبَةُ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ فَكُنْت أَدْخُلُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى عَبْدِ الْمُؤْمِنِ فَأَرَى مِنْهُ الْبِرَّ التَّامَّ وَالتَّكْرِمَةَ
ثُمَّ سَكَتَ الْحَالُ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى جَاءَ أَيَّامُ حَفِيدِهِ الْأَمِيرِ يَعْقُوبَ فَأَرَادَ حَمْلَ النَّاسِ عَلَى كُتُبِ ابْنِ حَزْمٍ فَعَارَضَهُ فُقَهَاءُ وَقْتِهِ وَفِيهِمْ أَبُو يَحْيَى بْنُ الْمَوَّاقِ وَكَانَ أَعْلَمَهُمْ بِالْحَدِيثِ وَالْمَسَائِلِ فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ لَزِمَ دَارِهِ وَعَارَضَ وَأَكَبَّ عَلَى جَمْعِ الْمَسَائِلِ الْمُنْتَقَدَةِ عَلَى ابْنِ حَزْمٍ حَتَّى أَتَمَّهَا وَكَانَ لَا يَغِيبُ عَنْهُ فَلَمَّا أَتَمَّهَا جَاءَ إلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ وَغَيْبَتِهِ وَكَانَ ذَا جَلَالَةٍ عِنْدَهُ وَمُبِرًّا لَهُ فَقَالَ لَهُ: يَا سَيِّدُنَا قَدْ كُنْتُ فِي خِدْمَتِكُمْ لَمَّا سَمِعْتُكُمْ تَذْكُرُونَ حَمْلَ النَّاسِ عَلَى كُتُبِ ابْنِ حَزْمٍ وَفِيهَا أَشْيَاءُ أُعِيذُكُمْ بِاَللَّهِ مِنْ حَمْلِ النَّاسِ عَلَيْهَا وَأَخْرَجْتُ لَهُ دَفْتَرًا فَلَمَّا أَخَذَهُ الْأَمِيرُ جَعَلَ يَقْرَؤُهُ، وَيَقُولُ أَعُوذُ بِاَللَّهِ أَنْ أَحْمِلَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى هَذَا وَأَثْنَى عَلَى ابْنِ الْمَوَّاقِ وَدَخَلَ مَنْزِلَهُ ثُمَّ سَكَتَ الْحَالُ بَعْدُ فِي الْفُرُوعِ وَظَهَرَتْ وَقَوِيَتْ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَهِيَ إذَا أَخَذْت مَسْأَلَةً مَسْأَلَةً وَجَدْت كُلَّهَا رَاجِعَةً إلَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ مِنْهَا خَارِجًا عَنْهَا؛ لِأَنَّ وَاضِعَهَا وَمُسْتَنْبِطَهَا مِنْ خِيَارِ سَلَفِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ وَعُدُولِهِمْ وَأَهْلِ التَّفَقُّهِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالشَّرْعِ فَهُمْ قَوْمٌ غُذُّوا بِالتَّقْوَى وَرُبُّوا بِالْهُدَى فَهُمْ أَنْوَارُ الدُّنْيَا وَرَيَاحِينُهَا وَبَرَكَاتُ الْأُمَّةِ وَمَيَامِينُهَا عُدُولُ كُلِّ خَلَفٍ وَأَئِمَّةُ كُلِّ سَلَفٍ سَادَةٌ أَفْنَوْا أَعْمَارَهُمْ فِي اسْتِنْبَاطِهَا وَتَحْقِيقِهَا بَعْدَ تَمْيِيزِ الصَّحِيحِ مِنْ السُّنَنِ مِنْ السَّقِيمِ وَالنَّاسِخِ مِنْ الْمَنْسُوخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عُلُومِهَا وَدَوَّنُوهَا كُتُبًا وَجَعَلُوهَا أَبْوَابًا مُهَذَّبَةً مُقَرَّبَةً وَكَفَوْا مَنْ أَتَى بَعْدَهُمْ الْمُؤْنَةَ بِأَنْ تَرَكُوا الْأُصُولَ عَلَى أَصْلِهَا وَفَرَّعُوا عَلَيْهَا فُرُوعَهَا مِنْ الْفِقْهِ تَقْتَضِيهَا وَمَسَائِلَ طَلَبًا لِلِاخْتِصَارِ وَتَقْرِيبًا عَلَى النَّاظِرِ فَجَزَاهُمْ اللَّهُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ أَحْسَنَ جَزَائِهِ كَمَا جَعَلَهُمْ وَرَثَةَ أَنْبِيَائِهِ وَحَفَظَةَ شَرْعِهِ وَجَعَلَنَا مِنْ الْمُتَّبِعِينَ لَهُمْ.
وَذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ فِي أَوَّلِ الْمُقَدِّمَاتِ أَنَّ الْمُدَوَّنَةَ تَدُورُ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ إمَامِ دَارِ الْهِجْرَةِ وَابْنُ الْقَاسِمِ الْمِصْرِيِّ الْوَلِيِّ الصَّالِحِ وَسَحْنُونٌ وَكُلُّهُمْ
مَشْهُورُونَ بِالْإِمَامَةِ وَالْعِلْمِ وَالْفَضْلِ وَنَحْوِهِ لِابْنِ الرَّقِيقِ وَالْمَدَارِكِ اهـ كَلَامُ الْبُرْزُلِيِّ بِتَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ وَأَمَّا قَصْرُ الرُّبَاعِيَّةِ فِي نِصْفِ يَوْمٍ فَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الظَّاهِرِيَّةِ مَرْدُودٌ عَلَيْهِمْ وَفِطْرُ رَمَضَانَ فِيهِ لَمْ أَرَ مَنْ قَالَ بِهِ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ بِلَا طَهَارَةٍ مَذْهَبٌ شَاذٌّ مَرْدُودٌ وَسُجُودُ التِّلَاوَةِ وَإِنْ كَانَ فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ وَعَارَضَهُ الْحُفَّاظُ بِمَا خَرَّجَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ لَا يَسْجُدُ الرَّجُلُ إلَّا وَهُوَ طَاهِرٌ وَالْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ وَالْقَبْضُ وَالْقُنُوتُ جَهْرًا بَعْدَ الرُّكُوعِ مَذْهَبُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَتَأْخِيرُ الصُّبْحِ لِلْإِسْفَارِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهَؤُلَاءِ تَرَكُوا تَقْلِيدَ إمَامٍ مُعَيَّنٍ وَاتَّبَعُوا الْأَحَادِيثَ بِزَعْمِهِمْ فَتَارَةً وَافَقُوا بَعْضَ الْمَذَاهِبِ الصَّحِيحَةِ وَتَارَةً بَعْضَ الْمَذَاهِبِ الشَّاذَّةِ وَتَارَةً خَرَقُوا الْإِجْمَاعَ وَهَذَا شُؤْمُ الْخُرُوجِ عَنْ الْمَذَاهِبِ وَالِابْتِدَاعِ قَالَ الْعَارِفُ الشَّعْرَانِيُّ.
فَإِنْ قُلْت فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمَحْجُوبِ عَنْ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْعَيْنِ الْأُولَى التَّقَيُّدُ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ. فَالْجَوَابُ نَعَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِئَلَّا يَضِلَّ فِي نَفْسِهِ وَيُضِلَّ غَيْرَهُ انْتَهَى.
وَتَقَدَّمَ عَنْ الْخَوَّاصِ أَيْضًا مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ. وَالْحِمَى عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ سُنَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ مَنَعَتْهُ الشَّرِيعَةُ الْحَنِيفِيَّةُ وَأَكْلُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ حُرْمَتُهُ مِنْ الدِّينِ ضَرُورِيَّةٌ فَإِنْ اسْتَحَلُّوهُ فَقَدْ خَرَجُوا عَنْ دَائِرَةِ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ سَقْيُ السُّمِّ اسْتَوْجَبَ الْقِصَاصَ وَوَعِيدُهُ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْآيَةِ الْقُرْآنِيَّةِ وَنَفْيُ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ شَقَاءٌ مُؤَبَّدٌ مُوجِبٌ لِلْقَتْلِ مُطْلَقًا أَوْ مَعَ الْإِصْرَارِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ.
وَالْإِخْبَارُ بِنَحْوِ خُسُوفِ الْقَمَرِ كِهَانَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا خُصُوصًا مَعَ الْكَذِبِ فِي دَعْوَى الْكَشْفِ وَلَا شَيْءَ فِيهِ مِنْهُ لِأَنَّهُ يَقَعُ مِنْ كُلِّ مَنْ يَتَعَاطَى حِسَابَ سَيْرِ الْقَمَرِ وَلَوْ كَافِرًا كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ وَدَعْوَاهُمْ أَنَّ شَيْخَهُمْ الْمَهْدِيَّ مُشَاهَدَةُ الْبُطْلَانِ كَمَا شُوهِدَ بُطْلَانُهَا مِنْ شَيْخِ شَيْخِهِمْ مَعَ طُولِ الزَّمَانِ وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ بِأَنَّ شَيْخَهُمْ نَبِيٌّ فَقَدْ ارْتَدَّ عَنْ الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاَللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ وَرَدَ عَلَيَّ سُؤَالٌ مِنْ هَذِهِ الشِّرْذِمَةِ نَصُّهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٍ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ طَرِيقَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَجَعَلَ الْعُلَمَاءَ الرَّاسِخِينَ هُدَاةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَفْتُونَا سَيِّدِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْكُمْ - فِي سَدْلِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ هَلْ هُوَ مِنْ السُّنَّةِ وَوَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِعْلُهُ أَوْ أَمَرَ بِهِ أَوْ هَذَا اجْتِهَادٌ مِنْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَتْبَاعِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مِنْ السُّنَّةِ فَاتَّبَعَهُ الْفُقَهَاءُ وَذَكَرُوا كَرَاهَةَ الْقَبْضِ فِي الْفَرْضِ أَمْ لَهُمْ دَلِيلٌ وَهَلْ فِعْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ عُمُرِهِ وَفِي حَالَةِ مَرَضِهِ يَكُونُ حِينَئِذٍ حُجَّةً وَيُعْمَلُ بِهِ وَيَكُونُ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ أَفِيدُونَا بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ قَاطِعٍ وَحُجَّةٍ شَافِيَةٍ وَلَكُمْ النِّعْمَةُ الضَّافِيَةُ فِي الْجِنَانِ مَعَ سَيِّدِ وَلَدِ عَدْنَانَ صلى الله عليه وسلم.
فَأَجَبْتُ بِمَا نَصُّهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي حَصَرَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالطَّرِيقَةَ الْمُنْجِيَةَ الْمُرْضِيَةَ فِي مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ذَوِي الرُّتَبِ الْعَلِيَّةِ وَأَبْقَاهَا بِفَضْلِهِ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ وَجَعَلَ مُقَلِّدِيهِمْ ظَاهِرِينَ مَعْزُوزِينَ أَهْلَ سُنَّةٍ وَجَمَاعَةٍ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الْقَائِلِ «إذَا ظَهَرَتْ الْفِتَنُ أَوْ الْبِدَعُ وَسُبَّتْ أَصْحَابِي فَلْيُظْهِرْ الْعَالِمُ عِلْمَهُ وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا» .
وَالْقَائِلُ «إذَا لَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلَهَا فَمَنْ كَتَمَ حَدِيثًا فَقَدْ كَتَمَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل عَلَيَّ» .
وَالْقَائِلُ أَيْضًا «مَا ظَهَرَ أَهْلُ بِدْعَةٍ إلَّا أَظْهَرَ اللَّهُ فِيهِمْ حُجَّةً عَلَى لِسَانِ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ» وَالْقَائِلُ أَيْضًا «أَهْلُ الْبِدَعِ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ» وَالْقَائِلُ أَيْضًا «أَصْحَابُ الْبِدَعِ كِلَابُ النَّارِ» وَالْقَائِلُ أَيْضًا «مَنْ وَقَّرَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ» وَالْقَائِلِ «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ صَلَاةً وَلَا صَوْمًا وَلَا صَدَقَةً وَلَا حَجًّا وَلَا عُمْرَةً وَلَا جِهَادًا وَلَا صَرْفًا وَلَا عَدْلًا يَخْرُجُ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا تَخْرُجُ الشَّعْرَةُ مِنْ الْعَجِينِ» وَالْقَائِلُ «إذَا مَاتَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ فَقَدْ فُتِحَ فِي الْإِسْلَامِ فَتْحٌ» .
وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِي التَّابِعِينَ وَأَهْلِ السُّنَّةِ الْمُنْحَصِرِينَ فِي مُقَلِّدِي الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَرْكَانِ الدِّينِ. أَمَّا بَعْدُ فَاعْلَمْ أَنَّ سَدْلَ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ ثَابِتٌ فِي السُّنَّةِ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَ بِهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَأَجْمَعَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى جَوَازِهِ فِيهَا وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ عِنْدَ مُقَلِّدِيهِمْ حَتَّى صَارَ كَالْمَعْلُومِ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ وَآخِرُ فِعْلَيْهِ وَأَمَرَ بِهِ صلى الله عليه وسلم.
أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أَوَّلُ فِعْلَيْهِ وَأَمَرَ بِهِ فَالْحَدِيثُ الَّذِي خَرَّجَهُ مَالِكٌ رضي الله عنه فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ قَوْلِهِ «كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ» وَوَجْهُ دَلَالَتِهِ أَنَّ أَمْرَهُمْ بِالْوَضْعِ الْمَذْكُورِ دَلِيلٌ نَصَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْدُلُونَ وَإِلَّا كَانَ أَمْرًا بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَهُوَ عَبَثٌ مُحَالٌ عَلَى الشَّارِعِ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَادُوا السَّدْلَ، وَلَمْ يَفْعَلُوهُ إلَّا لِرُؤْيَتِهِمْ فِعْلَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إيَّاهُ وَأَمَرَهُمْ بِهِ بِقَوْلِهِ «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» .
وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِ آخِرَ فِعْلَيْهِ وَأَمَرَ بِهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ اسْتِمْرَارُ عَمَلِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ لَا أَعْرِفُهُ يَعْنِي الْوَضْعَ فِي الْفَرِيضَةِ إذْ لَا يَجُوزُ جَهْلُهُمْ بِآخِرِ حَالَيْ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَلَا مُخَالَفَتِهِ لِمُلَازَمَتِهِمْ لَهُ وَلِضَبْطِ أَحْوَالِهِ وَاتِّبَاعِهِ فِيهَا فَلِذَا ضَمَّ مَالِكٌ عَمَلَهُمْ لِلْآيَةِ الْمُحْكَمَةِ، وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ السَّالِمِ مِنْ مُعَارَضَةِ الْعَمَلِ لَهُ وَالْإِجْمَاعِ، وَجَعَلَ الْأَرْبَعَةَ أُصُولَ مَذْهَبِهِ، وَأَمَّا الْقَبْضُ فِي الْفَرِيضَةِ فَاخْتَلَفُوا فِي كَرَاهَتِهِ وَنَدْبِهِ وَإِبَاحَتِهِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى ثُبُوتِ فِعْلِهِ وَالْأَمْرِ بِهِ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْقَائِلُونَ بِنَدْبِهِ أَوْ إبَاحَتِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّتِهِ
وَتَحْصُلُ فِيهِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ بَيَّنَهَا الْإِمَامُ ابْنُ عَرَفَةَ وَغَيْرُهُ وَالْمَشْهُورُ مِنْهَا الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ الْكَرَاهَةُ وَحُجَّتُهُ فِيهَا تَرْكُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُ وَاسْتِمْرَارُهُمْ عَلَى السَّدْلِ كَمَا تَقَدَّمَ فَدَلَّ عَلَى نَسْخِ حُكْمِ الْقَبْضِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ فَهُوَ مِنْ خَيْرِ الْقُرُونِ الَّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ الرَّسُولُ الْأَعْظَمُ صلى الله عليه وسلم بِالْخَيْرِيَّةِ وَأَنَّهُ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى إمَامَتِهِ وَأَمَانَتِهِ وَضَبْطِهِ وَدِيَانَتِهِ وَوَرَعِهِ وَصَلَاحِهِ وَاتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ رِوَايَتَهُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ تُقَدَّمُ عَلَى كُلِّ مَا يُخَالِفُهَا وَقَدْ تَلَقَّى الْأَئِمَّةُ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْهُ بِالْقَبُولِ قَائِلِينَ وَعَلَيْهَا أَكْثَرُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَهِيَ الْأَشْهَرُ عِنْدَهُمْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَهِيَ مَذْهَبُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا يُعَضِّدُهَا أَنَّ الْقَبْضَ مِنْ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْيَدِ فِي الصَّلَاةِ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي كِتَابِ أَبِي دَاوُد وَقَالَ الشَّعْرَانِيُّ فِي الْمِيزَانِ وَوَجْهُهَا مَعَ وُرُودِ ذَلِكَ فِي فِعْلِ الشَّارِعِ صلى الله عليه وسلم كَوْنُ مُرَاعَاةِ الْمُصَلِّي دَوَامَهُمَا تَحْتَ الصَّدْرِ يُشْغِلُهُ غَالِبًا عَنْ مُرَاعَاةِ كَمَالِ الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ عز وجل فَكَانَ إرْسَالُهُمَا مَعَ كَمَالِ الْإِقْبَالِ وَالْحُضُورِ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى - أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ هَيْئَةٍ مِنْ الْعِيَانِ فَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالْعَجْزِ عَنْ كَمَالِ الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ عز وجل مَعَ الْقَبْضِ فَإِرْسَالُ يَدَيْهِ بِجَنْبَيْهِ أَوْلَى وَبِهِ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ فَقَالَ: وَإِنْ أَرْسَلَهُمَا وَلَمْ يَعْبَثْ بِهِمَا فَلَا بَأْسَ انْتَهَى.
وَمَنْ عَرَفَ مِنْ نَفْسِهِ الْقُدْرَةَ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مَعًا فِي آنٍ وَاحِدٍ كَانَ وَضْعُ يَدَيْهِ تَحْتَ صَدْرِهِ أَوْلَى وَبِذَلِكَ حَصَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ رضي الله عنهم فَقَدْ بَانَ لَكَ أَنَّ السَّائِلَ عَكَسَ الْأَمْرَ بِتَسْلِيمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ وَالتَّوَقُّفِ فِي الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ الضَّرُورِيِّ وَإِنْكَارِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَنَاقَضَ وَأَسَاءَ الْأَدَبَ إسَاءَةً يَسْتَحِقُّ بِهَا تَكْلِيفَهُ بِمَضْغِ لِسَانِهِ، وَرَضِّ بَنَانِهِ.
أَمَّا التَّنَاقُضُ فَقَوْلُهُ ابْتِدَاءً جَعَلَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ طَرِيقَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ يُفِيدَانِ كَلَامَ الْأَئِمَّةِ وَمُقَلِّدِيهِمْ لَيْسَ مِنْ طَرِيقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهَذَا مَذْهَبُ الظَّاهِرِيَّةِ الضَّالِّينَ ثُمَّ نَاقَضَهُ بِقَوْلِهِ وَجَعَلَ الْعُلَمَاءَ الرَّاسِخِينَ هُدَاةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ ثُمَّ نَاقَضَ هَذَا بِقَوْلِهِ أَوْ هَذَا اجْتِهَادٌ مِنْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَتْبَاعِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ إذْ لَمَّا وَجَدَ الْعُلَمَاءَ الرَّاسِخِينَ الْهَادِينَ خَوَّنَهُمْ وَتَرَدَّدَ بَيْنَ تَجْهِيلِهِمْ وَتَفْسِيقِهِمْ ثُمَّ نَاقَضَ هَذَا بِسُؤَالِهِ وَاسْتِفْتَائِهِ مِمَّنْ لَا يُسَاوِي التُّرَابَ الَّذِي وَطِئَهُ نِعَالُ ابْنَ الْقَاسِمِ وَأَتْبَاعِهِ وَأَمَّا إسَاءَتُهُ الْأَدَبَ فَفِي قَوْلِهِ أَوْ هَذَا اجْتِهَادٌ مِنْ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَاتَّبَعَهُ الْفُقَهَاءُ فَإِنَّهَا تُفِيدُ أَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ لَيْسَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ الْهَادِينَ وَأَنَّهُ يَجْتَهِدُ بِرَأْيِهِ وَمُجَرَّدِ هَوَى نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ لِدَلِيلٍ وَأَنَّ الْفُقَهَاءَ الَّذِينَ بَعْدَهُ يَتَّبِعُونَهُ عَلَى ذَلِكَ بِمَحْضِ التَّقْلِيدِ وَمَنْ بَعْدَهُ بِالْأَوْلَى وَأَنَّ أَمْرَهُمْ دَائِرٌ بَيْنَ الْجَهْلِ، وَقِلَّةِ الدِّينِ وَكَيْفَ هَذَا مَعَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «يَحْمِلُ هَذَا الدِّينَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ»
وَقَوْلُهُ «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ» وَقَوْلُهُ «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ بِالْمَغْرِبِ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ» أَوْ كَمَا قَالَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَهَذِهِ الْإِسَاءَةُ سَارِيَةٌ لِجَمِيعِ الْأَئِمَّةِ الْقَابِلِينَ لِرِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ هَذِهِ حَنَفِيَّةٌ وَمَالِكِيَّةٌ وَشَافِعِيَّةٌ وَحَنْبَلِيَّةٌ وَلَا يَخْفَاك أَنَّ الْإِسَاءَةَ فِي حَقِّ ابْنِ الْقَاسِمِ وَحْدَهُ مِنْ أَعْظَمِ الْعَارِ وَالْفَضِيحَةِ فَكَيْفَ بِالْإِسَاءَةِ فِي حَقِّهِ وَفِي حَقِّ مَنْ تَبِعَهُ فَكَيْفَ بِهَا فِي حَقِّهِمْ وَحَقِّ مَنْ أَقَرَّهُمْ مَعَ أَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ لَيْسَ لَهُ هُنَا إلَّا مَحْضُ الرِّوَايَةِ لِقَوْلِ الْمُدَوَّنَةِ وَكَرِهَ مَالِكٌ وَضْعَ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الْفَرِيضَةِ وَقَالَ لَا أَعْرِفُهُ وَلَا بَأْسَ بِهِ فِي النَّافِلَةِ لِطُولِ الْقِيَامِ يُعِينُ بِهِ نَفْسَهُ انْتَهَى.
فَالْإِسَاءَةُ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هِيَ فِي حَقِّ مَالِكٍ كَمَا يُشِيرُ لِذَلِكَ حَدِيثُ «يَسُبُّ ابْنُ آدَمَ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ» وَحَدِيثُ «لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» أَوْ كَمَا قَالَ وَحَدِيثُ الْقَبْضِ إنَّمَا تَلَقَّاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ يَدَيْ مَالِكٍ وَقَدْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي مُوَطَّئِهِ وَمَعَ ذَلِكَ حَكَمَ بِكَرَاهَتِهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ الْمُقَدَّمَةِ عَلَى كُلِّ مَا يُخَالِفُهَا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ مَذْهَبِهِ فَلَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَبْلُغْهُ وَلَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ عَدَلَ عَنْهُ لِمَحْضِ هَوَى نَفْسِهِ لِغَيْرِ دَلِيلٍ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَنَزُّهِهِ عَنْ ذَلِكَ مِنْ التَّابِعِينَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَيْرِ الْقُرُونِ وَحَمْلِهِمْ حَدِيثَ عَالِمِ الْمَدِينَةِ عَلَيْهِ وَمِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ كَذَلِكَ وَمِمَّنْ بَعْدَهُمْ إلَى وَقْتِنَا هَذَا فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَ نَسْخِ الْحَدِيثِ وَرَجَعَ الْأَمْرُ عِنْدَهُ إلَى السَّدْلِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ لَا أَعْرِفُهُ يَعْنِي الْقَبْضَ مِنْ عَمَلِ التَّابِعِينَ فَكَانَ غَرَضُ ذَوِي النُّفُوسِ الْخَبِيثَةِ الْقَدْحَ فِي مَالِكٍ إمَامِ الْأَئِمَّةِ حَدِيثًا وَفِقْهًا وَعَمَلًا، وَوَرَعًا بِإِجْمَاعِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الْقَدْحَ فِيهِ لَا يُسْمَعُ وَيَعُودُ عَلَيْهِمْ بِالْوَبَالِ فَجَعَلُوا ابْنَ الْقَاسِمِ سُلَّمًا لِذَلِكَ ظَنًّا أَنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ لِغَالِبِ النَّاسِ وَأَنَّ الْقَدْحَ فِيهِ يُسْمَعُ كَلًّا وَاَللَّهِ إنَّهُ لَقَرِينُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَدَرَجَتُهُ قَرِيبَةٌ مِنْ دَرَجَةِ مَالِكٍ وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْإِمَامِ النَّخَعِيِّ لَوْ رَأَيْتُ الصَّحَابَةَ يَتَوَضَّئُونَ إلَى الْكُوعِ لِتَوَضَّأْت إلَيْهِ وَأَنَا أَقْرَؤُهَا إلَى الْمَرَافِقِ
فَكَذَلِكَ أَقُولُ لَمَّا قَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ أَكْرَهُ الْقَبْضَ فِي الْفَرِيضَةِ تَرَكْته وَلَوْ كَانَ فِي الْمُوَطَّأِ وَالصَّحِيحَيْنِ الِاقْتِصَارُ عَلَى حَدِيثِ الْأَمْرِ بِهِ وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاَللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْت وَإِلَيْهِ أُنِيبُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الْحَبِيبِ وَعَلَى آلِهِ أَجْمَعِينَ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَبْغَضُ النَّاسِ إلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهْرِيقَ دَمَهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «أَتَرْعَوُنَّ عَنْ ذِكْرِ الْفَاجِرِ أَنْ تَذْكُرُوهُ فَاذْكُرُوهُ يَعْرِفْهُ النَّاسُ» رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «أَتَرْعَوُنَّ عَنْ ذِكْرِ الْفَاجِرِ مَتَى يَعْرِفُهُ النَّاسُ اُذْكُرُوا الْفَاجِرَ بِمَا فِيهِ يَحْذَرْهُ النَّاسُ» رَوَاهُ ابْنُ
أَبِي الدُّنْيَا وَالْحَكِيمُ وَالْحَاكِمِ وَالشِّيرَازِيُّ وَابْنِ عَدِيٍّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْخَطِيبُ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «أَخْسَرُ النَّاسِ صَفْقَةً رَجُلٌ أَخْلَقَ يَدَيْهِ فِي آمَالِهِ وَلَمْ تُسَاعِدْهُ الْأَيَّامُ عَلَى أُمْنِيَّتِهِ فَخَرَجَ مِنْ الدُّنْيَا بِغَيْرِ زَادٍ وَقَدِمَ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ» رَوَاهُ ابْنُ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي ثَلَاثًا زَلَّةُ عَالِمٍ وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ وَالتَّكْذِيبُ بِالْقَدَرِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ.
(مَا قَوْلُ أَهْلِ الْعِلْمِ الذَّابِّينَ عَنْ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ كُلَّ زَائِغٍ وَآفِكٍ) فِي رَجُلٍ ظَهَرَ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ إلَى نَاحِيَةِ الْمَغْرِبِ وَمَعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ يَنْزِلُونَ بِأَطْرَافِ الْبِلَادِ وَيَحُثُّونَ النَّاسَ عَلَى تَعْظِيمِ شَيْخِهِمْ وَالدُّخُولِ فِي طَرِيقَتِهِ وَيُبَالِغُونَ فِي الْأَدَبِ مَعَهُ زِيَادَةً عَمَّا يَفْعَلُهُ الْأَعْوَانُ مَعَ الْمُلُوكِ حَتَّى إنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ تَكَرُّرِ الِاسْتِئْذَانِ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ طَرِيقَ الْقَوْمِ كَذَلِكَ
ثُمَّ إنَّ الْوَافِدِينَ إلَيْهِ لَا يَشْهَدُونَ مَعَهُ صَلَاةً فِي جَمَاعَةٍ وَكُلَّمَا أَقَامَ بِبَلَدٍ وَطَالَتْ إقَامَتُهُ بِهَا لَا يَحْضُرُ جُمُعَةً وَلَا جَمَاعَةً وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَوْلًا وَكُلَّمَا أَتَتْهُ طَائِفَةٌ يَقُولُ لَهُمْ تَوَجَّهُوا إلَى فُلَانٍ يُعْطِكُمْ الْوِرْدَ فَيَكْتُبُ لَهُمْ ذِكْرًا مَخْصُوصًا بِبِطَاقَةٍ وَيَدْفَعُهَا إلَيْهِ، وَيَقُولُ لَهُ الْزَمْ مَقَامَك الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ جَابِيًا لِلْمُكُوسِ فَلَا يَنْهَاهُمْ عَنْ مُنْكَرٍ أَقَامُوا عَلَيْهِ وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ شَاذِلِيَّةٌ وَيَجْهَرُونَ بِالْبَسْمَلَةِ فِي الْفَرْضِ وَيَسْكُتُ الْإِمَامُ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ سَكْتَةً وَبَعْدَ الْفَاتِحَةِ سَكْتَةً طَوِيلَةً وَيُوجِبُونَ قِرَاءَةَ الْمَأْمُومِ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي الْجَهْرِيَّةِ وَيُطِيلُونَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ طُولًا يَخْرُجُ عَنْ الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ يُؤَدِّي إلَى افْتِتَانِ الْوَافِدِ عَلَيْهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ وَيَقْنُتُونَ جَهْرًا مَعَ رَفْعِ أَيْدِيهِمْ وَيَقُولُونَ فِطْرُ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنْ صَوْمِهِ فِيهِ وَيَجْمَعُونَ الصَّلَاةَ وَيُقْصِرُونَهَا حَالَ إقَامَتِهِمْ فِي بَلَدٍ فِي أَثْنَاءِ السَّفَرِ وَلَوْ طَالَتْ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مَالِكِيَّةٌ وَالْتَبَسَ الْأَمْرُ عَلَى الْعَوَامّ حَتَّى ظَنُّوا كُلَّ الظَّنِّ بِعُلَمَاءِ الْمَذْهَبِ الْكِتْمَانَ أَوْ الْجَهْلَ بِقَوَاعِد الْمَذْهَبِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَذِهِ هِيَ السُّنَّةُ الْوَارِدَةُ وَأَنَّ مَنْ خَالَفَهَا بِدْعِيٌّ وَبَعْضُهُمْ إذَا دَخَلَ الصَّلَاةَ يَصِيحُ وَلَا يُفِيقُ حَتَّى يُتِمَّ الْإِمَامُ صَلَاتَهُ وَيُصَلُّونَ بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِدِ فُرُوضًا وَيَقُولُونَ لَا يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ إلَّا نَاقِضُ الْوُضُوءِ وَيُوجِبُونَ جَمِيعَ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ وَغَالِبُ أَتْبَاعِهِ الْأُمَرَاءُ وَالْوُجَهَاءُ وَأَعْوَانُهُمْ وَلَا يَنْزِلُونَ إلَّا عَلَى مَشَايِخِ الْعُرْبَانِ وَمَنْ تَحَقَّقَ تَحْرِيمَ مَالِهِ وَاسْتِغْرَاقَ ذِمَّتِهِ وَيَأْكُلُونَ وَيَتَزَوَّدُونَ مِمَّا بِأَيْدِيهِمْ وَمَنْ تَعَفَّفَ عَنْ ذَلِكَ يَقُولُونَ لَهُ إنَّك لَمْ تَبْلُغْ مَا بَلَغَ الشَّيْخُ وَأَتْبَاعُهُ
فَيَا عُلَمَاءَ الْإِسْلَامِ قَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْكُمْ بَيَانَ الْحَقِّ وَإِيضَاحَ الشَّرِيعَةِ وَالرَّدَّ عَلَى كُلِّ آفِكٍ مُغْتَرٍّ فَبَيِّنُوا لَنَا مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الطَّرِيقَةِ وَالْإِمَامُ مَالِكٍ وَلَا تَسْتَدِلُّوا لَنَا إلَّا بِمَشْهُورِهِ وَخَاطِبُوا بِذَلِكَ الْأُمَرَاءَ
وَالْعَامَّةَ وَأَوْجِزُوا فِي الْجَوَابِ، فَلَعَلَّ اللَّهَ بِأَنْفَاسِكُمْ يُلْهِمُ لِطَرِيقِ الصَّوَابِ بِجَاهِ النَّبِيِّ الْأَوَّابِ صلى الله عليه وسلم.
فَأَجَابَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ مُصْطَفَى الْبُولَاقِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رَحْمَةً وَاسِعَةً - بِقَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ هَذَا التَّحَجُّبُ الْمَذْكُورُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ شَأْنُ جَبَابِرَةِ الظَّلَمَةِ وَدَعْوَى أَنَّ طَرِيقَةَ الصُّوفِيَّةِ هَكَذَا كَذِبٌ عَلَيْهِمْ وَافْتِرَاءٌ إنَّمَا طَرِيقُ الْقَوْمِ كَمَالُ الْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمُجَاهَدَةُ النُّفُوسِ فِي التَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِهِ الشَّرِيفَةِ وَقَدْ كَانَ سَيِّدُ الْمُتَوَاضِعِينَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - يَصِلُ إلَيْهِ كُلُّ مَنْ أَرَادَ الْوُصُولَ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ حَتَّى الْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ وَيَجْلِسُ مَعَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَإِنْكَارُ هَذَا الْأَمْرِ عِنَادٌ وَطَرِيقُ الْقَوْمِ لَا تَخْرُجُ عَنْ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ وَلَوْ خَرَجُوا لَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ مُتَابَعَتُهُمْ وَمَا الْإِسْلَامُ إلَّا كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ وَكُلُّ مَا خَالَفَ ذَلِكَ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ
وَصَلَاةُ الْجَمَاعَةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ بَلْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِوُجُوبِهَا فَعَدَمُ مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ أَعْظَمُ مَا يُقْدَحُ بِهِ فِي كَوْنِهِ صُوفِيًّا وَعَدَمُ حُضُورِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهُوَ مُقِيمٌ فِي الْبَلَدِ الْإِقَامَةَ الطَّوِيلَةَ فُسُوقٌ وَمَاذَا عَلَيْهِ مِنْ الضَّرَرِ لَوْ حَضَرَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ مَعَ النَّاسِ مَا هَذَا إلَّا حِرْمَانٌ مِنْ الْخَيْرِ وَسُقُوطٌ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إنَّهُمْ هُمْ الْكَاذِبُونَ وَأَمْرُ عَوَامِّ النَّاسِ بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ، إذْ مُرَادُهُ تَرْكُ الْمَذَاهِبِ الْمُتَّبِعَةِ وَأَخَذَ الْأَحْكَامِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَهَذَا ضَلَالٌ وَالْأَمْرُ بِهِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى الْجَهْلِ إذْ مِنْ الْمَعْلُومِ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنَّ النُّصُوصَ مِنْهَا الْمَنْسُوخُ وَمِنْهَا الْمَرْدُودُ لِطَعْنٍ فِي رُوَاتِهِ وَمِنْهَا مَا عَارَضَهُ أَقْوَى مِنْهُ فَتُرِكَ وَمِنْهَا الْمُطْلَقُ فِي مَحَلٍّ وَقَدْ قُيِّدَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ، وَمِنْهَا الْمَصْرُوفُ عَنْ ظَاهِرِهِ لِأَمْرٍ اقْتَضَى ذَلِكَ وَمِنْهَا وَمِنْهَا وَلَا يُحَقِّقُ ذَلِكَ إلَّا الْأَئِمَّةُ الْمُجْتَهِدُونَ وَأَعْظَمُ مَا حُرِّرَ مِنْ مَذَاهِبِ الْمُجْتَهِدِينَ مَذَاهِبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْمُتَّبِعِينَ لِكَثْرَةِ الْمُحَقِّقِينَ فِيهَا مَعَ سَعَةِ الِاطِّلَاعِ وَطُولِ الْبَاعِ فَالْخُرُوجُ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ ضَلَالٌ وَالْأَمْرُ بِهِ جَهْلٌ وَعِصْيَانٌ
وَوَاجِبٌ تَقْلِيدُ حَبْرٍ مِنْهُمْ
وَالْأَمْرُ لِكُلِّ أَحَدٍ بِطَرِيقِ الْقَوْمِ خُرُوجٌ عَنْ مَنْهَجِ السَّادَةِ إذْ لَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِ الْعَقَائِدِ أَوَّلًا ثُمَّ تَعَلُّمُ مَا يَجِبُ تَعَلُّمُهُ مِنْ ظَوَاهِرِ الشَّرْعِ ثُمَّ مَنْ طَلَبَ الطَّرِيقَ وَكَانَ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ لِذَلِكَ أُخِذَ عَلَيْهِ الْعَهْدُ وَإِلَّا فَلَا وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الرَّجُلَ جَاهِلٌ بِظَوَاهِر الشَّرْعِ فَضْلًا عَنْ الطَّرِيقِ وَمَنْ هَذِهِ حَالَتُهُ يُحْرَمُ الْوَفَاءَ بِعَهْدِهِ لِأَنَّهُ كَأَخْذِ الدَّوَاءِ مِنْ غَيْرِ طَبِيبٍ فَرُبَّمَا سَعَى الْإِنْسَانُ فِي هَلَاكِ نَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ.
وَقَوْلُ مُعْطِي الْوَرْدِ الْزَمْ مَقَامَك وَلَوْ كَانَ مَعْصِيَةً وَعَدَمُ اسْتِنَابَتِهِ وَعَدَمُ نَهْيِهِ عَنْ الْمُنْكَرِ حَرَامٌ وَفَاعِلُهُ مَلْعُونٌ فِي كُلِّ مِلَّةٍ
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة: 78]{كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79] وَالْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ وَالسُّكُوتُ قَبْلَ الْفَاتِحَةِ وَبَعْدَهَا وَإِيجَابُ الْقِرَاءَةِ لِلْفَاتِحَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ وَإِطَالَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَالْجَهْرُ بِالْقُنُوتِ وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ فِيهِ كُلُّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمَا فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ الَّتِي بِأَيْدِينَا فَمَنْ نَسَبَهَا إلَيْهَا فَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ وَتَفْضِيلُ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ غَنِيٌّ عَنْ الرَّدِّ لِمُخَالَفَتِهِ لِنَصِّ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ وَكَأَنَّ شُبْهَتَهُمْ فِيهِ حَدِيثُ «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» وَالْأَئِمَّةُ حَمَلُوهُ عَلَى مَنْ يَضُرُّهُ الصَّوْمُ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ لِجَهْلِهِمْ لَمْ يُحْسِنُوا التَّصَرُّفَ فِي الْأَدِلَّةِ فَخَالَفُوا مَا عَلَيْهِ النَّاسُ وَقَصْرُهُمْ الصَّلَاةَ فِي حَالِ الْإِقَامَةِ إنْ كَانَ مَعَ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ صِحَاحٍ أَوْ الْعِلْمُ بِهَا عَادَةً مُخَالِفٌ لِنُصُوصِ الْمَذْهَبِ وَصَلَاتُهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بَاطِلَةٌ وَزَعْمُهُمْ أَنَّهُمْ مَالِكِيَّةٌ مَعَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمُخَالِفَةِ لِنُصُوصِ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَمْرٌ يُكَذِّبُهُ الْعِيَانُ وَلَيْسَ بَعْدَ الْعِيَانِ بَيَانٌ وَعُلَمَاءُ الْمَذْهَبِ لَمْ يَكْتُمُوا شَيْئًا مِنْ النُّصُوصِ وَلَا جَهِلُوهُ وَمَنْ ظَنَّ بِهِمْ هَذَا الظَّنَّ وَجَبَتْ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ لِأَنَّهُ ظَنُّ سُوءٍ بِعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَدَعْوَاهُمْ هِيَ أَنَّ أَفْعَالَهُمْ هِيَ السُّنَّةُ وَأَنَّ خِلَافَهَا بِدْعَةٌ كَذِبٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ بَاطِلٌ وَالْإِمَامُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَعْلَمُ النَّاسِ بِالسُّنَّةِ وَأَهْلُ مَذْهَبِهِ أَشَدُّ النَّاسِ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ، وَأَفْعَالُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مُخَالِفَةٌ لِمَا عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَكُتُبُهُمْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرَةٌ وَنُصُوصُهُمْ فِي رَدِّ هَذِهِ الْأَفْعَالِ صَرِيحَةٌ وَمَنْ أَحَبَّ فَلْيُرَاجِعْ
وَصِيَاحُ بَعْضِهِمْ عِنْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ تَلَاعُبٌ مِنْ الشَّيْطَانِ وَصَلَاةُ فَرْضَيْنِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَإِيجَابُ جَمِيعِ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ وَكَوْنُ غَالِبِ أَتْبَاعِ هَذَا الرَّجُلِ أَكَابِرَ النَّاسِ وَأَهْلَ الدُّنْيَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَلْبٌ مِنْ كِلَابِ الدُّنْيَا كَاذِبٌ فِي دَعْوَى التَّصَوُّفِ لِأَنَّ غَالِبَ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ إنَّمَا هُمْ فُقَرَاءُ النَّاسِ وَضُعَفَاؤُهُمْ وَأَكْلُ الْمَالِ الْخَبِيثِ مَعْصِيَةٌ وَالِاحْتِجَاجُ عَلَى الْمُتَعَفِّفِ بِهَذَا الشَّيْخِ وَأَتْبَاعِهِ أَمْرٌ نَاشِئٌ عَنْ شِدَّةِ الْجَهْلِ وَالِاحْتِجَاجُ إنَّمَا يَكُونُ بِالنُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ لَا بِفِعْلِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَبِالْجُمْلَةِ فَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ وَإِنَّمَا هُمْ طُلَّابُ دُنْيَا وَفَعَلُوا هَذِهِ الْمُخَالَفَاتِ لِيَتَمَيَّزُوا بِهَا وَيَعْرِفُوا أَوَّلِيَّتَهُمْ إذْ ضَلُّوا تَرَكُوا النَّاسَ يَشْتَغِلُونَ بِمَذَاهِبِهِمْ وَلَمْ يُضِلُّوهُمْ بِكَذِبِهِمْ عَلَى الْمَذَاهِبِ بَلْ ضَلُّوا وَأَضَلُّوا فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ أَرَادَ السَّلَامَةَ بِدِينِهِ وَالنَّجَاةَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَتَبَاعَدَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَشَدَّ التَّبَاعُدِ.
وَمَعْلُومٌ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنَّ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ قَدْ انْقَطَعَتْ مُنْذُ أَزْمَانٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ أَحَدٌ مِنْ الَّذِينَ بَلَغُوا دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ وَمَنْ تَوَهَّمَ ذَلِكَ فَقَدْ ضَحِكَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ وَلَعِبَ بِهِ الشَّيْطَانُ وَعَلَى فَرْضِ الْوُجُودِ هَلْ يَعْتَقِدُ عَاقِلٌ أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ حَتَّى يَتَّبِعَ وَيَتْرُكَ مَا عَلَيْهِ الْأَوَائِلُ وَالْوَاجِبُ عَلَى